الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين كتب على ابن آدم حظَّه من السعادة والشقاء والفقر والغنى فهو مدرك ذلك لا محالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يشاءُ ويختار وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه كان أعظمَ الناس مسؤولية وأحسنَهم خُلُقًا اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد إخوة الإسلام فإذا اهتم أقوامٌ لشيء من محقراتِ الدنيا فاتتهم، أو حزن آخرون على مرتبةٍ من مراتب هذه الحياة لم ينالوها، أو بات القلقُ منكدًا لحياة فئامٍ من الناس وقد لا يحددون مصدرَه، فثمة فئةُ أخرى تُعد من خواصِ الناس ونبلائهم تحزنُ على تفريطها وتقصيرها في خدمة ربِّها وعبوديته، أو تحزنُ على تورطها في مخالفته ومعصيته وضياع الأيام والأوقات، وهذا دليلٌ على صحة الإيمان في القلب وكلما كان القلبُ أشدَّ حياةً كان شعورُه بهذا الألم أقوى .. ولكن الحزنَ وحده لا يجدي عليه بل يُضِعفه، والذي ينفعُه أن يستقبلَ السيرَ، ويجدَّ، ويُشمر، ويبذل جهده.
وأخصُ من هؤلاء من يحزن على جزءٍ من أجزاءِ قلبِه، كيف هو خالٍ من محبة الله، وعلى جزءٍ من أجزاء بدنِه كيف هو منصرفٌ في غيرِ محابِّ الله (1).
أيها الإخوة المؤمنون، إذا عرفتم الحزن المذموم، والممدوحَ فكيف يُدفع الحزن، وكيف يتحولُ إلى عملٍ مثمر ويتجاوزُ صاحبُه السلبية والقلق؟
يقول الإمامُ ابن القيمِ رحمه الله وهو يذكر حزنَ الخواصِ من الناس والتي سبقت الإشارةُ إلى شيء منها: «فهذه المراتبُ من الحزن لابد منها في الطريق، ولكن الكيسَ لا يدعُها تَملكُه وتُقعده، بل يجعلُ عوضَ فكرتِه فيها فكرتَه فيما يدفعها
(1) ابن القيم: طريق الهجرتين ص 504. 505.
به، فإن المكروهَ إذا ورد على النفسِ فإن كانت صغيرةً اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله عن الفكرةِ في الأسباب التي يدفعها به فأورثها الحزن، وإن كانت نفسًا كبيرةً شريفةً لم تُفكِّر فيه، بل تصرفُ فكرِها إلى ما ينفعها فإن علمتْ منه مخرجًا فكَّرت في طريق ذلك المخرجِ وأسبابهِ وإن علمت أنه لا مخرج منه فكرت في عبوديةِ اللهِ فيه وكان ذلك عوضًا لها من الحزن.
عبادَ الله وإذا كان هذا مخرجًا عمليًا من الأحزانِ، فثمة مقدمةٌ وأساس لهذا المخرج لابد من توفره، وبه يُعان المرءُ على تجاوز أحزانه ألا وهو معرفةُ الله بأسمائه وصفاتِه، والتوكلُ عليه، وحده، وعدمُ قطعِ حبلِ الرجاءِ معه، قال بعضُ العارفين: معرفةُ اللهِ جَلَا نورُها كلَّ ظلمة، وكشف سرورُها كلَّ غمة» فإن من عرف اللهَ أحبَّه ولابد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائبُ الظلمات وانكشفت عن قلبه الهمومُ والغمومُ والأحزان، وعَمرَ قلبهُ بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفودُ
التهاني والبشائرِ من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا -مهما ادلهمت الخطوب، واشتد الخصوم.
أليس خيرُ البرية يقول لصاحبه «لا تحزن إن الله معنا» .
والكفار يطاردون محمدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه حتى يقفوا على فمِّ الغار الذي يختفي فيه وحينها يقول أبو بكر رضي الله عنه: «والله لو نظر أحدهم إلى موضوع قدميه لأبصرنا» فيرد عليه {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).
