الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطائفة الأولى (المتّفق على يهوديّتهم؛ وهم القرّاؤون)
وهم وإن كانوا فرقتين «1» ، فإنّهم كالفرقة الواحدة، إذ توراتهم واحدة، ولا خلاف في أصل اليهوديّة بينهم. وقد اتفق الجميع على استخراج ستمائة وثلاث عشرة فريضة من التّوراة يتعبّدون بها. ثم كلّهم متفقون على نبوّة موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وعلى نبوّة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وهو إسرائيل، والأسباط: وهم بنوه الاثنا عشر الآتي ذكرهم آخرا «2» وهم ينفردون عن الطائفة الثانية الآتي ذكرها: وهي السّامرة بنبوّة أنبياء غير موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وينقلون عن يوشع تسعة عشر كتابا زيادة على التّوراة يعبّرون عنها بالنّبوّات تعرف بالأول.
ثم الرّبّانيّون ينفردون عن القرّائين بشروح موضوعة لفرائض التّوراة المتقدّمة الذّكر، وضعها أحبارهم، وتفريعات على التّوراة ينقلونها عن موسى عليه السلام.
ويتّفق الرّبّانيّون والقرّاؤون على أنّهم يستقبلون صخرة بيت المقدس في صلاتهم، ويوجّهون لها موتاهم، وعلى أن الله تعالى كلّم موسى عليه السلام على طور سيناء: وهو جبل في رأس بحر القلزم في جهة الشّمال على رأس جزيرة في آخره، داخل بين ذراعين يكتنفانه.
وهم مختلفون في أمرين:
أحدهما- القول بالظّاهر والجنوح إلى التأويل. فالقرّاؤون يقفون مع ظواهر نصوص التّوراة، فيحملون ما وقع فيها منسوبا إلى الله تعالى: من ذكر الصّورة، والتكلّم، والاستواء على العرش، والنّزول على طور سيناء، ونحو ذلك على
ظواهره، كما تقوله الظاهرية من المسلمين، وينجرّون من ذلك إلى القول بالتّشبيه، والقول بالجهة. والرّبّانيّون يذهبون إلى تأويل ما وقع في التّوراة من ذلك كلّه؛ كما تفعل الأشعريّة من المسلمين.
الثاني- القول بالقدر. فالرّبّانيّون يقولون بأن لا قدر سابق وأن الأمر أنف كما تقوله القدريّة من المسلمين. والقرّاؤون يقولون بسابق القدر كما تقوله الأشعريّة.
أما ما عدا ذلك فكلا الفريقين يقولون: إن الله تعالى قديم أزليّ واحد قادر، وإنه تعالى بعث موسى بالحقّ، وشدّ أزره بأخيه هارون. ويعظّمون التوراة التي هي كتابهم أتمّ التعظيم، حتّى إنهم يقسمون بها كما يقسم المسلمون بالقرآن، وكذلك العشر كلمات التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح الجوهر؛ وقد تقدّم أنها مختصر ما في التوراة، مشتملة على أوامر ونواه وسماع كلام الله تعالى، وهم يحلفون بها كما يحلفون بالتّوراة، ويعظّمون قبّة الزّمان وما حوته: وهي القبة التي كان ينزل على موسى فيها الوحي.
ومن أعظم أنواع الكفر عندهم تعبّد فرعون وهامان لعنهما الله. (وكان اسم فرعون موسى فيما ذكره المفسرون الوليد بن مصعب، وقيل: مصعب بن الرّيّان.
واختلف فيه: فقيل كان من العمالقة، وقيل من النّبط. وقال مجاهد: كان فارسيّا وهامان وزيره) والتّبرّي من إسرائيل (وهو يعقوب عليه السلام ومعنى إسرائيل فيما ذكره المفسرون «عبد الله» كأنّ «إسرا» عبد، و «إيل» اسم الله تعالى بالعبرانية.
وقيل: إسراء من السّرّ، وكأّنّ إسرائيل هو الذي شدّده الله وأتقن خلقه.
