الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقلت: إنّ الأمر لم يصر بعد الحسن إلى الحسين، وساعدت شمر بن [ذي]«1» الجوشن على فعل تلك البليّة، وسبيت أهل البيت وسقتهم بالعصيّ إلى دمشق، ورضيت بإمارة يزيد، وأطعت المغيرة بن شعبة، وكنت ظهيرا لعمرو بن العاص، ثم لبسر بن [أبي]«2» أرطاة، وفعلت فعل عقبة بن عبد الله [المرّي]«3» وصدّقت رأي الخوارج، وقلت: إن الأمر لم ينتقل بعد الحسين بن عليّ في أبنائه إلى تمام الأئمّة، إلى الإمام المهديّ المنتظر، ودللت على مقاتل أهل البيت بني أميّة وبني العبّاس، وأبطلت حكم التّمتّع، وزدت في حدّ الخمر ما لم يكن، وحرّمت بيع أمّهات الأولاد، وقلت برأيي في الدّين، وبرئت من شيعة أمير المؤمنين، وكنت مع هوى أهل الشّام والغوغاء القائمة بالنّهروان، واتّبعت خطأ أبي موسى وأدخلت في القرآن ما لم يثبته ابن مسعود، وشركت ابن ملجم وأسعدته في صداق قطام، وبرئت من محبّة همدان، ولم أقل باشتراط العصمة في الإمام، ودخلت مع أهل النصب الظّلّام.
قلت: قد ذكر في «التعريف» فرقة الإمامية هذه من الشّيعة الذين بهذه المملكة، ولم أعلم أين مكانهم منها.
الفرقة الثالثة (من الشّيعة: الإسماعيلية)
وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصّادق، وأنّ الأمامة انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم المقدّم ذكره في الكلام على فرقة الإماميّة، وهم يوافقون الإماميّة المقدّم ذكرهم في سوق الإمامة من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى جعفر الصّادق، ثم يعدلون بها عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإماميّة إلى إسماعيل هذا، ثم يسوقونها في بنيه، فيقولون: إنّ الإمامة انتقلت بعد أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه إلى ابنه الحسن، ثم إلى أخيه
الحسين، ثم إلى ابنه عليّ زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصّادق، ثم إلى ابنه إسماعيل- الذي تنسب إليه هذه الفرقة- بالنّصّ من أبيه. فمن قائل: إن أباه مات قبله، وانتقلت الإمامة إليه بموته. ومن قائل: إنه مات قبل أبيه. وفائدة النّصّ ثبوتها في بنيه بعده. ثم يقولون: إنها انتقلت من إسماعيل المذكور إلى ابنه محمد المكتوم، ثم إلى ابنه جعفر الصدق «1» ، ثم إلى ابنه محمد الحبيب، ثم إلى ابنه عبيد الله المهديّ أوّل خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، وهو جدّ الخلفاء الفاطميّين بمصر، ثم إلى ابنه القائم بأمر الله أبي القاسم محمد: ثاني خلفاء الفاطميّين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل: ثالث خلفاء الفاطميّين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المعزّ لدين الله أبي تميم معدّ: أوّل خلفاء الفاطميّين بمصر بعد قيامه ببلاد المغرب (وهو باني القاهرة)، ثم إلى ابنه العزيز بالله أبي المنصور نزار: ثاني خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الحاكم بأمر الله أبي عليّ المنصور: ثالث خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ: رابع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه المستنصر بالله أبي تميم معدّ: خامس خلفائهم بمصر.
ثم من هاهنا افترقت الإسماعيلية إلى فرقتين: مستعلويّة ونزاريّة.
