الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما لغو اليمين فقد اختلف فيه أيضا: فذهب الشافعي إلى أنه ما وقع من غير قصد: ماضيا كان أو مستقبلا كقوله: لا والله، وبلى والله «1» ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وذهب أبو حنيفة إلى أنه الحلف على الماضي من غير قصد الكذب في يمينه؛ مثل أن يظنّ شيئا فيحلف عليه؛ وهو الرواية الثانية عن أحمد؛ وحكي عن مالك أن هذه هي اليمين الغموس.
الطرف الثاني (في التّحذير من الوقوع في اليمين الغموس)
أما اليمين الغموس فإنّها من أعظم الكبائر، وناهيك أنها تغمس صاحبها في الإثم. وقد قال تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ
«2» ، وقال جلّ وعزّ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا
«3» وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان» . وقد قيل إن التوحيد (وهو: الذي لا إله إلا هو) إنما أوصل في اليمين رفقا بالحالف كي لا يهلك لوقته؛ فقد روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «إذا حلف الحالف بالله الذي لا إله إلا هو، لم يعاجل لأنه قد وحد الله تعالى» .
ويروى أن جعفر بن محمد عليه السلام، ادّعى عليه مدّع عند قاض، فأحلفه جعفر بالله، لم يزد على ذلك، فهلك ذلك الحالف لوقته، فقال القاضي ومن حضر: ما هذا؟ فقال: إن يمينه بما فيه ثناء على الله ومدح يؤخّر العقوبة كرما منه عز وجل وتفضّلا. وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:
«أحلفوا الظّالم إذا أردتّم يمينه بأنه بريء من حول الله وقوّته، فإنه إذا حلف بها كاذبا عوجل» .
ومن غريب ما يحكى في ذلك أن عبد الله بن مصعب الزّبيريّ سعى بيحيى ابن عبد الله بن الحسن إلى الرشيد، بعد قيام يحيى بطلب الخلافة؛ فجمع بينهما وتواقفا، ونسب يحيى إلى الزّبيريّ شعرا يقول منه:
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها
…
إنّ الخلافة فيكم يا بني حسن
فأنكر الزبيريّ الشّعر، فأحلفه يحيى، فقال: قل قد برئت من حول الله وقوّته، واعتصمت بحولي وقوّتي، وتقلّدت الحول والقوّة من دون الله استكبارا على الله، واستغناء عنه، واستعلاء عليه، فامتنع؛ فغضب الرشيد وقال: إن كان صادقا فليحلف؛ وكان للفضل بن الربيع فيه هوى، فرفسه برجله، وقال: ويحك احلف! فحلف ووجهه متغيّر وهو يرعد، فما برح من موضعه حتّى أصابه الجذام فتقطّع ومات بعد ثلاثة أيام؛ ولما حمل إلى قبره ليوضع فيه انخسف به حتّى غاب عن أعين الناس، وخرجت منه غبرة عظيمة، وجعلوا كلّما هالوا عليه التّراب انخسف، فسقّفوه وانصرفوا.