ومن أعظم العظائم عندهم الأخذ بدين النّصرانية، وتصديق مريم عليها السلام في دعواها أنها حملت من غير أن يمسّها بشر؛ ويرمونها بأنها حملت من يوسف النّجّار، وهو رجل من أقاربها كان يخدم البيت المقدّس معها، ويرون تبرئتها من ذلك جريرة تقترف.
ويستعظمون الوقوع في أمور:
منها: القول بإنكار خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام وسماعه له.
ومنها: تعمّد طور سيناء الذي كلّم الله تعالى موسى عليه بالقاذورات، ورمي صخرة بيت المقدس التي هي قبلتهم بالنّجاسة، ومشاركة بختنصّر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وإلقاء العذرة «1» على مظانّ أسفار التّوراة.
ومنها: الشّرب من النّهر الذي ابتلي به قوم طالوت ملك بني إسرائيل، والميل إلى جالوت ملك الكنعانيّين: وهو الذي قتله داود عليه السلام، ومفارقة شيعة طالوت الذين قاموا معه على جالوت. وذلك أنّه لمّا رفعت التّوراة وتسلّط على بني إسرائيل عدوّهم من الكنعانيّين الذين ملكهم جالوت، كانت النّبوّة حينئذ فيهم في شمعون، وقيل في شمويل، وقيل في يوشع بن نون، فقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم ما أخبر الله تعالى به: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً
«2» ولم يكن من سبط الملك، إذ كان الملك من سبط معروف عندهم، فقيل: كان سقّاء، وقيل: كان دبّاغا، فأنكروا ملكه عليهم، وقالوا كما أخبر الله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا
«3» الآية؛ فلما فصل طالوت بالجنود أراد الله تعالى أن يريه من يطيعه في القتال ممّن يعصيه، فسلّط عليهم العطش وابتلاهم بنهر من حولهم، قيل: هو نهر فلسطين، وقيل: نهر بين الأردنّ وفلسطين، فقال لهم طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي
«4» إلى قوله: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ.
ومنها: إنكار الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليهم: وهم موسى وهارون ويوشع ومن بعدهم: من أنبيائهم عليهم السلام، ومن قبلهم: من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم، والأسباط الاثني عشر الآتي ذكرهم، والدّلالة على
دانيال النّبيّ عليه السلام حتّى قتل، وإخبار فرعون مصر بمكان إرمياء النّبيّ عليه السلام عند اختفائه بها، والقيام مع البغي والفواجر يوم يحيى بن زكريّا عليهما السلام في المساعدة عليه.
ومنها: القول بأن النار التي أضاءت لموسى عليه السلام من شجرة العوسج بالطّريق عند مسيره من مدين حتّى قصدها وكانت وسيلة إلى كلام الله تعالى له نار إفك لا وجود لها؛ وكذلك أخذ الطّرق على موسى عليه السلام عند توجّهه إلى مدين فارّا من فرعون، والقول في بنات شعيب اللّاتي سقى لهنّ موسى عليه السلام بالعظائم ورميهنّ بالقبيح.
ومنها: الإجلاب مع سحرة فرعون على موسى عليه السلام والقيام معهم في غلبته، والتّبرّي ممن آمن منهم بموسى عليه السلام.
ومنها: قول من قال من آل فرعون: اللّحاق اللّحاق: لندرك من فرّ: من موسى وقومه عند خروجهم، كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
«1» ومنها: الإشارة بتخليف تابوت يوسف عليه السلام بمصر حين أراد موسى عليه السلام نقله إلى الشّام ليدفنه عند آبائه: إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وذلك أنّهم جعلوا تابوته في أحد شقّي النّيل فأخصب وأجدب الجانب الآخر، فحوّلوه إلى الجانب الآخر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الأوّل، فجعلوه وسط النّيل فأخصب جانباه جميعا، إلى أن كان زمن موسى عليه السلام وضرب النّيل بعصاه فانفلق عن التّابوت، فأخذ في نقله إلى الشام ليدفنه عند آبائه كما تقدّم، فأشار بعضهم ببقائه بمصر فوقع في محظور لمخالفة موسى عليه السلام فيما يريده.
