الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكمة. وأصله «فيلاسوف» ؛ ففيلا معناه محبّ، وسوف معناه الحكمة؛ وهم أصحاب الحكم الغريزيّة والأحكام السماوية، فمنهم من وقف عند هذا الحدّ، ومنهم من عرف الله تعالى وعبده بأدب النّفس.
قال الشّهرستانيّ: وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل- البراهمة
، وهم لا يقرّون بالنّبوّات أصلا، ولا يقولون بها.
الصّنف الثاني- حكماء العرب
»
؛ وهم شرذمة قليلة، وأكثر حكمتهم فلتات الطّبع، وخطرات الفكر، وهؤلاء ربما قالوا بالنبوّات.
الصّنف الثالث- حكماء الروم
«2» ؛ وهم على ضربين:
الضرب الأوّل (القدماء منهم الذين هم أساطين الحكمة)
وهم سبعة حكماء: ثاليس «3» الملطي، وانكساغورس، وانكسمانس، وانباديقلس «4» ، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، ومذاهبهم مختلفة، وبعضهم عاصر بعض الأنبياء عليهم السلام، وتلقّف منه، كانباديقلس: كان في زمن داود عليه السلام، ومضى إليه وتلقّى عنه، واختلف إلى لقمان واقتبس منه الحكمة، وكذلك فيثاغورس: كان في زمن سليمان عليه السلام، وأخذ الحكمة من معدن النبوّة.
الضرب الثاني (المتأخرون منهم؛ وهم أصحاب أرسطاطاليس؛ وهم ثلاث طوائف)
طائفة منهم تعرف بالمشّائين: وهم الذين كانوا يمشون في ركابه يقرأون
عليه الحكمة في الطريق وهو راكب. وطائفة تعرف بالرّواقيين: وهم الذين كان يجلس لتعليمهم بالرّواق. والطائفة الثالثة فلاسفة الإسلام: وهم حكماء العجم «1» أما قبل الإسلام فإنه لم ينقل عن العجم مقالة في الفلسفة، بل حكمهم كلّها كانت مستفادة من النّبوّات: إما من الملّة القديمة، وإما من غيرها من الملل.
ومعتقدهم أن الله تعالى واجب الوجود لذاته، وأنه ليس بجوهر ولا عرض، وأن ما سواه صادر عنه على ترتيب، وأنه تعالى واحد فرد، ليس له شريك ولا نظير، باق أبديّ سرمديّ، وأنه الذي أوجد الأشياء وكوّنها، ويعبّرون عنه بعلّة العلل، وأنه قادر، يفعل إن شاء ولا يفعل إن لم يشأ، فاعل بالذات ليس له صفة زائدة على ذاته، مريد، له إرادة وعناية لا تزيد على ذاته، وأنه أوّل لا بداية له، آخر لا نهاية له، وأنه يستحيل أن يتغيّر، منزّه عن أن يكون حادثا أو عرضا للحوادث، حيّ متّصف بصفات البقاء السّر مديّة، وأنه حكيم بمعنى أنه جامع لكلّ كمال وجلال، وأنه خالق الأفلاك بقدرته، ومدبّرها بحكمته، ويقولون: إن الأرض ثابتة لا تتحرّك، والماء محيط بها من سائر جهاتها على ما اقتضته الحكمة الإلهية، وكشف بعض أعلاها لسكنى الخلق فيه، فهي كبطّيخة ملقاة في بركة ماء، ويحيط بالماء الهواء، ويحيط بالهواء النّار، ويحيط بالنار فلك القمر وهو الأوّل، ويحيط بفلك القمر فلك عطارد وهو الثاني، ويحيط بفلك عطارد فلك الزّهرة وهو الثالث، ويحيط بفلك الزّهرة فلك الشّمس وهو الرابع، ويحيط بفلك الشّمس فلك المرّيخ وهو الخامس، ويحيط بفلك المرّيخ فلك المشتري وهو السادس، ويحيط بفلك المشتري فلك زحل وهو السابع، ويحيط بفلك زحل فلك الكواكب وهو الثامن، وهو الذي فيه الكواكب الثابتة بأسرها، وهي ما عدا الكواكب السّبعة التي في الأفلاك السّبعة المقدّم ذكرها: من البروج الاثني عشر ومنازل القمر الثمانية والعشرين وغيرها. ويحيط بالكواكب الفلك الأطلس وهو الفلك التاسع؛ والأفلاك التسعة دائرة بما فيها من المشرق إلى المغرب، بحيث تقطع في اليوم والليلة دورة
