الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة السادسة
(فيما يكتب في التذاكر [وفيه ثلاثة أضرب] «1» ) والتّذاكر جمع تذكرة.
قال «في موادّ البيان» : وقد جرت العادة أن تضمّن جمل الأموال التي يسافر بها الرسول ليعود إليها إن أغفل شيئا منها أو نسيه، أو تكون حجة له فيما يورده ويصدره، قال: ولا غنى بالكاتب عن العلم بعنواناتها وترتيبها.
فأما عنوان التذكرة فيكون في صدرها تلو البسملة؛ فإن كانت للرسول يعمل عليها، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان عند وصوله إلى فلان بن فلان، وينتهي بمشيئة الله تعالى إلى ما نصّ فيها، وإن كانت حجة له يعرضها لتشهد بصدق ما يورده، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان بن فلان بما يحتاج إلى عرضه على فلان.
وأما الترتيب فيختلف أيضا بحسب اختلاف العنوان: فإن كانت على الرسم الأوّل، كان بصدرها «قد استخرنا الله عزّو جل وندبناك، أو عوّلنا عليك، أو نفّذناك، أو وجّهناك إلى فلان: لإيصال ما أودعناك وشافهناك به من كذا وكذا» ويقصّ جميع الأغراض التي ألقيت إليه مجملة. وإن كانت محمولة على يده كالحجة له فيما يعرضه، قيل: «قد استخرنا الله عز وجل وعوّلنا عليك في تحمّل تذكرتنا هذه والشّخوص بها إلى فلان، أو النّفوذ، أو التّوجّه، أو المصير، أو القصد
بها وإيصالها إليه، وعرض ما تضمّنته عليه، من كذا وكذا» ويقصّ جميع أغراضها.
ثم قال: وهذه التذاكر أحكامها أحكام الكتب في النّفوذ عن الأعلى إلى الأدنى، وعن الأدنى إلى الأعلى، فينبغي أن تبتنى على ما يحفظ رتب الكاتب والمكتوب إليه: فإن كانت صادرة عن الوزير إلى الخليفة مثلا فتصدّر بما مثاله «قد استخرت الله تعالى، وعوّلت عليك في الشّخوص إلى حضرة أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- متحمّلا هذه التّذكرة؛ فإذا مثلت بالمواقف المطهّرة، فوفّها حقّها من الإعظام والإكبار، والإجلال والوقار، وقدّم تقبيل الأرض والمطالعة بما أشاء مواصلته من شكر نعم أمير المؤمنين الضافية عليّ، المتتابعة لديّ، وإخلاصي لطاعته، وانتصابي في خدمته، وتوفيري على الدعاء بثبات دولته، وخلود مملكته، وطالع بكذا وكذا» وعلى هذا النظام إلى آخر المراتب، يعني مراتب المكاتبات.
قلت: والذي جرى عليه اصطلاح كتّاب الزمان في التذاكر أنّ التذكرة تكتب في قطع الشاميّ، تكسر فيها الفرخة الكاملة نصفين، وتجعل دفترا وورقة إلى جنب أخرى لا كرّاسة بعضها داخل بعض، وتكون كتابتها بقلم الرّقاع، وتكون البسملة في أعلى باطن الورقة الأولى ببياض قليل من أعلاها وهامش عن يمينها؛ ثم يكتب السطر التالي من التذكرة على سمت البسملة ملاصقا لها، ثم يخلّى قدر عرض إصبعين بياضا ويكتب السطر التالي، ثم يخلّى قدر إصبع بياضا ويكتب السطر التالي؛ ويجري في باقي الأسطر على ذلك حتى يأتي على آخر الورقة، ثم يكتب باطن الورقة التي تليها كذلك، ثم ظاهرها كذلك، ثم الورقة الثانية فما بعدها على هذا الترتيب إلى آخر التذكرة، ثم يكتب «إن شاء الله تعالى» ثم التاريخ، ثم الحمدلة والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الحسبلة، على نحو ما تقدّم في المكاتبات والولايات وغيرها على ما تقدّم بيانه في المقالة الثالثة في الكلام على الخواتم.