ويوسف عليه السلام يؤذى من أقرب الناس إليه، ويُباع ويشترى بأبخس الأثمان وهو الكريمُ ابنُ الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ثم يُؤذى في عِرضه وتلحقه التهمة
(1) سورة التوبة، آية:40.
وهي البريءُ العفيفُ الطاهر، ويُصر الملأ على سجنه من بعد ما رأوا الآيات حتى لا تنفضح امرأة العزيز، ويأسف أبوه لحاله ويقول:{يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} ، ومع مكوثه في السجن بضع سنين يظل صابرً محتسبًا، بل ويظل خيِّرًا صادقًا داخلَ السجن كما كان خارجه ويعترف له من بالسجن بالصلاح والتقى وفضلِ العلم والهدى وينادى بـ «أيها الصديق» ، ولا يمنعهُم سجنُه أن يستفتوه فيما أشكل عليهم حين أراد اللهُ براءته وإخراجه من السجن على الملأ، بل لقد ظل عليه السلام داعيًا إلى الله، لم تقعد به الأحزان أو تقطعه الهمومُ عن مواصلة السير إلى الله:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (1).
وهكذا فمن تأمل حياة الأنبياء أو حياة أتباعهم من المجاهدين الصادقين لم يجد للحزن واليأس في قلوبهم طريقًا مع شدة البلوى وعظيم المُصاب.
إخوة الإسلام، وهاكم مخرجًا ثالثًا شرعيًا من مخارج الهم والغم أرشد إليه المصطفى صص بكلمات نافعة، حين دخلَ المسجدَ ذات يومٍ، فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له أبو أمامة- جالسًا فيه- فقال:«يا أبا أمامة: ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت صلاةٍ؟ قال: همومٌ لزمتني، وديونٌ يا رسول الله، قال: ألا أعلمك كلامًا إذا قلتها أذهب الله عز وجل همَّك وقضى عنك دينك؟ فقال: بلى يا رسولَ الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، فقلت ذلك فأذهب اللهُ همي وقضى عني ديني» (2).
(1) سورة يوسف، آية:39.
(2)
أخرجه أبو داود وهو حديث حسن (جامع الأصول 4/ 295، 296).
وفي رواية عند النسائي: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعواتٌ لا يَدَعَهُن، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل .. » الحديث (1).
يا أخا الإسلام وهاك دعاءً آخر خاصًا بإذهاب الهمِّ والحزن، قال عليه الصلاة والسلام:«ما أصاب عبدً همٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمتِك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألكُ اللهم بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنَه وهمَّه، وأبدله مكانه فرحًا» (2).
أفيعجزك يا أخا الإسلام إذا نزل بك همٌ أو حزن لذاتِ نفسك أو لقضايا المسلمين من حولك أن ترفع يديك إلى السماء، وتدعو دعاءَ المضطر، الواثقِ بالإجابة، وبهذه الأدعية وسواها .. ؟
وخلاصةُ القولِ فلا تشغلْك همومُ الدنيا عن السير إلى الله والاهتمامِ بمنازل الآخرة، ولا يقعد بك الحزنُ علىَ مصائب المسلمين عن العمل والدعوةِ لدين الله، وكن بالله عارفًا، وعليه متوكلًا، وبنصره وتفريجه للكربات واثقًا .. فإن مع العسير يسرًا، إن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسرٌ يسرين.
اللهم اهدنا ووفقنا لليسرى، اللهم جنبنا العسرى، اللهم اكفنا ما أهمنا، وعظم أجورنا، وارزقنا الصبرَ والاحتساب على ما أصابنا هذا وصلوا ..
(1) المصدر السابق 4/ 352.
(2)
رواه أحمد وغيره، وحسنه الحافظ. الدعاء من الكتاب والسنة، سعيد القحطاني ص 4، 5.