كاملة، والكواكب السبعة التي في الأفلاك السبعة الأوّلة، وهي: زحل، والمشتري، والمرّيخ، والشّمس، والزّهرة، وعطارد، والقمر، متحركة بالسّير إلى جهات مخصوصة: الشّمس والقمر يسيران بين المشرق والمغرب وبقيّة الكواكب يختلف سيرها استقامة ورجوعا؛ والكواكب التي في الفلك الثامن ثابتة لا تتحرّك؛ والله تعالى هو الذي يسيّر هذه الأفلاك والكواكب ويفيض القوى عليها.
ويقولون: إن الشمس إذا سخّنت الأرض بواسطة الضّوء صعد من الرّطب منها بخار، ومن البارد اليابس دخان. ثم بعضه يخرج من مسامّ الأرض فيرتفع إلى الجوّ، وبعضه يحتبس في الأرض بوجود ما يمنعه من الخروج منها: من جبل ونحوه.
فأما ما يخرج من مسامّ الأرض، فإن كان من البخار، فما تصاعد منه في الهواء يكون منه المطر والثّلج والبرد وقوس قزح والهالة؛ ثم ما ارتفع من الطبقة الحارّة من الهواء إلى الباردة تكاثف بالبرد وانعقد غيما، وإن كان ضعيفا أثّرت فيه حرارة الشمس فاستحال هواء، ومهما انتهى إلى الطّبقة الباردة تكاثف وعاد وتقاطر وهو المطر. فإن أدركها برد شديد قبل أن تجتمع، جمدت ونزلت كالقطن المندوف وهو الثّلج، وإن لم تدركها برودة حتى اجتمعت قطرات من الجوانب أذهبت برودتها، انعقدت بردا؛ وإذا صار الهواء رطبا بالمطر مع أدنى صقالة، صار كالمرآة فيتولد من ضوء الشمس الواقع في قفاه قوس قزح، فإن كان قبل الزّوال رؤي في المغرب، وإن كان بعد الزوال رؤي في المشرق، وإن كانت الشمس في وسط السماء لم يمكن أن يرى إلا قوسا صغيرا إن اتّفق. وفي معنى ذلك الهالة المحيطة بالقمر؛ إلا أنّ الهالة إنما تحصل من مجرّد برودة الهواء وإن لم يكن مطر.
وإن كان ما يخرج من مسامّ الأرض دخانا: فإن تصاعد وارتفع في وسط البخار وضربه الرّيح في ارتفاعه، ثقل وانتكس فحرّكه الهواء فحصل الرّيح. وإن لم يضربه الرّيح، تصاعد إلى عنصر النار واشتعلت النار فيه فصار منه نار تشاهد،
وربما استطال بحسب طول الدّخان فيسمّى كوكبا منقضّا. وإن كان الدّخان كثيفا واشتعل بالنار ولكنه لم يستحل على القرب، بل بقي زمانا، رؤي كأنّه كوكب ذو ذنب. وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد، صار ريحا في وسط الغيم فيتحرّك فيه بشدّة فيحصل منه صوت وهو الرّعد، فإن قويت حركته اشتعل من حرارة الحركة الهواء والدّخان فصار نارا مضيئة وهو البرق. وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا، اندفع بمصادفة الغيم إلى جهة الأرض وهي الصاعقة: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
«1» ويقرّون أن الله تعالى مكوّن الأكوان، ومنمّي المعادن والنّبات والحيوان.