وهذه نسخة تذكرة أنشأها القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين
يوسف بن أيّوب، سيّرها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب: أحد أمراء الدولة الصلاحية إلى أبواب الخلافة ببغداد في خلافة الناصر لدين الله، وهي:
تذكرة مباركة، ولم تزل الذّكرى للمؤمنين نافعة، ولعوارض الشكّ دافعة، ضمّنت أغراضا يقيّدها الكتاب، إلى أن يطلقها الخطاب. على أن السائر سيّار البيان، والرسول يمضي على رسل التبيان؛ والله سبحانه يسدّده قائلا وفاعلا، ويحفظه بادئا وعائدا ومقيما وراحلا.
الأمير الفقيه شمس الدين خطيب الخطباء- أدام الله نعمته، وكتب سلامته، وأحسن صحابته- يتوجّه بعد الاستخارة ويقصد دار السلام، والخطّة التي هي عشّ بيضة الإسلام، ومجتمع رجاء الرّجال، ومتّسع رحاب الرّحال؛ فإذا نظر تلك الدار الدارّ سحابها، وشافه بالنظر معالم ذلك الحرم المحرّم على الخطوب خطابها، ووقف أمام تلك المواقف التي تحسد الأرجل عليها الرّؤوس، وقام بتلك المنازل التي تنافس الأجسام فيها النّفوس- فلو استطاعت لزارت الأرواح محرمة من أجسادها، وطافت بكعبتها متجرّدة من أغمادها- فليمطر الأرض هناك عنّا قبلا تخضّلها، بأعداد لا نحصّلها؛ وليسلّم عليها سلاما نعتدّه من شعائر الدين اللازمة، وسنن الإسلام القائمة، وليورد عنا تحيّة يستنزلها من عند الله تحية مباركة طيّبة، وصلاة تخترق أنوارها الأستار المحجّبة، وليصافح عنّا بوجهه صفحة الثّرى، وليستشرف عنّا بنظره فقد ظفر بصباح السّرى، وليستلم الأركان الشريفة، فإن الدّين إليها مستند، وليستدم الملاحظات اللّطيفة، فإنّ النّور منها مستمدّ؛ وإذا قضى التسليم وحقّ اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى، وجواري أمور إن قال منها كثيرا فأكثر منه ما جرى، وليشرح صدرا منها لعلّه يشرح منا صدرا، وليوضّح الأحوال المستسرة فإنّ الله لا يعبد سرّا:
ومن الغرائب أن تسير غرائب
…
في الأرض لم يعلم بها المأمول
كالعيس أقتل ما يكون لها الظّما «1»
…
والماء فوق ظهورها محمول
فإنّا كنا نقتبس النار بأيدينا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدنا، وغيرنا يستمير، ونلقى السّهام بنحورنا، وغيرنا يغيّر التصوير، ونصافح الصّفاح بصدورنا، وغيرنا «1» يدّعي التصدير، ولا بدّ أن نستردّ بضاعتنا، بموقف العدل الذي تردّ به الغصوب، ونظهر طاعتنا، فنأخذ بحظّ الألسنة كما أخذنا بحظ القلوب؛ وما كان العائق إلا أنّا كنا ننظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإيجابا للحق، يشاكل إيجابنا للسّبق، إلى أن يكون سحابها بغير يد مستنزلا، وروضها بغير غرس مطفلا.
كان أوّل أمرنا أنا كنّا في الشام نفتح الفتوحات مباشرين بأنفسنا ونجاهد الكفّار متقدّمين لعساكره نحن ووالدنا وعمّنا؛ فأيّ مدينة فتحت، أو معقل ملك، أو عسكر للعدوّ كسر، أو مصافّ للإسلام معه ضرب، فما يجهل أحد، ولا يجحد عدوّ، أنّا نصطلي الجمرة، ونملك الكسرة، ونتقدّم الجماعة، ونرتّب المقاتلة، وندبّر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرّنا أن يكون لغيرنا ذكرها.
وكانت أخبار مصر تتّصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء التدبير، ومما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النّظام قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كلّ قائم بها وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبّرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة، وأنّ كلمة السّنة بها وإن كانت مجموعة، فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسمّاة، فإنّها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضّلالات فيها على ما يفتى منها بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللّحم والدّم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تتّخذ من دون الله تعظّم وتفخّم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تقلّب الذين كفروا في البلاد.