فأمّا المستعلويّة فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله المقدّم ذكره إلى ابنه المستعلي بالله، أبي القاسم أحمد: سادس خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الآمر بأحكام الله أبي عليّ المنصور: سابع خلفائهم بمصر؛ ثم إلى ابنه «2»
الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم: ثامن خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظافر بأمر الله أبي المنصور إسماعيل، تاسع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الفائز بنصر الله أبي القاسم عيسى بن الظّافر: عاشر خلفائهم بمصر، ثم إلى العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ: حادي عشر خلفائهم بمصر، وهو آخرهم حتّى مات «1» وأما النّزاريّة فإنهم يقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر إلى ابنه نزار بالنّصّ من أبيه دون ابنه المستعلي؛ ويستندون في ذلك إلى أنّ الحسن بن الصّبّاح كان من تلامذة أحمد بن عطاش «2» صاحب قلعة أصبهان وألموت، وكان شهما عالما بالتّعاليم والنّجوم والسّحر، فاتّهمه ابن عطاش بالدّعوة للفاطميّين خلفاء مصر، فخاف وهرب منه إلى مصر في خلافة المستنصر المقدّم ذكره، فأكرمه وأمره بدعاية الناس إلى إمامته، فقال له ابن الصّباح: من الإمام بعدك؟ فقال له:
ابني نزار، فعاد ابن الصّباح من مصر إلى الشّام والجزيرة وديار بكر وبلاد الرّوم، ودخل خراسان، وعبر إلى ماوراء النّهر، وهو يدعو إلى إمامة المستنصر وابنه نزار بعده. قال الشّهرستانيّ في «الملل والنحل» «3» : وصعد قلعة ألموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة واستظهر وتحصّن.
ثم النّزاريّة يزعمون أنّ نزارا المذكور خرج من الإسكندرية حملا في بطن جارية، تقيّة على نفسه، وخاض بلاد الأعداء حتّى صار إلى ألموت. ورأيت في «المغرب» لابن سعيد أنه إنّما صار من عقبه من وصل إلى تلك البلاد، وصارت الإمامة في بنيه هناك.
والمستعلوية ينكرون ذلك إنكارا، ويقولون: إنه قتل «1» بالإسكندرية: سار إليه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المستعلي وحاصره بالإسكندرية، ثم ظفر به وأتى به إلى المستعلي، فبنى عليه حائطين فمات، ثم فرّ بعض بني نزار إلى بلاد [مشارق أفريقية]«2» وأقام بالمغرب، والقائمون بها الآن من ولده، وهو الذي تشهد به كتب التواريخ: كمغرب ابن سعيد «3» وغيره.
ثم الإسماعيليّة في الجملة: من المستعلويّة والنّزاريّة يسمّون أنفسهم أصحاب الدّعوة الهادية، تبعا لإمامهم إسماعيل المذكور، فإنه كان يسمّى صاحب الدّعوة الهادية.
قال في «التعريف» : وهم وإن أظهروا الإسلام وقالوا بقول الإمامية، ثم خالفوهم في موسى الكاظم وقالوا: إنّ الإمامة لم تصر إلى أخيه إسماعيل فإنّهم طائفة كافرة يعتقدون التّناسخ والحلول.
وذكر في «مسالك الأبصار» : أن ملخّص معتقدهم التّناسخ. ثم قال: ولقد سألت المقدّم عليهم والمشار إليه فيهم: (وهو مبارك بن علوان) عن معتقدهم
وجاذبته الحديث في ذلك مرارا، فظهر لي منه أنّهم يرون أنّ الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلّفة بطاعة الإمام المطهّر على زعمهم؛ فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلّصت وانتقلت للأنوار العلويّة، وإن انتقلت على العصيان هوت في الظّلمات السّفلية.
وذكر في «العبر» : أنّ منهم من يدّعي ألوهيّة الإمام بنوع الحلول، ومنهم من يدّعي رجعة من مات من الأئمّة بنوع التناسخ والرّجعة، ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته، ومنهم من ينتظر عود الأمر إلى أهل البيت.
ثم المستعلويّة والنّزاريّة يتّفقون في بعض المعتقدات ويختلفون في بعضها.
