الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، يختص برحمته من يشاء، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضَّل هذه الأمة بالتراحم فيما بينها، فيستغفر اللاحقون للسابقين، على-حين كانت الأممُ الجاهلية قبلهم يلعن بعضُهم بعضًا؟ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوحى إليه ربُّه أفضليةَ قرنِه، وشهد لصحابته بالخيرية على من سواهم، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أيها المسلمون! ويقول القاضي رياض يرحمه الله عن ميزة الصحابة:
«وفضيلةُ الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عملٌ، ولا تنال درجتُها بشيء، والفضائل لا تؤخذُ بالقياس» (1).
أما عمَّا شجر بينهم، فيقول الذهبي يرحمه الله: «كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم، وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثَر ذلك منقطع وضعيف، وبعضُه كذبٌ .. فينبغي طيُّه وإخفاؤه، بل إعدامُه، لتصفوا القلوب، وتتوفرَ على حبِّ الصحابة والترضي عنهم، وكتمانُ ذلك متعينٌ عن العامة وآحاد العلماء ..
إلى أن يقول: فأما ما تنقله الرافضةُ وأهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نُعرِّج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطلٌ وكذبٌ وافتراء، فدأب الروافض روايةُ الأباطيل، أوردُّ ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقةُ من به سُكران» (2).
(1) شرح مسلم 16/ 93.
(2)
سير أعلام النبلاء 10/ 93، 92.
هذه معاشر المسلمين مقتطفات عاجلةٌ من معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة، وتلك قناعات ومنطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين، ولا تتأثر بتشكيك المشككين.! !
وإذا كانت أعراض المسلمين- بشكل عام- مصونةً في الإسلام، فأعراض الصحابة وهم أهل الفضل والسابقةِ والجهاد أولى بالصيانة والدفاع قُربة لله عز وجل، وتقديرًا لمآثرهم وجهادهم. وقد نص العلماء قديمًا على تحريم سبِّ الصحابة، وأرشدوا إلى عقوبات تعزيريةٍ لمن فعل ذلك معهم.
قال الإمام النووي يرحمه الله: واعلم أن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواءٌ من لابس الفتن منهم وغيره» (1).
وقال الإمام أحمد: إنه يجب على السلطانِ تأديبه وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه» (2).
واعتبر القاضي عياض تعزيرَ من سب الصحابة مذهبَ الجمهور» (3).
بل نقل عن بعض المالكية؛ أنه يُقتل. وحكم الإمام أحمدُ يرحمه الله على نوعية الطاعنين في الصحابة فقال: فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدًا منهم، أو تنقصه أو طعن عليه أو عرض بعيبهم أو عاب أحدً منهم فهو مبتدع رافضي.
أيها المسلمون! لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة؟ ولماذا الدفاع عنهم؟ لأن هناك مكمنَ خطرٍ في سبِّهم أو التعريض بهم وعدالتهم، فهم نقلةُ الدين،
(1) النووي: شرح مسلم 16/ 93.
(2)
رسالة السنة ص 78، وانظر: السلمي، في منهج كتابة التاريخ إلإسلامي ص 219.
(3)
شرح مسلم 16/ 93.
والطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين.
وهذا ما نبه إليه الإمام أبو زرعة الرازي يرحمه الله حين قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقة (1).
عباد الله! لابد من التنبه لمثل هذه الأفكار المتسللة، التي تحاول بين الفينة والأخرى الطعنَ في أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت بعبارات صريحة أو ملفوفة، أو استخدمت أسلوب التشكيك في وجود هذا الصحابي وأسطوريته، فتلك رغم ما فيها من جُرأةٍ تحطم الحجبِ الواقيةَ لهذا التاريخ المجيد، الذي أجمعت عليه الأمة، هو كذلك إشغالٌ للأمة بقضايا جانبية، لا يحتمله تاريخُ الأمة المثقلُ بكثير من القضايا والهموم، ليس اجتماع الكيد الصليبي مع التطرف اليهودي على العبث بمقدسات المسلمين ومحاصرةِ وتجويع أبنائهم إلا واحدةً من هذه القضايا المؤلمة، التي تحتاج من المسلمين إلى عملٍ دؤوب وصدق في اللقاء، يدفع الله به كيدَ الكائدين.
وإذا قُدر لهذه القضايا أن تبحث فينبغي أن يوسدَ الأمر إلى أهله، وأن يتوفرَ على ذلك علماءٌ متمكنون في علمهم صادقون في توجههم، برآءُ من أي تهمةٍ في سلامة معتقدِهم، وأن يكون على مستوى الخاصة، وألا تفتنَ به العامةُ، وألا تكون قضيةً مطروحةً للمزاد، يعرف فيها من لا يعرف، ويظن الجاهل أن من حقه أن يوافق أو يخالف .. وليت شعري كم تنطق الرويبضةُ! ويتصدر السفهاء
(1) الكفاية في علم الرواية ص 97.
إذا غاب عن الساحة صوتُ العلماء، أو توارى خلفَ الحجبِ رأيُ النبلاء .. ومع ذلك فالزبد سيذهبُ جفاء، ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، وكذلك اقتضت حكمةُ الله في الصراع بينَ الحق والباطل قديمًا وحديثًا، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينحاز الصادقون، وينكشف- ولو بعد حين- الكاذبون، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.