الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهلها حتّى تسمع باغتباطها؛ وعند ذلك يتحدّث كلّ منهم بلسان الشّكور، ويتمثل بقوله تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
«1» واعلم أنه قد يجاورك في بعضها جيران ذو بلاد وعساكر، وأسرّة ومنابر، وأوائل للمجد وأواخر؛ وما منهم إلا من يتمسّك منّا بودّ سليم، وعهد قديم، وله مساعدة نعرف له حقّها (والحقّ يعرفه الكريم) .
فكن لهؤلاء جارا يودّون جواره، ويحمدون آثاره؛ وإن سألوك عهدا فابذله لهم بذل وفيّ واقف على السّنن، مساو بين السرّ والعلن؛ ولا يكن وفاؤك لخوف تتّقي مراصده، ولا لرجاء ترقب فوائده؛ فالله قد أغناك أن تكون إلى المعاهدة لاجيا، وجعلك بنا مخوفا ومرجوّا لا خائفا ولا راجيا؛ وقد زدناك فضلة في محلك تكون بها على غيرك مفضّلا، وقد كنت من قبلها أغرّ فأوفت بك أغرّ محجّلا؛ وذاك أنّا جعلناك على آية الخيل تقودها إلى خوض الغمار، وتصرّفها في منازل الأسفار، وترتّب قلوبها وأجنحتها على اختلاف مراتب الأطوار؛ فنحن لا نلقى عدوّا ولا ننهد إلى بلد إلا وأنت كوكبنا الذي نهتدي بمطلعه، ومفتاحنا الذي نستفتح المغلق بيمن موقعه، ونوقن بالنصر في ذهابه وبالغنيمة في مرجعه؛ والله يشرح لك صدرا، وييسّر لك منّا أمرا، ويشدّ أزرنا بك كما شدّ لموسى بأخيه أزرا، والسلام.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح التوقيع بالإقطاع بلفظ: «أما بعد فإنّ كذا» )
ويذكر ما سنح له من أمر السلطان أو الإقطاع أو صاحبه، ثم يتعرّض إلى أمر الإقطاع؛ وهو دون الأسلوب الذي قبله في الرتبة.
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا الأسلوب، كتب بها لأمير قدم على الدولة فاستخدمته؛ وهي:
أما بعد، فإنّ لكلّ وسيلة جزاء على نسبة مكانها، وهي تتفاوت في أوقات وجوبها ومثاقيل ميزانها؛ ومن أوجبها حقّا وسيلة الهجرة التي طوى لها الأمل من شقّته ما طوى، وبعث بها على صدق النّية «ولكلّ امريء ما نوى» ؛ فالأوطان إليها مودعة، والخطوات موسّعة، والوجوه من برد الليل وحرّ النهار ملفّعة، وقد توخّاها قوم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحظوا في الدّنيا باعتلاء المنار، وفي الآخرة بعقبى الدار، وقدّموا على من آوى ونصر فقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ
«1» ؛ ثم صارت هذه سنّة فيمن هاجر من أقوام إلى أقوام، واستبدل بأنام عن أنام؛ وكذلك فعلت أيّها الأمير فلان- وفقك الله- وقد تلقّيت هجرتك هذه بالكرامة، وزخرفت لها دار الإقامة؛ فما ابتغيت بها بغية إلا سهّلت لك فجاجها، أو عاج عليك معاجها، وحمد لديك تأويبها وإدلاجها، وأصبحت وقد وجدت خفضا غبّ السّرى، وخيطت منك الجفون على أمن الكرى، وتبوّأت كنف الدولة التي هي أمّ الدّول إذ صرت إلى القرية التي هي أمّ القرى.
ونحن قد أدنيناك منّا إدناء الخليط والعشير، ورفعناك إلى محلّ الاختصاص الذي هو المحلّ الأثير، وآخينا بينك وبين عطايانا كما ووخي بين الصّحابة النّبويّة يوم الغدير.
هذا ولك وسيلة أخرى تعدّ من حسان المناقب، وتوصف بالصّفات الأطايب؛ وما يقال إلا أنها من الأطواد الرّواس، وأنها تبرز في اللباس الأحمر وغيرها لا يبرز في ذلك اللّباس؛ وهي التي تجعلك بوحدتها في كثرة، وتتأمّر بها من غير إمرة؛ وطالما أطالت يدك بمناط البيض الحداد، وفرّجت لك ضيق الكرّ وقد غصّ بهوادي الجياد، وحسّنتك العيون وقد رميت منك بشرق القذا ونبوة السّهاد؛ ومن شرف الإقدام أن العدوّ يحبّ العدوّ من أجله، ويضطرّه إلى أن يقرّ بفضله؛ ومذ وصلت إلينا وصلناك بأمرائنا الذين سلفت أيّامهم، وثبتت في
مقامات الغناء أقدامهم، وتوسّمنا أنك الرجل الذي يزكو لديك الصّنيع، وأنك ستشفعه بحقوق خدمتك التي هي نعم الشفيع.
وقد عجّلنا لك من الإقطاع ما لا نرضى أن تكون عليه شاكرا، وجعلناه لك أوّلا وإن كان لغيرك آخرا؛ وهو مثبت في هذا التّوقيع بقلم الديوان الذي أقيم لفرض الجند كتابا، ولمعرفة أرزاقهم حسابا؛ وهو كذا وكذا.
فتناول هذا التّخويل الذي خوّلته باليمين، واستمسك به استمساك الضّنين.
واعلم أنه قد كثر الحواسد لما مددناه من صنعك، وبسطناه من ذرعك؛ فأشج حلوقهم بالسّعي لاستحقاق المزيد، وارق في درجات الصّعود وألزمهم صفحة الصّعيد.
والذي نأمرك به أن [تعدّ]«1» نفسك للخدمة التي جعلت لها قرنا وأنت بها أغنى، وأن تنتهي فيها إلى الأمد الأقصى دون الأدنى؛ فلا تضمم جناحك إلّا على قوادم من الرجال لا على خواف، وإذا استنفرت فانفر بثقال من الخيل وخفاف، وكن مذخورا لواحدة يقال فيها: يا عزائم اغضبي، ويا خيل النّصر اركبي؛ وتلك هي التي تتظلّم بها الجماجم من الضّراب، وتلاقى فيها عصب الغربان والذّباب؛ ولا تحتاج مع هذه إلى منقبة تتجمّل بتفويفها، وتتكثّر بتعريفها، وتنتمي إلى تليدها باستحداث طريفها.
والله تعالى يشدّ بك أزرا، ويملأ بك عينا وصدرا، ويجعل الفلج مقرونا برأيك ورايتك حتّى يقال:«ومكروا مكرا» وجرّدنا بيضا وسمرا؛ والسلام إن شاء الله تعالى.