الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلائق ليفوزوا من إحسانه بكلّ نضارة وبكلّ نظرة، ويغتنموا «1» أوقات الرّبح فإنّها قد أدنت قطافها، وبعثت بهذه الوعود الصادقة إليهم تحقّق لهم حسن التّأميل، وتثبت عندهم أن الخطّ الشريف [أعلاه الله]«2» حاكم بأمر الله على ما قالته الأقلام ونعم الوكيل.
قلت: هذا المكتوب وإن لم يكن صريح أمان فإنه في معنى الأمان، كما أشار إليه ابن المكرّم؛ وفيه غرابتان: إحداهما- الافتتاح «برسم» ، والثانية- الكتابة به إلى الآفاق البعيدة والأقطار النائية، إشارة إلى امتداد لسان قلم هذه المملكة إليهم.
الضرب الثاني (من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا؛ وهي صنفان)
الصنف الأوّل (ما يكتب من الأبواب السلطانية)
والنظر فيه من جهة قطع الورق، ومن جهة الطّرّة، ومن جهة ما يكتب في المتن.
فأما قطع الورق فقد قال في «التثقيف» : إنّ الأمان لا يكتب إلا في قطع العادة.
قلت: والذي يتّجه أن تكون كتابة أمان كلّ أحد في نظير قطع ورق المكاتبة إليه. فإن كان ممن تكتب المكاتبة إليه في قطع العادة، كتب له في قطع العادة.
وإن كان في قطع فوق ذلك، كتب فيه.
وأما الطّرّة فقد قال في «التثقيف» : إنه يكتب في أعلى الدّرج، في الوسط، الاسم الشّريف، كما في المكاتبات وغيرها، ثم يكتب من أوّل عرض الورق إلى آخره كما في سائر الطّرر ما صورته:
قلت: والعلامة في الأمان الاسم؛ والبياض بعد الطّرّة على ما في المكاتبات إما وصلان أو ثلاثة، بحسب ما تقتضيه رتبة صاحب الأمان، وبحسب ما يقتضيه الحال: من مداراة من يكتب له الأمان: لخوف استشراء شرّه وما يخالف ذلك.
وأما متن الأمان: فإنّه تكتب البسملة في أوّل الوصل الثالث أو الرابع، بهامش من الجانب الأيمن كما في المكاتبات، ثم يكتب سطر من الأمان تحت البسملة على سمتها، ويخلّى موضع العلامة بياضا كما في المكاتبات، ثم يكتب السّطر الثاني وما يليه على نسق المكاتبات.
قال في «التعريف» : ويجمع المقاصد في ذلك أن يكتب بعد البسملة:
«هذا أمان الله تعالى وأمان نبيّه محمد [نبيّ الرحمة] «1» صلى الله عليه وسلم وأماننا الشّريف، لفلان بن فلان الفلانيّ [ويذكر أشهر أسمائه وتعريفه]«2» ، على نفسه وأهله وماله، وجميع أصحابه وأتباعه وكلّ ما يتعلق به: من قليل وكثير، وجليل وحقير- أمانا لا يبقى معه خوف ولا جزع في أوّل أمره ولا آخره، ولا عاجله ولا آجله، يخصّ ويعمّ، وتصان به النّفس والأهل والولد والمال وكلّ ذات اليد.
فليحضر هو وبنوه، وأهله وذووه وأقربوه، وغلمانه وكلّ حاشيته، وجميع ما يملكه من دانيته وقاصيته، وليصل بهم إلينا، ويفد على حضرتنا في ذمام الله وكلاءته وضمانة هذا الأمان، له ذمّة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يناله مكروه منّا، ولا من أحد من قبلنا، ولا يتعرّض إليه بسوء ولا أذى، ولا يرنّق له مورد بقذى؛ وله منّا
الإحسان، والصّفاء بالقلب واللّسان، والرعاية التي تؤمّن سربه [وتهنّيء شربه]«1» ويطمئنّ [بها] »
خاطره، وترفرف عليه كالسّحاب لا يناله إلا ماطره.
فليحضر واثقا بالله تعالى وبهذا الأمان الشريف؛ وقد تلفّظنا له به ليزداد وثوقا، ولا يجد بعده سوء الظّنّ إلى قلبه طريقا. وسبيل كلّ واقف عليه إكرامه في حال حضوره، واجراؤه على أحسن ما عهد من أموره؛ وليكن له ولكلّ من يحضر معه أوفر نصيب من الإكرام، وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام؛ والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه» .
وذكر في «التثقيف» بصيغة أخرى أخصر من هذه؛ وهي:
وزاد فقال: ثم التاريخ والمستند والحسبلة. ولا يكتب فيه: «إن شاء الله تعالى» لأنها تقتضي الاستثناء فيما وقع من الأمان المذكور.
