الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: هذا ما أصّله صاحب «مواد البيان» في كتابة الأمانات؛ ومقتضاه افتتاح جميع الأمانات المكتتبة عن الخليفة أو الوزير أو غيرهما بلفظ «هذا» .
وسيأتي أن الأمانات قد تفتتح بغير هذا الافتتاح: من الحمد وغيره، على ما سيأتي بيانه، ولعل هذا كان مصطلح زمانه فوقف عنده.
وبالجملة فالأمانات المكتتبة لأهل الإسلام على نوعين:
النوع الأوّل (ما يكتب عن الخلفاء؛ وفيه مذهبان)
المذهب الأوّل
-
طريقة صاحب «مواد البيان» المتقدّمة الذّكر؛ وهي أن يفتتح الأمان بلفظ «هذا» وحينئذ فيقال: «هذا كتاب أمان كتبه عبد الله فلان أبو فلان أمير المؤمنين الفلانيّ، أعزّ الله تعالى به الدّين، وأدام له التّمكين، لفلان الفلانيّ، فإنّه قد أمّنه بأمان الله تعالى، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمانه، على نفسه، وماله، وشعره، وبشره، وأهله، وولده، وحرمه، وأشياعه، وأتباعه، وأصحابه، وحاله، وذات يده، وأملاكه، ورباعه، وضياعه، وجميع ما يخصّه ويخصّهم- أمانا صحيحا، نافذا واجبا لازما، لا ينقض ولا يفسخ، ولا يبدّل، ولا يتعقّب بمخاتلة، ولا دهان ولا مواربة، ولا حيلة ولا غيلة، وأعطاه على ذلك عهد الله وميثاقه وصفقة يمينه، بنيّة خالصة له ولجميع من ذكر معه، وعفا له عن كلّ جريرة متقدّمة، وخطيئة سالفة، إلى يوم تاريخ هذا الأمان، وأحلّه من ذلك كلّه، واستقبله بسلامة النّفس ونقاء السريرة، وأوجب له من الرّعاية ما أوجبه لأمثاله: ممّن شمله ظلّه، وكنفته رعايته، حاضرا وغائبا، وملّكه من اختياره قريبا وبعيدا، وأن لا يكرهه على ما لا يريده، ولا يلزمه بما لا يختاره» . وغير ذلك مما يقتضيه الحال ويدعو إليه المقام.
المذهب الثاني
-
أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد، والرسم فيه أن
يستفتح الأمان بخطبة يكرّر فيها الحمد مرتين أو ثلاثا فأكثر، بحسب ما يقتضيه حال النّعمة على من يصدر عنه الأمان في الاستظهار على من يؤمّنه. يحمد الله في المرّة الأولى على آلائه، وفي الثانية على إعزاز دينه، وفي الثالثة على بعثة نبيّه، وفي الرابعة على إقامة ذلك الخليفة من بيت النبوّة لإقامة الدّين؛ ويأتي مع كلّ واحدة منها بما يناسب ذلك، ثم يذكر الأمان في الأخيرة.
وهذه نسخة أمان من هذا النّمط، كتب به عن بعض متقدّمي خلفاء بني العبّاس ببغداد، أوردها أبو الحسين أحمد بن سعيد في «كتاب البلاغة» «1» الذي جمعه في الترسّل:
الحمد لله المرجوّ فضله، المخوف عدله، باريء النّسم، ووليّ الإحسان والنّعم، السابق في الأمور علمه، النّافذ فيها حكمه، بما أحاط به من ملك قدرته، وأنفذ من عزائم مشيئته؛ كلّ ما سواه مدبّر مخلوق وهو أنشاه وابتداه، وقدّر غايته ومنتهاه.
والحمد لله المعزّ لدينه، الحافظ من حرماته ما تربّض المتربّضون «2» عن حياطته، المذكي من نوره ما دأب الملحدون لإطفائه حتّى أعلاه وأظهره كما وعد في منزل فرقانه بقوله جلّ ثناؤه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*
«3» والحمد لله الذي بعث محمدا رحمة للعالمين، وحجّة على الجاحدين، فختم به النبيين والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، وجعله الدّاعي إلى دين
الحق، والشّهيد على جميع الخلق، فأدّى إليهم ما استودع من الأمانة، وبلّغهم ما حمّل من الرّسالة؛ فلما أنقذ الله به من التّورّط في الضّلالة، والتّهوّر في العمى والجهالة، وأوضح به المعالم والآثار، ونهج به العدل والمنار، اختار له ما لديه، ونقله إلى ما أعدّ له في دار الخلود، من النّعيم الذي لا ينقطع ولا يبيد، ثم جعله في لحمته وأهله وراثة بما قلدهم من خلافته في أمّته، وقدّم لهم شواهد ما اختصّهم به من الفضيلة، وزلفة الوسيلة، في كتابه النّاطق، على لسان نبيّه الصادق، صلى الله عليه وسلم منها ما أخبر به من تطهيره إيّاهم: ليجعلهم لما اختاره معدنا ومحلّا، إذ يقول جلّ وعزّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
«1» ، ومنها ما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من مسألته أمّته المودّة؛ فقد أوضح لذوي الألباب أنهم موضع خيرته، بتطهيره إياهم، وأهل صفوته، بما افترض من مودّتهم، وولاة الأمر الذين قرن طاعتهم بطاعته.