فأما المعادن- فهي التي تتكوّن فيها جواهر الأرض: من الذّهب والفضّة وغيرهما. وذلك أن البخار والدّخان في الأرض فإنها [إن]«2» تجتمع وتمتزج، فإن غلب الدخان كان الحاصل منه مثل النّوشادر «3» والكبريت. وربّما تغلّب البخار في بعضه فيصير كالماء الصّافي المنعقد المتحجّر، فيكون منه الياقوت والبلّور ونحوه ممّا لا يتطرّق تحت المطارق. وإن استحكم امتزاج الدخان منه بالبخار وقلّت الحرارة المحققة في جواهرها، انعقد منه الذّهب والفضّة والنّحاس والرّصاص ونحوها مما يتطرّق بالمطرقة.
وأما النبات- فإنهم يقولون: إن العناصر قد يقع بها امتزاج واختلاط أتمّ من امتزاج البخار والدّخان المقدّم ذكره، وأحسن وأقرب إلى الاعتدال، فيحصل من ذلك النّموّ الذي لا يكون في الجمادات.
وينشأ عن ذلك ثلاثة أمور:
أحدها- التّغذية بقوّة مغذّية: وهي قوّة محيلة للغذاء تنخلع عنها صورتها
وتكسوها صورة المتغذّي، فتنتشر في أجزائه وتلتصق به وتسدّ مسدّ ما تحلّل من أجزائه.
وثانيها- التّنمية بقوّة منمّية، بأن يزيد الجسم بالغذاء في أقطاره على التناسب اللائق بالنامي حتّى ينتهي إلى منتهى ذلك الشيء.
وثالثها- التّوليد بقوّة مولّدة: وهي التي تفصل جسما من جسم شبيه به.
وأما الحيوان- فإنهم يقولون إن تكوّنه من مزاج أقرب إلى الاعتدال وأحسن من الذي قبله، من حيث إن فيه قوّة النباتية وزيادة قوّتين، وهما المدركة والمتحرّكة؛ ومهما حصل من الإدراك انبعثت الشّهوة والنّزوع، وهو إما لطلب ما يحتاج إليه في طلب الملائم الذي به بقاء الشّخص «1» : كالغذاء، أو بقاء النّوع:
كالجماع، ويسمّى قوّة شهوانية، وإما للهرب ودفع المنافي، وهي قوّة غضبيّة؛ فإن ضعفت القوّة الشّهوانية فهو الكراهة، وإن ضعفت القوّة الغضبيّة فهو الخوف.
والقوّة المدركة تنقسم إلى باطنة: كالخيالية والمتوهّمة والذّاكرة والمفكّرة، وإلى ظاهرة: كالسّمع والبصر والذّوق والشّمّ واللّمس، فاللّمس قوّة منبثّة في جميع البشرة، تدرك الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة والصّلابة واللّين والخشونة والملاسة والخفّة والثّقل. والشّمّ في زائدتي الدّماغ الشبيهتين بحلمتي الثّدي.
والسّمع في عصبة في أقصى الصّماخ، والذّوق في عصبة مفروشة على ظاهر اللّسان بواسطة الرّطوبة العذبة التي لا طعم لها، المنبسطة على ظاهر اللّسان.
والابصار يحصل عن انطباع مثل صورة المدرك في الرّطوبة الجليديّة التي تشبه البرد والجمد فإنّها كالمرآة، فإذا قابلها يكون انطبع فيها مثل صورته فتحصل الرّؤية.
ويرون أنّ النّفس محلّها العلو. ويقولون: إن النفس في أوّل الصبا تكون
عالمة بالمعقولات المجرّدة والمعاني الكلّية بالقوّة، ثم تصير بعد ذلك عالمة بالفعل.