فسمت هممنا دون همم ملوك الأرض إلى أن نستفتح مقفلها ونسترجع للإسلام شاردها ونعيد على الدّين ضالّته منها فسرنا إليها بعساكر ضخمة، وجموع جمّة، وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منّا المجهود، وأنفقناها من خالص ذممنا وكسب أيدينا، ومن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا، فعرضت عوارض منعت، وتوجّهت للمصريين حيل باستنجاد الفرنج «1» تمّت: ولكلّ أجل كتاب، ولكلّ أمل باب.
وكان في تقدير الله سبحانه أنّا نملكها على الوجه الأحسن، وناخذها بالحكم الأقوى الأمكن، فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أنّ استئصال كلمة الإسلام محطّها، وكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان، بأنّا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج من اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم يمهل إلى الغد؛ فسرنا بالعساكر الموجودة والأمراء الأهل المعروفة إلى بلاد قد تمهّد لنا بها أمران، وتقرّر لنا فيها في القلوب ودّان: الأوّل لما علموه من إيثارنا المذهب الأقوم «2» ، وإحياء الحقّ الأقدم، والآخر لما يرجونه من فكّ إسارهم، وإقالة عثارهم؛ ففعل الله ما هو أهله، وجاء الخبر إلى العدوّ فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وإقليمها قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، وأمن من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلا، وأن يستنقذ ما صار في
ملكهم داخلا، ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السّرّ منهم أنفذ من العزيمة في الجهر. وبها راجل من السّودان «1» يزيد على مائة ألف رجل كلهم أغتام «2» أعجام، إن هم إلا كالأنعام، لا يعرفون ربّا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجّهون إليه من ركنه. وبها عسكر من الأرمن باقون على النّصرانية موضوعة عنهم الجزية كانت لهم شوكة وشكّة، وحميّة وحمة، ولهم حواش لقصرهم من بين داع تلطف في الضّلال مداخله، وتصيب العقول مخاتله، ومن بين كتّاب أقلامهم تفعل أفعال الأسل، وخدّام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النّحل، ودولة قد كبر عليها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع خطرات الضمير، فكيف لحظات التدبير.
هذا إلى إستباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية، وتحريف للشّريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله في التنزيل، وكفر سمّي بغير اسمه، وشرع يتستّر به ويحكم بغير حكمه.
فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشّفار، ونتحيّفهم تحيّف الليل والنهار للأعمار، بعجائب تدبير، لا تحتملها المساطير، وغرائب تقرير، لا تحملها الأساطير، ولطف توصّل ما كان في حيلة البشر ولا قدرتهم إلا إعانة المقادير، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج دفعة إلى بلبيس، ودفعة إلى دمياط، في كل منهما وصلوا بالعدوّ المجهر، والحشد الأوفر، وخصوصا في نوبة دمياط فإنهم نازلوها بحرا في ألف مركب مقاتل وحامل، وبرّا في مائتي ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباكرونها ويراوحونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذي يصليه
الصّليب، والقراع الذي ينادى به من مكان قريب، ونحن نقاتل العدوّين «1» :
الباطن والظاهر، ونصابر الضّدّين: المنافق والكافر، حتّى أتى الله بأمره، وأيّدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريّين ومن الفرنج ومن ملك الرّوم ومن الجنويّين وأجناس الرّوم لأن أنفارهم تنافرت، ونصاراهم تناصرت، وأناجيل طواغيتهم رفعت، وصلب صلبوتهم أخرجت، وشرعنا في تلك الطوائف من الأجناد والسّودان والأرمن فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم، وبالذّنوب الفاضحة منهم، وبالسّيوف المجرّدة وبالنار المحرقة، حتّى بقي القصر ومن به من خدمه قد تفرّقت شيعه، وتمزّقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته؛ فهنالك تمّت لنا إقامة الكلمة والجهر بالخطبة والرفع للواء السّواد الأعظم، والجمع لكلمة السّواد الأعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بفنائه، وبرّأنا من عهدة يمين كان حنثها أيسر من إثم إبقائه، إلا أنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته.