ومنها: التّسليم للسّامريّ وتصديقه على الحوادث التي أحدثها في اليهوديّة على ما سيأتي ذكره في الكلام على السّامرة في الطائفة الثانية من اليهود.
ومنها: نزول أريحا: مدينة الجبّارين من بلاد فلسطين.
ومنها: الرّضا بفعل سكنة سدوم من بلاد فلسطين أيضا وهم قوم لوط.
ومنها: مخالفة أحكام التّوراة التي ورد [الحثّ]«1» فيها عليها.
ومنها: استباحة السّبت بالعمل فيه والعدو فيه: إذ استباحته عندهم توجب هدر دم مستبيحه من حيث إنه مسخ من مسخ باستباحته قردة وخنازير، والله تعالى يقول: وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
«2» ومنها: إنكار عيد المظلّة وهو [سبعة أيام أوّلها الخامس عشر من تشرى]«3» وعيد الحنكة وهو [ثمانية أيام يوقدون في الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا وفي الليلة الثانية سراجين وهكذا حتى يكون في الليلة الثامنة ثمانية سرج]«4» وهما من أعظم أعيادهم.
ومنها: القول بالبداء على الله في الأحكام، وهو أن يخطر له غير الخاطر الأوّل، وهو تعالى منزّه عن ذلك، ورتّبوا عليه منع نسخ الشرائع، ويزعمون أن النّسخ يستلزم البداء، وهو مما اتّفق كافّة اليهود على منعه، على ما تقدّم أوّلا.
ومنها: اعتقاد أنّ المسيح عليه السلام هو الموعود به على لسان موسى عليه السلام، المذكور بلفظ المشيحا وغير ذلك، على ما تقدّمت الإشارة إليه.
ومنها: الانتقال من دين اليهودية إلى ما سواها من الأديان، إذ عندهم أنّ شريعة موسى عليه السلام هي التي وقع بها الابتداء، وبها وقع الاختتام.
ومنها: الانتقال من اليهوديّة إلى ما عداها من الأديان: كالإسلام والنّصرانية وغيرهما، فإنه يكون بمثابة المرتدّ عند المسلمين. «1»
ومنها: استباحة لحم الجمل: فإنه محرّم عندهم، ومن استباحه فقد ارتكب محظورا عظيما عندهم؛ وقد دخل ذلك في عموم قوله تعالى إخبارا بما حرّم عليهم: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ
«2» ، يعني ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل وما في معناها.
ومنها: استباحة أكل الشّحم خلا شحم الظّهر، وهو ما علا فإنه مباح لهم؛ وعن ذلك أخبر الله تعالى بقوله: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما
«3» ومنها: استباحة أكل الحوايا. قال ابن عباس وغيره: هي المباعر. وقال أبو عبيدة: هي ما تحوّى من البطن أي استدار، والمراد شحم الثّرب. وكذلك استباحة ما اختلط من الشّحم بعظم وهو شحم الألية، وعنه أخبر تعالى بقوله:
أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ
«4» عطفا على الشّحوم المحرّمة. على أن بعض المفسّرين قد عطف قوله تعالى: أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ
على المستثنى في قوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما
، فحمله على الاستباحة؛ والموافق لما يدّعونه الأوّل، ويرون أن سبب نزول هذه الآية أنّ اليهود قالوا لم يحرّم علينا شيء إنما حرّم إسرائيل على نفسه الثّرب وشحم الألية فنحن نحرّمه، فنزلت. على أنّ اليهود القرّائين والرّبّانييّن يجملونها فيبيعونها ويأكلون ثمنها، ويتأوّلون أن آكل ثمنها غير آكل منها، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله
اليهود! حرّمت عليهم الشّحوم فباعوها وأكلوا ثمنها» والسامرة مخالفون في ذلك، ويقولون بتحريم الثّمن أيضا، على ما سيأتي ذكره.