ولم يزل الله بعظيم منّه وإنعامه يدعم أركان دينه، ويشيّد أعلام هداه، بإعزاز السلطان الذي هو ظلّه في أرضه، وقوام عدله وقسطه، والحجاز الذّائد لهم عن التّظالم والتّغاشم، والحصن الحريز عند مخوف البوائق وملمّ النّوائب؛ فليس يكيد ولاته المستقلّين بحقّ الله فيه كائد، ولا يجحد ما يجب لهم من حقّ الطاعة جاحد، إلّا من انطوى على غشّ الأمّة، ومحاولة التّشتيت للكلمة.
والحمد لله على ما تولّى به أمير المؤمنين في البدء والعاقبة: من الإدلاء بالحجّة، والتّأييد بالغلبة، (عند نشوه من حيز وطأة الخفض)«2» ، متّبعا لكتاب الله حيث سلك به حكمه، مقتفيا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث انسابت أمامه، باذلا لله نفسه، لا يصدّه وعيد من تكبّر وعتا، ولا يوحشه خذلان من أدبر وتولّى، منتظرا لمن نكث عهده وغدر بيعته والتمس المكر به
في حقّه الآيات الموجبة في قوله: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ
«1» ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ
«2» ، مكتفيا بالله ممّن خذله، مستعينا به على من نصب، لا يستفزّه ما أجلب به الشيطان من خيله ورجله، وهو في أنصاره المعتصمين، لا تستهويهم الشّبه في بصائرهم، ولا تخونهم قواعد عزائمهم في ساعة العسرة من بعد ما كادت تزيغ قلوب فريق منهم؛ فكتّبهم أمير المؤمنين، وأنهدهم لعدوّه، ينتظرون إحدى الحسنيين: من الفلج المبين، والفوز «3» بالشّهادة والسعادة؛ فليس يلفتهم عن حقّهم ما يتلقّون به من الترغيب والترهيب، ولا يزدادون على عظيم التّهاويل والأخطار إلا تقحّما وإقداما، متمثّلين لسير إخوانهم قبلهم فيما اقتص الله عليهم من شأنهم، إذ يقول جلّ وعزّ:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
«4» وكان بداية جند أمير المؤمنين في حربهم التّقدّم بالإعذار والإنذار، والتّخويف بالله جلّ وعزّ وأيّامه، وما هم مسؤولون عنه في مقامه: من عهوده المؤكّدة عليهم في حرمه، وبين ركن كعبته ومقام خليله، المعلّقة في بيته، الشاهد عليها وفوده.
فكان أوّل ما بصّرهم الله به حجّته التي لا يقطعها قاطع، ولا يدفعها دافع، ثم ما جعلهم الله عليه من التناصر والتّوازر الذي فتّ في أعضادهم، ورماهم به من التّخاذل والتّواكل؛ فكلّما نجمت لهم قرون اجتثّها الله بحدّ أوليائه، وكلّما مرق منهم مارق أسال الله مهجته، وأورثهم أرضه ودياره.
ومخلوعهم المبتديء بما عادت عليهم نقمته ونكاله قد أعلق بالرّدّة، وصرّحت شياطينه بالغدر والنّكث، يرى بذلك الذّلّ في نفسه وحزبه، وتنتقص
عليه الأرض من أطرافها وأقطارها، ويؤتى بنيانه من قواعده، ويردّ الله جيوشهم مفلولة، وجنودهم مخلّاة عن مراكزها، مقموعا باطلها؛ وليس مع ما ناله من سخط الله جلّ وعزّ نازعا عن انتهاك محارمه ومآثمه، ولا محدثا عن جائحة يحلّها به إحجاما عن التّقحّم في ملاحمه الملبسة له في عاجل ما يرديه ويوبقه، وآجل ما يرصد الله به المعاندين عن سبيله، النّاكبين عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمير المؤمنين- إذ جمع الله له متباين الألفة، وضمّ له منتشر الفرقة، على معرفته بحربه وحزبه، وعدوّه ووليّه، ومن سعى له أو عليه، أو أطاع الله أو عصاه فيه: من واف ببيعة، أو خاتر بإلّ وذمّة-[جدير]«1» أن يعمّ بجميل نظره كافّة رعيّته، ويتعطّف عليهم بحسن عائدته، ويشملهم بمبسوط عدله وكريم عفوه، وتقديم أهل الأفكار المحمودة، في المواطن المشهودة، بما لم تزل أنفسهم تشرئبّ إليه، وأعينهم ترنو نحوه، لتحمد عنهم عاقبة الطاعة، ويعجّل لهم الوفاء بما وعدهم من الجزاء، إلى ما ذخره لهم من حسن المثوبة ومزيد الشّكران. وأمر لفلان بكذا، ولمن قبله من أهل الغناء بكذا، وأمّن الأسود والأحمر، ما خلا الملحد ابن الربيع، فإنّه سعى في بلاد الله وعباده سعي المفسدين، والتمس نقض وثائق الدّين.
فجميع من حلّ مدينة السلام آمنون بأمان الله، غير متبعين بترة «2» ، ولا مطلوبين بإحنة، فلا تدخلنّ أحدا وحشة منهم لضغينة يظنّ بأمير المؤمنين الانطواء عليها، ولا يحملنّه ما عفا له عنه من ذنبه على [خلاف]«3» ما هو مستوجب من ثواب طاعته أو نكال معصيته، فإنّ الله جلّ وعزّ يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
«4»