ولما خلا ذرعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفّار، فلم تخرج سنة إلا عن سنّة أقيمت فيها برّا وبحرا، ومركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم، وما أوجفت فيها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم؛ فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة «2» كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى
الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فسبى منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومساجد الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل صلوات الله عليه أن يقوم به من ناره غير برد وسلام، ومضجع الرسول شرّفه الله أن يتطرّقه من لا يدين بما جاء به من الإسلام، ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسفّار البلاد، وغيرهم من عبّاد العباد؛ فلو شرح ما تمّ بها للمسلمين من الأثر الجليل، وما استدّ من خلّاتهم، وأحرق من زروع المشركين ورعي من غلّاتهم، إلى أن ضعفت ثغورهم، واختلّت أمورهم، لاحتيج فيه إلى زمن يشغل عن المهمات الشريفة لسماع مورده، وإيضاح مقصده.
وكان باليمن ما علم من ابن مهديّ «1» الضالّ وله آثار في الإسلام، وثار طالبه النبيّ عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهنّ بالثمن البخس، واستباح منهن كلّ ما لا تقرّ عليه نفس، وكان ببدعه دعا إلى قبر أبيه وسمّاه كعبة، وأخذ أموال الرعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرّمة وأباحها، فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلّفنا له نفقات واسعة، وأسلحة رائعة، وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القصد، ووردتنا كتب عساكرنا وأمرائنا بما نفذ في ابن مهديّ وبلاده المفتتحة ومعاقله المستضافة؛ والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سارية، وإلى ما لم يفتضّ الإسلام عذرته مذ أقام الله كلمته متمادية.
ولنا في المغرب، أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها كما يكون المهلك دون المطلب؛ وذلك أن بني عبد المؤمن قد اشتهر أنّ أمرهم أمر، وملكهم قد عمر، وجيوشهم لا تطاق، وأوامرهم لا تشاقّ، ونحن والحمد لله قد ملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيّرنا عسكرا بعد عسكر رجع بنصر بعد نصر، ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير- لكّ- برقة- قفصة- قسطيلية- توزر؛ كلّ هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بالله سلام الله عليه، ولا عهد للإسلام بإقامتها، وتنفّذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها. وفي هذه السنة كان عندنا وفد قد شاهده وفود الأمصار، مقداره سبعون راكبا كلّهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منّا وعدا ويخاف وعيدا.
وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيّرنا الخلع والألوية، والمناشير بما فيها من الأوامر والأقضية.
وأما الأعداء الذين يحدقون بهذه البلاد، والكفّار الذين يقاتلونها بالممالك العظام والعزائم الشّداد، فمنهم صاحب قسطنطينيّة وهو الطاغية الأكبر، والجبّار الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدّهر وشربت، وقائم النّصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، وجرت لنا معه غزوات بحريّة، ومناقلات ظاهريّة وسرّية، وكانت له في البلاد مطامع منها أن يجبي خراجا، ومنها أن يملك منها فجاجا، وكانت غصّة لا يسيغها الماء، وداهية لا ترجى لها الأرض بل السّماء، فأخذنا ولله الحمد بكظمه، وأقمناه على قدمه، ولم نخرج من مصر، إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة في نوبتين بكتابين كلّ واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السّلاح، والانتقال من معاداة، إلى مهاداة، ومن مناضحة، إلى مناصحة، حتّى إنه أنذر بصاحب صقلّية وأساطيله التي يرد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفّار صاحب صقلّيّة هذا كان حين علم أن صاحب الشام