وليعلم أن القرّائين والرّبّانيين يحرّمون من الذّبيحة كلّ ما كانت رئته ملتصقة بقلبه أو بضلعه، والسّامرة لا يحرّمون ذلك.
ومنها: مقالة أهل بابل في إبراهيم عليه السلام، وهي قولهم [إنه لمن الظالمين في تكسير أصنامهم] «1» ومنها: أن يحرّم الأحبار الذين هم علماؤهم على الواحد منهم، بمعنى أنهم يمنعونه من مباحاتهم في المآكل والمشارب والنّكاح وغير ذلك حرمة يجمعون عليها، وتتأكّد بقلب حصر الكنائس عليها؛ إذ من عادتهم أنهم إذا حرّموا على شخص وأرادوا التّشديد عليه قلبوا حصر الكنائس عند ذلك التّحريم تغليظا على المحرّم عليه.
ومنها: الرّجوع إلى التّيه بعد الخروج منه؛ فإنهم إنما خرجوا إليه عند سخط الله تعالى عليهم بمخالفة موسى عليه السلام عند امتناعهم عما أمروا به من قتال الجبّارين، كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
«2» قال المفسّرون: وكان يتيهون ستّة فراسخ في أربعة فراسخ، يمشون كلّ يوم ويبيتون حيث يصبحون؛ فأمر الله تعالى موسى عليه السلام فضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وكانوا اثني عشر سبطا لكلّ سبط عين؛ فإذا أخذوا حاجتهم من الماء احتبس وحملوا الحجر معهم، وكانت ثيابهم فيما يروى لا تخرّق ولا تتدنّس، وتطول كلّما طال الصّبيان.
ومنها: تحريم المنّ والسّلوى الذي امتنّ الله تعالى عليهم به كما أخبر بذلك
بقوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى
«1» ويقال إنه التّرنجبين. وقال ابن عبّاس: والمراد بالمنّ الذي يسقط على الشّجر وهو معروف. قال قتادة: كان المنّ يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس كسقوط الثّلج، فيأخذ الرجل منهم ما يكفيه ليومه، فإن أخذ أكثر من ذلك فسد.
وأما السّلوى، فقيل: هي طائر كالسّمانى، وقال الضّحّاك: هي السّمانى نفسها، وقال قتادة: هو طائر إلى الحمرة كانت تحشره عليهم الجنوب.
ومنها: التّبرّؤ من الأسباط: وهم أولاد يعقوب عليهم السلام، وعددهم اثنا عشر سبطا: وهم يوسف، وبنيامين، ونفتالي «2» ، وروبيل «3» ، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وربولي «4» ، ويشجر «5» ، وجاد، وأشر «6» ؛ ومنهم تفرّع جميع بني إسرائيل ولد كلّ منهم أمّة من الناس. وسمّوا أسباطا أخذا من السّبط وهو التتابع، إذ هم جماعة متتابعون. وقيل: من السّبط وهو الشّجر، فالسّبط الجماعة الراجعون إلى أصل واحد.
ومنها: القعود عن حرب الجبّارين مع القدرة على حربهم: وذلك أنهم أمروا بدخول الأرض المقدّسة: وهي بيت المقدس فيما قاله ابن عباس والسّدّيّ وغيرهما، والشام فيما قاله قتادة، ودمشق وفلسطين وبعض الأردنّ فيما قاله الزّجّاج، وأرض الطّور فيما قاله مجاهد؛ وكان فيها قوم جبّارون من العمالقة كما أخبر الله تعالى؛ والجبّار هو المتعظّم الممتنع من الذّلّ والقهر أخذا من الإجبار:
وهو الإكراه كأنّه يجبر غيره على ما يريده.
قال ابن عبّاس: لما بعث موسى عليه السلام من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم، رآهم رجل من الجبّارين فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه، وقال: إن هؤلاء يريدون قتالنا؛ وكان من أمرهم ما قصّه الله تعالى في كتابه بقوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
«1» فكان في قعودهم عن حرب الجبارين مع القدرة والنّشاط مخالفة لما أمروا به.