ثم إن سعدت بالاستعداد للقبول، انقطعت حاجتها عن النّظر إلى البدن ومقتضى الحواسّ؛ إلا أن البدن لا يزال يجاذبها ويشغلها ويمنعها من تمام الاتصال بالعلويّات؛ فإذا انحطّ عنها شغل البدن بالموت ارتفع عنها الحجاب، وزال المانع، ودام الاتصال، وكمل حالها بعد فراق البدن، والتذّت به لذّة لا يدرك الوصف كنهها. وإن كانت النفس محجوبة عن هذه السعادة فقد شقيت.
وعندهم أنه إنّما تحجب باتّباع الشهوات، وقصر الهمة على مقتضى الطّبع، وبإقامته في هذا العالم الخسيس الفاني، فترسخ في نفسه تلك العادة ويتأكّد شوقه إليها، فتفوت بالموت آلة درك ذلك الشّوق ويبقى التشوّق وهو الألم العظيم الذي لا حدّ له، وذلك مانع من الوصال والاتصال. وهذه النفس ناقصة بفقد العلم، ملطّخة باتباع الشّهوات، بخلاف النّفس السابقة.
ويقولون: إن الهيولى قابلة لتركيب الأجسام، ويخالفون أهل الطبيعة في قولهم: بإنكار المعاد وفناء الأرواح، فيذهبون إلى أنّ الأرواح باقية وأن المعاد حقّ.
ويرون أن التّحسين والتقبيح راجعان إلى العقل دون الشّرع، كما هو مذهب المعتزلة وغيرهم.
ويقولون: إن الإله تعالى فاعل بالذات ليس له صفة زائدة على ذاته، عالم بذاته وبسائر أنواع الموجودات وأجناسها، لا يعزب عن علمه شيء، وإنه يعلم الممكنات الحادثة.
ويقولون بإثبات النبوّات لأن العالم لا ينتظم إلا بقانون متبوع بين كافّة [الناس]«1» يحكمون به بالعدل، وإلّا تقاتلوا وهلك العالم، إذ النبيّ هو خليفة الله في أرضه، بواسطته تنتهي إلى الخلق الهداية إلى مصالح الدّنيا والآخرة، من
حيث إنه يتلقّى عن الملك والملك يتلقّى عن الله تعالى؛ إلا أنهم يقولون: إن النبوّات غير متناهية وإنها مكتسبة ينالها العبد بالرياضات. وهاتان المقالتان من جملة ما كفروا به: بتجويز النّبوّة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي أخبر تعالى أنه خاتم النبيين، وقولهم إنها تنال بالكسب.
وقد حكى الصّلاح الصّفديّ في «شرح لامية العجم» أن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب إنما قتل عمارة اليمنيّ الشاعر، حين قام فيمن قام بإحياء الدولة الفاطميّة بعد انقراضها، على ما تقدّم ذكره في الكلام على ترتيب مملكة الديار المصرية في المقالة الثانية، مستندا في ذلك إلى بيت نسب إليه من قصيدة، وهو قوله:
وكان مبدأ هذا الدّين من رجل
…
سعى فأصبح يدعى سيّد الأمم «1»
فجعل النبوّة مكتسبة، [وهم مجمعون]«2» على أن الله تعالى ليس بجسم ولا جسمانيّ، وأنه ليس في جهة ولا يدخل تحت الحدّ والماهيّة.
وهذه نسخة يمين رتبها لهم في «التعريف» ؛ وهي:
إنني والله والله والله [العظيم]«3» ، الذي لا إله إلا هو، الواحد الأحد، الفرد الصّمد، الأبديّ، السّرمديّ، الأزليّ، الذي لم يزل علّة العلل، ربّ الأرباب، ومدبّر الكلّ [القدير]«4» القديم؛ الأوّل بلا بداية، والآخر بلا نهاية، المنزّه عن أن يكون حادثا أو عرضا للحوادث، الحيّ الذي اتّصف بصفات البقاء والسرمدية والكمال، والمتردّي برداء الكبرياء، والجلال، مدبّر الأفلاك ومسيّر