فأمّا ما يتفقون عليه من الاعتقاد، فهم يتّفقون على أنه لا بدّ من إمام معصوم: ظاهر أو مستور. فالأئمّة الظاهرون هم الذين يظهرون أنفسهم ويدعون الناس إلى إمامتهم، والمستورون هم الذين يستترون ويظهرون دعاتهم. وآخر الظّاهرين عندهم إسماعيل الذي ينسبون إليه، وأوّل المستورين ابنه المكتوم.
ومن معتقدهم أنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه أو لم يكن في عنقه بيعة إمام، مات ميتة جاهليّة، ويرون أن العلم لا يكون إلا بالتعليم من الأئمّة خاصّة، وأنّ الأئمّة هم هداة الناس؛ ويقولون: إن للأئمّة أدوارا في كلّ دور منها سبعة أئمّة:
ظاهرين أو مستورين. فإن كان أهل الدّور ظاهرين يسمّى ذلك الدّور دور الكشف، وإن كانوا مستورين يسمّى دور السّتر. ويقولون بوجوب موالاة أهل البيت، ويتبرّأون ممن خالفهم، وينسبونهم إلى الأخذ بالباطل، والوقوع في الضّلال، لا سيما النّواصب، وهم الطائفة المعروفة بالناصبيّة أتباع
…
«1» ، ويرمونهم
بالعظائم، وينسبونهم إلى اعتماد المحال والأخذ به. ومن خرج عندهم عن القول بانتقال الإمامة بعد الحسن السّبط عليه السلام، ثم أخيه الحسين، ثم في أئمّتهم المتقدّم ذكرهم، إلى إمامهم إسماعيل الذي ينسبون إليه بالنّصّ الجليّ، فقد حاد عن الحقّ. وهم يعظمون
…
«1» ويستعظمون القدح فيه، وأن من وقع في ذلك فقد ارتكتب خطأ كبيرا.
ولدعاة الأئمّة المستورين عندهم من المكانة وعلوّ الرّتبة الرّتبة العظمى، لا سيما الداعي القائم بذلك أوّلا: وهو الداعي إلى محمد المكتوم أوّل أئمتهم المستورين على ما تقدّم ذكره، فإن له من الرّتبة عندهم فوق ما لغيره من الدّعاة القائمين بعده.
ومما اشتهر من أمر الدّعاة لأئمتهم المستورين أنه كان ممّن ينسب إلى التّشيّع رجل اسمه رمضان، ويقال: إنه صاحب كتاب «الميزان» في نصرة الزندقة، فولد له ولد يقال له: ميمون، نشأ على أهبة في التّشيع والعلم بأسرار الدّعاء لأهل البيت، ثم نشأ لميمون ولد يقال له: عبد الله، وكان يعالج العيون ويقدحها، فسمّي القدّاح «2» ، واطّلع على أسرار الدّعوة من أبيه، وسار من نواحي كرخ وأصبهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض الشام يدعو الناس إلى أهل البيت، ثم مات ونشأ له ولد يسمّى أحمد فقام مقام أبيه عبد الله القدّاح في الدّعوة، وصحبه رجل يقال له رستم بن الحسين بن حوشب النّجّار من أهل الكوفة، فأرسله أحمد إلى اليمن، فدعا الشّيعة باليمن إلى عبد الله المهديّ فأجابوه، وكان أبو عبد الله الشّيعيّ من أهل صنعاء من اليمن، وقيل من أهل
الكوفة، يصحب ابن حوشب، فحظي عنده وبعثه إلى المغرب. ومن نسب أحدا من هذه الدعاة إلى ارتكاب محظور أو احتقاب إثم فقد ضلّ وخرج عن جادّة الصواب عندهم. ويرون تخطئة من مالأ على الإمام عبيد الله المهديّ: أوّل أئمتهم القائمين ببلاد الغرب على ما تقدّم، وارتكابه المحظور وضلاله عن طريق الحقّ؛ وكذلك من خذل الناس عن اتّباع القائم بأمر الله بن عبيد الله المهديّ، ثاني خلفائهم ببلاد المغرب، أو نقض الدولة على المعزّ لدين الله: أوّل خلفائهم بمصر؛ ويرون ذلك من أعظم العظائم، وأكبر الكبائر.