وقد رتّب في «التعريف» أيمان اليهود على هذا المقتضى، فقال: ويمينهم:
«إنني والله والله والله العظيم، القديم الأزليّ الفرد الصّمد الواحد الأحد المدرك المهلك، باعث موسى بالحقّ، وشادّ أزره بأخيه هارون، وحقّ التوراة المكرّمة وما فيها وما تضمّنته، وحقّ العشر كلمات التي أنزلت على موسى في الصّحف الجوهر، وما حوته قبّة الزّمان، وإلّا تعبّدت فرعون وهامان، وبرئت من بني إسرائيل، ودنت بدين النّصرانية، وصدّقت مريم في دعواها، وبرّأت يوسف النّجّار، وأنكرت الخطاب، وتعمدت الطّور بالقاذورات، ورميت الصّخرة بالنّجاسة، وشركت بختنصّر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وألقيت العذرة على مظانّ الأسفار، وكنت ممّن شرب من النّهر ومال إلى جالوت، وفارقت شيعة طالوت، وأنكرت الأنبياء، ودللت على دانيال، وأعلمت جبّار مصر بمكان
إرمياء، وكنت مع البغيّ والفواجر يوم يحيى، وقلت: إن النّار المضيئة من شجرة العوسج نار إفك، وأخذت الطّرق على مدين، وقلت بالعظائم في بنات شعيب، وأجلبت مع السّحرة على موسى، ثم برئت ممن آمن منهم، وكنت مع من قال:
اللّحاق اللّحاق لندرك من فرّ، وأشرت بتخليف تابوت يوسف في مصر، وسلّمت إلى السّامريّ، ونزلت أريحا مدينة الجبّارين، ورضيت بفعل سكنة سذوم، وخالفت أحكام التّوراة، واستبحت السّبت وعدوت فيه، وقلت إن المظلّة ضلال، وإن الحنكة محال، وقلت بالبداء على الله تعالى في الأحكام، وأجزت نسخ الشرائع، واعتقدت أنّ عيسى بن مريم المسيح الموعود به على لسان موسى بن عمران، وانتقلت عن اليهودية إلى سواها من الأديان، واستبحت لحم الجمل والشّحم والحوايا أو ما اختلط بعظم، وتأوّلت أنّ آكل ثمنه غير آكله، وقلت مقالة أهل بابل في إبراهيم، وإلّا أكون محرّما حرمة تجمع عليها الأحبار، وتقلب عليها حصر الكنائس، ورددت إلى التّيه، وحرمت المنّ والسّلوى، وبرئت من كلّ الأسباط، وقعدت عن حرب الجبّارين مع القدرة والنّشاط» .
قلت: قوله في هذه اليمين في حرمة الشّحم وما في معناه: وتأوّلت أن آكل ثمنه غير آكله، بمعنى أنه يستعظم الوقوع في تأوّل ذلك، وهو خلاف معتقدهم:
لأنهم يتأوّلون أن آكل ثمنه غير آكله كما تقدّم عنهم، وإنما تمنع ذلك السّامرة، فكان من حقّه أن يورد ذلك في يمين السّامرة وأن يقول هنا: ولم أتأوّل أن آكل ثمنه غير آكله فتنبه لذلك.
واعلم أنّ أوّل ما استحدثت هذه الأيمان لأهل دين اليهوديّة فيما ذكره محمد بن عمر المدائنيّ في كتاب «القلم والدّواة» في زمن الفضل بن الرّبيع وزير الرّشيد، أحدثها كاتب له قال له: كيف تحلّف اليهوديّ قال: أقول له: وإلّا برئت من إلهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلّا له، ورغبت عن دينك الذي ارتضيته، وجحدت التّوراة وقلت: إنّ حمار العزيز راكب جمل موسى، ولعنك ثمانمائة حبر على لسان داود وعيسى بن مريم، ومسخك الله كما مسخ أصحاب السّبت فجعل منهم القردة والخنازير، وخالفت ما دوّنه دانيال وأشلوما ويوحنّا، ولقيت الله بدم