ثم قال: هذا هو الأمر المستقرّ من ابتداء الحال وإلى آخر وقت، لم يكتب خلاف ذلك. غير أنّ القاضي شهاب الدّين ذكر النّسخة المذكورة بزيادات حسنة لا بأس بها، لكنّني لم أر أنه كتب بها في وقت من الأوقات. ثم قال: وهي في غاية الحسن، وكان الأولى أن لا يكتب إلّا هي.
قلت: وقد رأيت عدّة نسخ أمانات فيها زيادات ونقص عمّا ذكره في «التعريف» و «التثقيف» . والتحقيق ما ذكره صاحب «موادّ البيان» : وهو أن مقاصد
الأمان تختلف باختلاف الأحوال، والذي يضبط إنّما هو صورة الأمان، أما المقاصد فإن الكاتب يدخل في كلّ أمان ما يليق به مما يناسب الحال.
وهذه نسخة أمان، كتب بها لأسد الدّين رميثة «1» أمير مكّة، في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البار نباري؛ وهي:
هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأماننا الشريف، للمجلس العالي الأسديّ رميثة ابن الشريف نجم الدّين محمد بن أبي نميّ: بأن يحضر إلى خدمة السّنجق «2» الشريف المجهّز صحبة الجناب السّيفيّ أيتمش الناصريّ، آمنا على نفسه وماله وأهله وولده وما يتعلّق به، لا يخشى حلول سطوة قاصمة، ولا يخاف مؤاخذة حاسمة، ولا يتوقّع خديعة ولا مكرا، ولا يجد سوءا ولا ضرّا، ولا يستشعر مهابة ولا وجلا، ولا يرهب بأسا وكيف يرهب من أحسن عملا؟؛ بل يحضر إلى خدمة السّنجق آمنا على نفسه وماله وآله، مطمئنّا واثقا بالله وبرسوله وبهذا الأمان الشريف المؤكّد الأسباب، المبيّض للوجوه الكريمة الأحساب؛ وكلّ ما يخطر بباله أنّا نؤاخذه به فهو مغفور، ولله عاقبة الأمور؛ وله منّا الإقبال والتّأمير والتّقديم، وقد صفحنا الصّفح الجميل: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
«3» فليثق بهذا الأمان الشّريف ولا تذهب به الظّنون، ولا يصغ إلى الذين لا
يعلمون، ولا يستشر في هذا الأمر غير نفسه، ولا يظنّ إلّا خيرا فيومه عندنا ناسخ لأمسه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم [فيما يرويه عن ربه] «1» :«أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي خيرا» .
فتمسّك بعروة هذا الأمان فإنها وثقى، واعمل عمل من لا يضلّ ولا يشقى؛ ونحن قد أمّنّاك فلا تخف، ورعينا لك الطاعة والشّرف؛ عفا الله عما سلف؛ ومن أمّنّاه فقد فاز؛ فطب نفسا وقرّ عينا فأنت أمير الحجاز.
قلت: هذا الأمان إنشاء مبتكر مطابق للواقع، وهكذا يجب أن يكون كلّ أمان يكتب.
وهذه نسخة أمان كتب بها عن السلطان الملك الظاهر «برقوق» عند محاصرته لدمشق بعد خروجه من الكرك بعد خلعه من السّلطنة «2» : أمّن فيها أهل دمشق خلا الشيخ شهاب الدّين بن القرشيّ وجردمر «3» الطاربي، كتب في ليلة
يسفر صباحها عن يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة؛ وهي:
هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان نبيّه سيدنا محمد نبيّ الرّحمة، وشفيع الأمّة، وكاشف الغمّة، صلى الله عليه وسلم، وأماننا لكلّ واقف عليه من أهل مدينة دمشق المحروسة: من القضاة، والمفتين، والفقهاء، وطالبي العلم الشّريف، والفقراء والمساكين، والأمراء، والأجناد، والتّجّار، والمتسبّبين، والشّيوخ، والكهول والشّبّان، والكبار والصّغار، والذّكور والإناث، والخاصّ والعامّ من المسلمين وأهل الذمة، إلا جردمر الطاربي، وأحمد بن القرشيّ- على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، وأهلهم، وحرمهم، وأصحابهم، وأتباعهم، وغلمانهم، وقبائلهم، وعشائرهم، ودوابّهم، وما يملكونه من ناطق وصامت، وكلّ ما يتعلق بهم: من كثير وقليل، وجليل وحقير، أمان لا يبقى معه خوف ولا جزع، في أوّل أمره ولا في آخره، ولا في عاجله ولا في آجله، ولا ضرّ، ولا مكر، ولا غدر، ولا خديعة، يخصّ ويعم، وتصان به النفس والمال، والولد والأهل، وكلّ ذات يد.