ومن أعيادهم العظيمة الخطر عندهم يوم غدير خمّ (بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة وسكون المثناة تحت وراء مهملة في الآخر، ثم خاء معجمة مضمومة بعدها ميم) : وهو غيضة بين مكّة والمدينة على ثلاثة أيام من الجحفة.
وسبب جعلهم له عيدا أنهم يذكرون أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل فيه ذات يوم فقال لعليّ رضي الله عنه: «اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه، أللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار» على ما تقدّم نحوه في الكلام على يمين الإمامية.
وقد كان للخلفاء الفاطميّين بمصر بهذا العيد اهتمام عظيم، ويكتبون بالبشارة به إلى أعمالهم، كما يكتبون بالبشارة بعيد الفطر وعيد النّحر ونحوهما.
ويعتقدون في أئمّتهم أنهم يعلمون ما يكون من الأمور الحادثة.
وقد ذكر المؤرّخون عن عبيد الله المهديّ جدّ الخلفاء الفاطميّين بمصر أنه حين بنى المهديّة بمشارق أفريقية من بلاد المغرب طلع على سورها ورمى بسهم وقال: إلى حدّ هذه الرمية ينتهي صاحب الحمار؛ فخرج بالمغرب خارجيّ يعرف بأبي يزيد صاحب الحمار، وقصد المهديّة حتّى انتهى إلى حدّ تلك الرمية، فرجع ولم يصل المهديّة.
وكان الحاكم بأمر الله أحد خلفاء مصر من عقب المهديّ المذكور يدّعي
علم الغيب على المنبر بالجامع المعروف به على القرب من باب الفتوح بالقاهرة، فكتبوا له بطاقة فيها:
بالظّلم والجور قد رضينا
…
وليس بالكفر والحماقه
إن كنت أوتيت علم غيب
…
بيّن لنا كاتب البطاقه
فترك ما كان يقوله ولم يعد إليه قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
«1» وهم يقدحون في عيّاش «2» بن أبي الفتوح الصّنهاجيّ، وزير الظّافر: أحد الخلفاء الفاطميّين بمصر. وذلك أنّه كان له ولد حسن الصّورة اسمه نصر، فأحبّه الظافر المذكور حتّى كان يأتي إليه ليلا إلى بيته، فرمى عيّاش الظافر بابنه، وأمره أن يستدعيه فاستدعاه، فأتى إليه ليلة على العادة، فاجتمع عيّاش بن «3» السلار هو وابنه نصر على الظافر وقتلاه، وهربا إلى الشام، فأسرهما الفرنج، ثم فدي ابنه وصلب على باب زويلة «4»
وهم يقدحون في عيّاش المذكور ويرمونه بالنّفاق بسبب ما وقع منه في حقّ الظافر من رميه بابنه وقتله إياه.
قلت: وعيّاش هذا هو الذي أشار إليه في «التعريف» في صورة يمين الإسماعيلية بابن السلار. وهو وهم منه، إذ ليس عياش بابن السلار، وإنما ابن السلار هو زوج أمّ عيّاش المذكور، وكان قد وزّر للظّافر المذكور قبل ربيبه عيّاش وتلقّب بالعادل، واستولى على الأمر حتّى لم يكن للظافر معه كلام، ثم دسّ عليه ربيبه عيّاش من قتله، ووزّر للظّافر بعده. فابن السلار هو العادل وزير الظافر أوّلا لا عيّاش ربيبه.
ومن أكبر الكبائر عندهم وأعظم العظائم أن يرمى أحد من آل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا سيّما الأئمّة بكبيرة، أو ينسبها [أحد] إليهم، أو يوالي لهم عدوّا أو يعادي وليّا.
وأما ما يختص به المستعلوية، فإنهم ينكرون إمامة نزار بن المستنصر المقدّم ذكره، ويكذّبون النّزاريّة في قولهم: إن نزارا خرج حملا في بطن جارية حتّى صار إلى بلاد الشّرق. ويقولون: إنه مات بالإسكندرية ميتة ظاهرة.
