الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العناية بالقرآن
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خص هذه الأمة بأفضل كتبه، وخاتم أنبيائه ورسله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
أيها المسلمون: كتاب الله طريق للتقوى وسبيلٌ لمحبة الله تعالى، وهو يهدي للتي هي أقوم هو- كما وصفه عليٌّ رضي الله عنه: (الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يُضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى، ونقصان من عمى .. إلى أن يقول: واعلموا أنه شافعٌ ومُشفع، وقائلٌ ومصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفع فيه، فإنه
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/ 3/ 1419 هـ.
(2)
سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.
(3)
سورة المائدة، آية:35.
ينادي منادٍ يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حَرَثة القرآن).
عباد الله وفي هذا الزمان يكثر في المسلمين هجرةُ القرآن إما حسًا أو معنى .. أو كليهما .. إذ لا يقيمون وزنًا لتلاوته ولا يتدبرون آياته ..
ولا يعملون بتوجيهاته، ولا ينتهون عند حدوده ومحارمه .. حتى وإن قبلوه عند التلاوة .. أو رفعوه في أمكنة علية، أو ابتدأوا به في مناسباتهم العامة، أو قرؤوه على موتاهم!
ويوجد في المسلمين أيضًا من يحفظون كتاب الله، ويكثرون تلاوته .. ولكن يقل فيهم المتأدب بآدابه، والمستشعر لفضل الله ونعمته عليه به، ويقل فيهم العامل به، ويكاد يصدق في المسلمين اليوم مقولة ابن عمر رضي الله عنهما وهو يقارن بين السلف والخلف في العمل بالقرآن يقول: إذ كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به (2).
أخوة الإسلام لقد استشعر السابقون من أهل الإيمان والتقى قدر القرآن، وعنهم قال الحسن بن علي رضي الله عنهما:«إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويعتقدونها في النهار» (3).
(1) أحكام القرآن، الكيل الهراسي 1/ 6.
(2)
القرطبي. الجامع لأحكام القرآن 1/ 40.
(3)
التبيان في آداب حملة القرآن، النووي 28.
واعتبر من بعدهم تلاوة القرآن شرفًا وكرامة، حتى قال ابن الصلاح - يرحمه الله- قراءةُ القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أنَّ الملائكة لم يعطوا ذلك وإنها حريصة على استماعه من الإنس (1).
وليس يخفى أن أهل القرآن هم خيارُ الأمة .. بل هم أهلُ الله وخاصته، ففي قوله تعالى:«كنتم خير أمة أخرجت للناس» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» . وقوله في حديث آخر: «إن لله عز وجل أهلين من الناس» ، قيل من هم يا رسول الله؟ قال:«أهل القرآن هم أهل الله وخاصته» (2). في هذا كله ما يؤكد أن أهل القرآن خيارٌ من خيارٍ، وأنهم خاصة الخاصة.
يا حامل القرآن أخلص في حمله، واعمل بما فيه، وأبشر بالخير والمثوبة عاجلًا وآجلًا، وردد، وقف، وتمعن قوله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (4) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله ودونك هذا الحديث- وما فيه من فضائل وكرامةٍ لصاحب القرآن- فقد روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، حديثًا وإن كان فيه ضعف فيحتمل التحسين- كما قال بعض أهل العلم عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ القرآن يلقى
(1) الإتقان، للسيوطي 1/ 29.
(2)
رواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح (صحيح سنن ابن ماجه 178).
(3)
مختصر منهاج القاصدين 45.
(4)
سورة يونس، آية:58.
صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كلَّ تاجرٍ وراء تجارته، وإني لك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حليتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال بأخذ ولدكما القرآن، ثم يُقال اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها، فهو في صعود ما كان يقرأ هذا كان أو ترتيلًا» (1).
أيها المسلمون: كما يكرم ذو الشيبة المسلم، وذو السلطان المقسط .. فكذلك ينبغي أن يكرم حامل القرآن .. فذلك من إجلال الله.
فقد صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» (2).
عباد الله ما أضاع وقته من صرفه لحفظ القرآن أو تدبره أو أكثر من تلاوته، وما مرض قلبٌ عاش مع القرآن، وبم يترنمُّ من لم يتغَنَّ بالقرآن .. وبم يناجي ربه من لم يكن معه شيء من القرآن .. ألا وإن الذي ليس معه شيء من القرآن كالبيت الخرب .. وما هزمت أمة كان دستورها القرآن وما خاف الأعداء من شيء كخوفهم من القرآن، وما أقض مضاجعهم أكثر من عودة المسلمين للقرآن.
أيها المسلمون: عظموا كتاب ربكم واستشفوا به من أدوائكم، واطلبوا النصر به على أعدائكم، وميزوا به بين أعدائكم وأصدقائكم .. تأدبوا بآداب
(1) صحيح سنن ابن ماجه (3048)، وأحمد (348).
(2)
صحيح سنن أبي داود (4053) 3/ 918.
تلاوته ويرحم اللهُ أقوامًا كانوا إذا تثاءبوا وهم يقرؤون كتاب الله أمسكوا عن القرآن تعظيمًا له حتى يذهب عنهم التثاؤب، كما قال مجاهد يرحمه الله (1) وأنى لقوم تلك همهم وآدابهم أن يتشاغلوا حين تلاوته .. أو ينشغلوا عن تلاوته وتدبره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (2). نفعني الله وإياكم.
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1/ 27.
(2)
سورة فاطر، الآيتان: 29، 30.