وصاحب قسطنطينيّة قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوّته المستقلّة بمفردها، وعزمته القائمة بمجرّدها، فعمر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه: فإنه إلى الآن منذ خمس سنين يكثّر عدّته، وينتخب عدّته، ويجتلب مقاتلته إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى إسكندريّة أمر رائع، وخطب هائل، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله؛ ما هو إقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قطّ بنظيره لولا أنّ الله خذله؛ ولو ذهبنا نصف ما ذهب، فيه من ذهب، وما أخذ منه من سلاح وخيل وعدد ومجانيق، ومن أسر منه من خيّالة كبار، ومقدّمين ذوي أقدار، وملوك يقاطعون بالجمل التي لها مقدار، وكيف أخذه وهو في العدد الأكثر بالعدد الأقلّ من رجالنا، وكيف نصر الله عليه مع الأصعب من قتاله بالأسهل من قتالنا، لعلم أنّ عناية الله بالإسلام تغنيه عن السلاح، وكفاية الله لهذا الدّين تكفيه مؤونة الكفاح؛ ومن هؤلاء الجنويّين الذين يسرّبون الجيوش- البنادقة- البياشنة «1» - الجنوية كلّ هؤلاء تارة لا تطاق ضراوة ضرّهم، ولا تطفأ شرارة شرّهم، وتارة يجهّزون سفّارا يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة؛ وما منهم الآن إلا من يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرّب إليها بإهداء طرائف أعماله وبلاده؛ وكلّهم قد قرّرت معه المواصفة، وانتظمت معه المسالمة، على ما نريد ويكرهون، ونؤثر ولا يؤثرون «2»
ولما قضى الله بالوفاة النّورية، وكنّا في تلك السنة على نيّة الغزو، والعساكر قد ظهرت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها، ورأوها فرصة مدّوا إليها يد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها للممانعة، واستنهضنا لتفريج الكرب الواقعة، فسرنا مراحل اتّصل بالعدوّ أمرها، وعوجل بالهدنة الدّمشقيّة التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ولا قبل كثيرها ولا قليلها؛ ثم عدنا إلى البلاد فتوافت إلينا الأخبار بما الدولة النّوريّة عليه من تشعّب الآراء وتوزّعها، وتشتّت الأمور وتقطّعها، وأن كلّ قلعة قد حصل فيها صاحب، وكلّ جانب قد طمح إليه طالب؛ والفرنج قد بنوا بلادا يتحيّفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشاميّة، وأمراء الدولة قد سجن أكابرهم وعوقبوا وصودروا، والمماليك الذين للمتوفّى أغرار خلقوا للأطراف لا للصّدور، وجعلوا للقيام لا للجلوس في المحفل المحصور، وقد مدّوا الأعين والأيدي والسّيوف، وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وكلّ واحد يتّخذ عند الفرنج يدا، ويجعلهم لظهره سندا، ويرفع عنهم ذخيرة كانت للإسلام، ويفرّج لهم عن أسير من أكابر الكفّار كان مقامه مما يدفع شرّا، ولا يزيد نار الكفر جمرا، وإطلاقه يجلب قطيعة تقوّي إسلاما وتضعف كفرا، فكثرت إلينا مكاتبات أهل الآراء الصائبة، ونظرنا للإسلام ولنا ولبلاد الإسلام في العاقبة، وعرفنا أن البيت المقدّس إن لم تتيسّر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يجرّد العزم في قلعه، وإلا ثبتت عروقه،
واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة؛ وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة وكلال الدواب، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة، والجموع متيسرة، والأوقات مساعدة؛ وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلّة، وأمور مختلّة؛ وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، وكفلناه كفالة من يقضي الحقّ ويوفيه؛ فإنّا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء بخدمه وهم عاملون بظلمه، والمراد الآن هو كل ما يقوّي الدولة، ويؤكّد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الزّلفة، ويفتح بقيّة البلاد، ويطبّق بالاسم العبّاسيّ كلّ ما تخطئه العهاد- ونحن نقترح على الأحكام المعهودة، وننتظر أن يأتي الإنعام على الغايات المزيدة؛ وهو تقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام، وكلّ ما تشتمل عليه الولاية النّورية، وكل ما يفتحه الله للدولة بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ وولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنّعمة تخليدا، وللدّعوة تجديدا، مع ما ينعم به من السّمات التي يقتضيها الملك؛ فإنّ الإمارة اليوم بحسن نيّتنا في الخدمة تصرّف بأقلامنا، وتستفاد من تحت أعلامنا، ويتبيّن أنّ أمراء الدولة النّورية يحتاج إليهم في فتح البلاد القدسية ضرورة: لأنها منازل العساكر، ومجمع الأنفار والعشائر؛ فمتى لم يكن عليهم يد حاكمة، وفيهم كلمة نافذة، منعهم ولاة البلاد، وبغاة العناد.
وبالجملة فالشام لا ينتظم أمره بمن فيه، وفتح بيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه؛ والفرنج فهم يعرفون منا خصما لا يملّ الشرّ حتّى يملّوا، وقرنا لا يزال يحرّم السيف حتّى يحلّوا، حتى إنا لمّا جاورناهم في هذا الأمد القريب، وعلموا أنّ المصحف قد جاء بأيدينا يخاصم الصليب، استشعروا بفراق بلادهم، وتهادوا التعازي لأرواحهم بأجسادهم؛ وإذا سدّد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كلّ مسلم تحت برده، واستنقذنا أسيرا من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.