ويقولون: إنه نازع الحقّ أهله وجاذب [الخلافة ربّها]«1» من حيث إن الحقّ في الإمامة والخلافة كان لإمامهم المستعلي بالله فادّعاه لنفسه. ويقولون: إن شيعته على الباطل، وموافقتهم في اعتقادهم إمامته خطأ. ويرون من الضّلال اتباع الحسن بن الصّبّاح «2» داعية نزار والنّاقل عن المستنصر النّصّ على إمامته، ويرون
الكون في جملة النّزاريّة من أعظم الأضاليل، لا سيّما من كان فيهم آخر أدوار الأئمّة التي هي في كلّ دور سبعة أئمّة، على ما تقدّم ذكره في صدر الكلام على أصل معتقد هذه الفرقة.
ثم هم يعظّمون راشد الدين سنان «1» : وهو رجل كان بقلاع الدّعوة بأعمال طرابلس من البلاد الشامية في زمن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، انتهت رياستهم إليه. قال في «مسالك الأبصار» : وكان رجلا صاحب سيميا، فأراهم بها ما أضلّ به عقولهم: من تخييل أشخاص من مات منهم على طاعة أئمتهم في جنّات النعيم، وأشخاص من مات منهم على عصيان أئمّتهم في النار والجحيم؛ فثبت ذلك عندهم واعتقدوه حقّا. ومن قدح في ذلك فقد دخل في أهل الضلال. ويقدحون في ابن السلار المقدّم ذكره ويسفّهون رأيه «2» فيما كان منه: من إزالة الخطبة للفاطميّين وحطّ رايتهم الصّفراء والخطبة لبني العبّاس ورفع
رايتهم السّوداء، وما كان منه من الفعلة التي استولى بها على قصر الفاطميّين ومن فيه، وأخذ أموالهم بعد موت العاضد.
وأما ما يختص به النّزاريّة، فإنهم يقولون: إنّ الأمر صار إلى نزار بعد أبيه المستنصر على ما تقدّم ذكره، وإن من جحد إمامته فقد أخطأ، ويزعمون أنه خرج من الإسكندريّة حملا في بطن أمة وخاض بلاد أعدائه الذين هم المستعلويّة بمصر حتّى صار إلى بلاد الشرق. ويقولون: إن الاسم يغير الصورة بمعنى؛ ويرون أن الطّعن على الحسن بن الصّباح المقدّم ذكره فيما نقله عن المستنصر من قوله:
الإمامة بعدي في ولدي نزار، من أعظم الآثام، ويعظّمون علاء الدّين صاحب قلعة ألموت؛ وهي قلعة بالطّالقان بناها السلطان ملكشاه السّلجوقيّ؛ وذلك أنه أرسل عقابا فبرّز في مكانها؛ فلمّا وافى مكانها بنى فيه هذه القلعة وسماها ألموت، ومعناه تعليم العقاب «1» وعلاء الدّين هذا هو ابن جلال الدّين الحسن «2» الملقّب بإلكيا، وهو من عقب الحسن بن الصّبّاح المقدّم ذكره، وكان أبوه جلال الدّين قد أظهر شعائر الإسلام، وكتب بذلك إلى سائر بلاد الإسماعيليّة بالعجم والشّام فأقيمت فيها، ثم توفّي بقلعة ألموت المذكورة في سنة ثمان عشرة وستمائة، فاستولى ابنه علاء
الدّين هذا على قلعة ألموت المذكورة، وخالف رأي أبيه المذكور إلى مذهب النّزاريّة، وصار رأسا من رؤوسهم؛ والتّبرّي منه عندهم من أشدّ الخطإ.
