الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين أجزل المثوبة لأهل الإيمان، وحكم بعدله وقضائه بالخيبة والخسران لأهل الكفر والطغيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه النجدين .. فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآيات الله يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وما قبضه الله حتى ترك الأمة على محجة بيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك .. ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ويرزقه العمل والاستعداد ليوم الدين، اللهم صل عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين.
أيها الناس يشهد الناسُ مصداق كتاب الله في واقع الحياة إذ يرون فقيرًا مدقعًا، أو مريضًا، أو مبتلى من أهل الإيمان ولكن حياته أنسٌ وطمأنينة ورضا وصبر وشكر، قانع بما آتاه الله، راضٍ بما قسم له، صابرٌ على ما أصابه.
ويرون ذا نعمةٍ موسرًا معافى ولكن الهموم تتناوشه، والأمراض النفسية تحيط به، ذلكم لقلة الشكر والذكر عند هؤلاء، وفي القرآن إشارة إلى غلبة التكذيب والبطر عند أهل النعمة:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} (1).
{كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (2).
وجاءت إشارات القرآن كذلك إلى ربط الرضى والصبر والشكر عند أهل
(1) سورة المزمل، آية:11.
(2)
سورة العلق، الىيات: 6 - 8.
أخوة الإيمان هنا أتوقف عند ذكر الرحمة في هذه الآية إثر ما ابتلى الله به نبيه أيوب عليه السلام، حتى امتدحه الله بالصبر عليها في آية أخرى فقال:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (2).
وأقول إن القلة من الناس من يرى رحمة الله بعباده من خلال ابتلائهم بأنواع البلوى، ولذا قال العارفون: إن من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعُه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبدَ لجهله وظلمه يتهمُّ ربَّه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه وقد جاء في الأثر: أن المُبتلى إذا دُعي له: اللهم ارحمه يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟
وفي أثر آخر: إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمي أحدُكم مريضه.
فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه.
ومن رحمته سبحانه بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمةً وحميةً، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلًا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجوادُ الكريم، ومن رحمته أن نغَّص عليهم الدنيا وكدَّرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى
(1) سورة الأنبياء، الآيتان: 83، 84.
(2)
سورة ص، الآية:44.
ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعظهم وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، كما قال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} كما قال غير واحدٍ من السلف «من رأفته بالعباد حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به» (1).
أيها المسلمون ألا إن الذين يشهدون هذه المشاهد ويشعرون بهذه المشاعر هم المؤمنون حقًا، فهم يأنسون بذكر الله، ويشكرون أنعمه، ويصبرون محتسبين على أقداره وأولئك أهلُ الإيمان، وأصحاب الطمأنينة، وعنهم قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2).
اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما غيرهم فيتأفف لكل نازلة، ويضيق بأي بلوى تصيبه إعراضه عن الله دائم، ونعم الله عليه تتوالى، فلا هو على النعم شكر، ولا عن التضجر عن مصائب الدنيا ازدجر، أولئك يعيشون حياة الضنك في الدنيا، ويحشرون يوم القيامة على وجوههم عميًا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (3).
وعلى قدر البعد عن الله ونسيان آياته، والإعراض عن ذكره يكون الضنك في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
يا أهل الإيمان اعرفوا ربَّكم- بأسمائه وصفاته- حق المعرفة، وقدروا نعمة
(1) ابن القيم، إغاثة اللهفان 2/ 252، 253.
(2)
سورة الرعد، آية:28.
(3)
سورة طه، الآيات: 124 - 126.
الإيمان، واشكروه على نعمةِ الإسلام، وتحلوا بآداب الإسلام وقيمه، وقدموها للناس بسلوككم راضين مطمئنين شاكرين، ذاكرين، متطلعين إلى دار البقاء، متجافين عن دار الغرور، ألا فأكثروا من زاد التقوى فالسفر طويل، وخففوا أحمال السيئات فالعقبة كؤود. وأخلصوا العمل فالناقد بصير، وتفقدوا قلوبكم بالإيمان {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1).
إلا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب .. اللهم أصلح فساد قلوبنا، وردنا والمسلمين إليك ردًا جميلًا.
(1) سورة التغابن، آية:11.