فليحضروا بينيهم، وأهلهم وذويهم، وأقربائهم، وغلمانهم، وحاشيتهم، وجميع ما يملكونه من ناطق وصامت، ودان وقاص، وليصلوا بهم إلينا، وليفدوا بهم على حضرتنا الشريفة في ذمام الله تعالى وكلاءته، وضمان هذا الأمان. لهم ذمّة الله تعالى وذمّة رسوله سيدنا محمد نبيّ الرّحمة، صلى الله عليه وسلم أن لا ينالهم مكروه منّا، ولا من أحد من قبلنا، ولا يتعرّض إليهم بسوء ولا أذى، ولا يرنّق لهم مورد بقذى؛ ولهم منّا الإحسان، والصّفاء بالقلب واللّسان، والرعاية التي نؤمّن بها
سربهم، ونهنّيء بها شربهم، ويطمئنّ بها خاطرهم، وترفرف عليهم كالسّحاب لا ينالهم إلا ماطرهم.
فليحضروا واثقين بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبهذا الأمان الشريف. وقد تلطّفنا بهم ليزدادوا وثوقا، ولا يجد سوء الظّنّ بعد ذلك إلى قلوبهم طريقا. وسبيل كلّ واقف عليه إكرامهم في حال حضروهم، وإجراؤهم على أكمل ما عهدوه من أمورهم؛ وليكن لهم ولكلّ من يحضر معهم وما يحضر أوفر نصيب من الإكرام، والقبول والاحترام، وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام، والصّفح والرّضا، والعفو عما مضى؛ وليتمسّكوا بعروة هذا الأمان المؤكّد الأسباب، الفاتح إلى الخيرات كلّ باب، وليثقوا بعروته الوثقى، فإنّه من تمسّك بها لا يضلّ ولا يشقى، وليشرحوا بالصّفح عما مضى صدرا، ولا يخشوا ضيما ولا ضرّا، ولا يعرض كلّ منهم على نفسه شيئا مما جنى واقترف، فقد عفا الله عما سلف.
ونحن نعرّفهم أن هذا أماننا بعد صبرنا عليهم نيّفا وأربعين يوما مع قدرتنا على دوس ديارهم وتخريبها، واستئصال شأفتهم، ولكنّا منعنا من ذلك الكتاب العزيز والسنة الشريفة، فإنّنا مستمسكون بهما، وخوفنا من الله تعالى ومن نبيّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
«1» وهم يغالطون أنفسهم ويظنون أن تأخيرنا عنهم عن عجز منّا.
فليتلقّوا هذا الأمان الشريف بقلبهم وقالبهم، وليرجعوا إلى الله تعالى، وليصونوا دماءهم وأموالهم وأولادهم، وحرمهم وديارهم، فقد رأوا ما حلّ بهم من نكثهم وبغيهم. قال الله عز وجل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«2» ، وقال عزّ من قائل: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا
«3» في معرض المدح لمن وفي بعهده، وقال جلّ وعلا:
ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ
، و «1» ، وقال تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ
«2» ، وقال تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ
«3» ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: المكر والبغي والخديعة» ، وقال عليه السلام:«المرء مجزيّ بعمله» ، وقال عليه السلام:
«الجزاء من جنس العمل» ، وقال أهل التصوّف:(الطّريق تأخذ حقّها)، وقال أهل الحكمة:(الطّبيعة كافية)، وقال الشاعر:
قضى الله أنّ البغي يصرع أهله
…
وأنّ على الباغي تدور الدّوائر!
ثم إنّهم يعلّلون آمالهم بعسى ولعلّ، ويقولون: العسكر المصريّ. واصل إليهم نجدة لهم؛ وهذا والله من أكبر حسراتنا أن تكون هذه الإشاعة صحيحة، وبهذا طمعت آمالنا، وصبرنا هذه المدّة الطّويلة، وتمنّينا حضوره ورجوناه، فإنّه بأجمعه مماليك أبوابنا الشريفة، وقد صارت الممالك الشريفة الإسلامية المحروسة في حوزتنا الشريفة، ودخل أهلها تحت طاعتنا المفترضة على كلّ مسلم يؤمن بالله تعالى وبنبيّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر: من حاضر وباد، وعربان وأكراد وتركمان، وقاص ودان؛ وهم يتحققون ذلك ويكابرون في المحسوس ويتعلّلون بعسى ولعلّ، ويقولون: يا ليت، فيقال لهم: هيهات.
فليستدركوا الفارط قبل أن يعضّوا أيديهم ندما، وتجري أعينهم بدل الدّموع دما؛ وهذا منّا والله أمان ونصيحة في الدنيا والآخرة؛ والله تعالى ربّ النّيّات، وعالم الخفيّات، يعلمون ذلك ويعتمدونه؛ والله تعالى يوفّقهم فيما يبدئونه ويعيدونه؛ والخطّ الشريف شرّفه الله تعالى وأعلاه، وصرّفه في الآفاق وأمضاه- أعلاه، حجّة فيه.