واعلم أنّ أصل هذه الفرقة كانت بالبحرين في المائة الثانية وما بعدها، ومنهم كانت القرامطة الذين خرجوا من البحرين حينئذ، نسبة إلى رجل منهم اسمه قرمط، خرج فيهم وادّعى النّبوّة وأنّه أنزل عليه كتاب؛ ثم ظهروا بالمشرق «بأصبهان» : في أيام السلطان ملكشاه السّلجوقيّ، واشتهروا هناك بالباطنية:
لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون «1» ، وبالملاحدة: لأن مذهبهم كلّه إلحاد؛ ثم صاروا إلى الشّام، ونزلوا فيما حول طرابلس، وأظهروا دعوتهم هناك، وإليهم تنسب قلاع الإسماعيلية المعروفة بقلاع الدّعوة، فيما حول طرابلس، كمصياف، والخوابي، والقدموس، وغيرها.
ولمّا افترقوا إلى مستعلويّة ونزاريّة كما تقدّم، أخذ من منهم ببلاد المشرق بمذهب النّزاريّة، عملا بدعوة ابن الصّباح المقدّم ذكره، وأخذ من منهم بالشّام بقلاع الإسماعيلية بمذهب المستعلويّة، وصاروا شيعة لمن بعد المستعلي من خلفاء الفاطميّين بمصر، واشتهروا باسم الفداويّة، ووثبوا على السّلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب بالشام مرّات وهو راكب ليقتلوه فلم يتمكّنوا منه. ثم صالحهم بعد ذلك على قلاعهم بأعمال طرابلس في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة؛ ثم انتموا إلى ملوك مصر في أيام الظاهر بيبرس، واشتهروا باسم الفداويّة لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه.
وقد ذكر في «مسالك الأبصار» نقلا عن مقدّمهم: مبارك بن علوان: أن كلّ من ملك مصر كان مظهرا لهم. ولذلك يرون إتلاف نفوسهم في طاعته: لما ينتقلون إليه من النعيم الأكبر في زعمهم. ورأيت نحو ذلك في «أساس السّياسة» لابن ظافر «2» ؛ وذكر أنّهم يرون أن ملوك مصر كالنوّاب لأئمّتهم: لقيامهم مقامهم.
أما أيمانهم التي يحلّفون بها فقد قال في «التعريف» جريا على معتقدهم المتقدّم: إن اليمين الجامعة لهم أن يقول: «إنّني والله والله الواحد الأحد، الفرد الصّمد، القادر القاهر، الذي لا إله إلا هو، وحقّ أئمّة الحقّ، وهداة الخلق، عليّ وبنيه أئمة الظّهور والخفاء، وإلّا برئت من صحيح الولاء، وصدّقت أهل الأباطيل، وقمت مع فرقة الضّلال، وانتصبت مع النّواصب في تقرير المحال، ولم أقل بانتقال الإمامة إلى السّيد الحسين، ثم إلى بنيه بالنّصّ الجليّ، موصولة إلى جعفر الصادق، ثم إلى إبنه إسماعيل صاحب الدّعوة الهادية، والأثرة الباقية، وإلّا قدحت في القّدّاح، وأثّمت الدّاعي الأوّل، وسعيت في اختلاف الناس عليه، ومالأت على السّيّد المهديّ، وخذلت الناس عن القائم، ونقضت الدّولة على المعزّ، وأنكرت أن يوم غدير خمّ لا يعدّ في الأعياد، وقلت: أن لا علم للأئمّة بما يكون، وخالفت من ادّعى لهم العلم بالحدثان، ورميت آل بيت محمد بالعظائم، وقلت فيهم بالكبائر، وواليت أعداءهم، وعاديت أولياءهم» .
قال: وأمّا من سواهم من الإسماعيلية المنكرين لإمامة نزار، فيقال لهم عوض هذا: وإلا قلت: «إن الأمر صار إلى نزار، وصدّقت القائلين أنّه خرج حملا في بطن جارية، وأنكرت ميتته الظاهرة بالإسكندرية، وادّعيت أنّه لم ينازع الحقّ أهله، ويجاذب الخلافة ربّها، ووافقت شيعته، وتبعت الحسن بن صبّاح، وكنت في النّزاريّة آخر الأدوار» .