الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى وهو العزيز الحكيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله، ورضي عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
إخوة الإيمان لا ينتهي الإعجاز الإلهي في خلق النطفة وتكوينها وتسويتها، بل تتكاثر هذه النطفة حتى ينشأ عنها الأنساب والأصهار، فهو في بداية أمره ولدٌ نسيب، ثم يتزوج فيصيُر صهرًا، ثم يصيرُ له أصهارٌ وأختانٌ وقرابات وكل ذلك من ماء مهين، ودليلٌ على قدرة رب العالمين، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (1).
وسرٌّ آخر أن هذه النطفة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة حين استقرارها في الرحم تحمل معها مواصفات وموروثات الجنين بعد.
أما السرُّ الثالث فهو أن هذا الجنين يعيش ويتشكل في ظلمات ثلاث ظلمةِ البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، كما قال تعالى:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (2).
والله تعالى وحده يتولى رعايتها، ويهيئ لها غذاءها، والظروف المناسبة لنموها، ثم بقدرته بعدُ يتولى إخراجها بعد اكتمال قواها وقدرتها على العيش
(1) سورة الفرقان، آية:54.
(2)
سورة الزمر، آية:6.
خارج هذا الجوِّ الذي ألفته .. فتبارك اللهُ الخالق، ونعم القادر المقدر، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} .
إخوة الإسلام في نهاية الحديث لفتة ووقفة عند حسن الخاتمة أو سوئها، والثبات على الحقِّ إلى الممات أو الزيغ عنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور، والضلالة بعد الهدى، فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باعٍ أو ذراعٍ فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غيرُ ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
قال ابن أبي حمزة- يرحمه الله-: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يُختم لهم (1). ترى من منا تُخيفه نهاية هذا الحديث فيظل دائبًا في عمل الصالحات خائفًا من الزيغ قبل الممات. سائلًا ربه دائمًا حسن الختام، والخوف والمصيبة حين يقل عملنا ويقل خوفنا، وحين ندعو «اللهم أحسن خاتمتنا» فهل ترانا نستحضر، ما جاء في نهاية هذا الحديث؟
وما أحرانا أن نتأمل ما جاء في الرواية الأخرى من حديث أنس عند أحمد وصححه ابنُ حبان بلفظ «لا عليكم أن لا تُعجبوا بعمل أحدٍ حتى تنظروا بم يُختم له، فإن العامل يعمل زمانًا من عمره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملًا سيئًا .. » الحديث (2).
إخوة الإيمان في الحديث تذكيرٌ وتأكيدٌ على الإيمان بالقضاء والقدر وهو أحد الأركان الستة للإيمان فلا يتم إيمان العبد إلا به، وهو التسليم والرضا
(1) الفتح 11/ 488.
(2)
الفتح 11/ 487، 488.
لأقدار الله على العبد، وفي الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعًا:«إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» (1).
وكيف يجزع المرءُ ويتسخط من شيء قد كتبه الله عليه سلفًا وهو في بطن أمه، ولكن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض مع فعل الأسباب المشروعة ولا ينبغي أن يقعد بالإنسان عن العمل. فهذه كذلك من أقدار الله والعبدُ مأمورٌ بفعلها، ولهذا فحين سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فائدة العمل مع تقدم القدر أجابهم بقوله:«اعملوا فكل ميسر لما خلق له» فقد أخرج البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عودٌ ينكتُ به في الأرض فنكس وقال: «ما منكم من أحد إلا قد كُتب مقعده من النار أو من الجنة» ، فقال رجلٌ من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر» ، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية (2).
وفي هذا الحديث وأمثاله ردٌّ على شُبه القدرية الذين يتعلقون بالقدر ويتركون العمل، أو الجبرية الذي يقولون أن الإنسان مجبر على ما يقوم به ولا خيار له ولا مشيئة، ومذهب أهل السنة والجماعة أن كلَّ ما تحدث في الوجود بقضاء الله وقدره، ولكنهم يثبتون للعبد مشيئةً وإرادة بها يتجه للخير أو للشر، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاءُ اللَّهُ} .
وخلاصة هذه النظرة عبَّر عنها العلماء بقولهم: «إن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيَّب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامةً على ما
(1) الفتح 11/ 490.
(2)
ح 6605، الفتح 11/ 494.
سبق في مشيئته فما عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سرٌّ من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ» (1).
(1) الفتح 11/ 498.