الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الجزء الثالث عشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
المقالة السادسة فيما يكتب في [الوصايا الدينية
، و] «1» المسامحات، والإطلاقات السلطانية والطّرخانيات، وتحويل السنين والتذاكر؛ وفيها أربعة أبواب:
الباب الأوّل في الوصايا الدينيّة؛ وفيه فصلان
الفصل الأول فيما لقد ماء الكتّاب من ذلك
اعلم أنّه كان لقدماء الكتّاب بذلك عناية عظيمة بحسب ما كان للملوك من الإقبال على معالم الدّين؛ ومن أكثرهم عناية بذلك أهل الغرب: لم يزالوا يكتبون بمثل ذلك إلى نواحي ممالكهم، ويقرأ على منابرهم؛ ولهم في ذلك الباع الطويل والهمة الوافرة.
وهذه نسخة من ذلك كتب بها بها أبو زيد الداراري: أحد كتّاب الأندلس عن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين المنصور: أحد خلفاء بني أميّة «2» بالأندلس؛ وهي:
الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلين تتفرّع عنهما مصالح الدنيا والدّين، وأمر بالمعروف والإحسان إرشادا إلى الحق المبين، والصلاة على سيدنا محمد الكريم المبتعث بالشريعة التي طهّرت القلوب من الأدران واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان طورا بالشّدّة وتارة باللين، القائل- ولا عدول عن قوله عليه السلام:«من اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه» تنبيها على ترك الشكّ لليقين، وعلى آله الكرام أعلام الإسلام المتلقّين راية الاهتداء في إظهار السّنن وإيضاح السّنن باليمين، الذين مكّنهم الله تعالى في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر: وفاء بالواجب لذلك التمكين.
والرّضا عن الأئمة المظهرين للدّين المتين، البالغين بالبلاد والعباد نشرا
للعدل وإتماما للفضل إلى أقصى غاية التمهيد والتأمين، رضي الله عنهم أجمعين! وعن تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين!.
وإنّا كتبناه لكم- كتب الله لكن اتّباعا إلى ما ينهى من المصالح إليكم، واستماعا إلى ما يتلى من المواعظ عليكم- من حضرة إشبيلية «1» - كلأها الله-.
والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته والاستعانة به والتوكّل عليه، وأن تعلموا أنا لم نقم هذا المقام الذي حفظ الله به نظام الحق من انتثاره، وأمدّنا بعونه الجميل على إحياء الدّين وإفاضة أنواره، إلا لنستوفي كلّ نظر يعود على الأمة باستقامة أخراها وأولاها، ونهيب بها إلى أسمى رتب السعادة وأعلاها، ونوقظ بصائرها بنافع الذكرى من كراها. فعلينا لها بحكم ما تقلّدناه من إمامتها، وتحمّلناه من أمانتها، أن نتخوّلها بالحكمة والموعظة الحسنة، ونرشدها إلى المناهج الواضحة والسّبل البيّنة، ونضفي على خاصّتها وعامّتها ظلّ الدّعة والأمنة؛ وإذا كنّا نوفّيها تمهيد دنياها، ونعتني بحماية أقصاها وأدناها، فالدّين أهمّ وأولى، والتّهمّم بإحياء شرائعه وإقامة شعائره أحقّ أن يقدّم وأحرى. وعلينا أن نأخذ بحسب ما نأمر به وندع، ونتّبع السّنن المشروعة ونذر البدع، ولها أن لا ندّخر عنها نصيحة، ولا نغبّها «2» إرادة من الأدواء مريحة، ولنا [عليها]«3» أن تطيع وتسمع؛ وقد علم الله أنا لم نتحمّل أمانة الإسلام، لنستكثر من الدنيا وزخرفها، ولم نتصدّ لهذا المقام، لنستأثر بنعيمها وترفها، وإنما كان قصدنا قبل وبعد إقامة الكافّة في أوثر قراها وأوطإ كنفها؛ وبحسب هذه النية التي طابقها العمل، ولم يتعدّها الأمل، نيلت من الخيرات نهايات، كانت الخواطر تستبعد منالها، وتيسّرت
إرادات، كانت الأمّة منذ زمان لم تر مثالها، وساعدت العناية الربّانيّة فلم تؤن «1» مقصودا جميلا، ولا منّا جزيلا.
وإلى هذا- أدام الله كرامتكم- فإنا لم نزل مع طول المباشرة للأحوال كلّها، وتردّد المشاهدة لعقد الأمور وحلّها، نقف وقوف المتأمل على جزئيّات الأمور وكليّاتها، ولا يغيب عن تصفّحنا وتعرّفنا شيء من مصالح الجهات وكيفيّاتها، ولم نمرّ بمائل إلا تولّينا إقامته، وأعدنا إليه اعتداله واستقامته ولا انتهينا إلى صواب قول أو عمل إلا شدنا مبناه، وأظهرنا لفظه ومعناه.
والآن حين استوفى إشرافنا على البلاد قاطبة، ولزمنا بحكم القيام لله في خلقه بحقّه أن نتعهّد الكافّة دانية ونائية وشاهدة وغائبة، ورجونا أن نتخلّص من القسم الأوّل في قوله عليه السلام:«اللهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به» بأعمال على الرّفق دائبة، وعلى الحقّ مواظبة- صرفنا أعنّة الاعتناء بجوامع المصالح فرأينا الدّين ينظم تبدّدها، ويستوعب تعدّدها، لا تشذّ مصلحة عن قوانينه، ولا تنال بركة إلا مع تحصينه وتحسينه؛ والله تعالى يعيننا وإياكم على إقامة حدوده، وإدامة عهوده. وأوّل ما يتناول به الأمر كافّة المسلمين الصلاة لأوقاتها، والأداء لها على أكمل صفاتها، وشهودها إظهارا لشرائع الإيمان في جماعاتها، فقد قال عليه السلام:«أحبّ الأعمال إلى الله الصّلاة؛ فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع» . وقال عمر رضي الله عنه: «ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصّلاة» ؛ فهي الرّكن الأعظم من أركان الإيمان، والأسّ الأوثق لأعمال الإنسان، والمواظبة على حضورها في المساجد، وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزيّة على صلاة الواحد، أمر لا يضيّعه المفلحون، ولا يحافظ عليه إلا المؤمنون. قال ابن مسعود رضي الله عنه:«لقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النّفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرّجلين حتّى يقام في الصّف» ، وشهود الصبح والعشاء الأخرة شاهد بتمحيص الإيمان؛
وقد جاء: «إن شهود الصّبح في جماعة يعدل قيام ليلة» وحسبكم بهذا الرّجحان.
والواجب أن يعتنى بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدّين، ويؤخذ بها في كافّة الأمصار الصغير والكبير من المسلمين، ويلحظ في التزامها قوله عليه السلام:
«مروا أولادكم بالصّلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين» . وبحسب ذلكم رأينا أن نلزم جار كلّ مسجد، وأمير كلّ سوق وشيخ كلّ زقاق ومعلّم كلّ جهة الانتداب لهذا السعي الكريم، والبدار لما فيه من الأجر العظيم، وأن يحضّ كلّ من في جهته أو سوقه أو حومة مسجده أو موضع صنعته أو تجارته أو تعليمه على الصّلاة وحضورها، والاعتناء بأحكام طهورها، وأن لا يتخلّف عن الجماعة إلا لعذر بيّن، أو أمر يكون معه الشّهود غير ممكن. وعليهم أن يلتزموا هذه الوظيفة أتمّ التزام، ويقوموا بها مؤتجرين «1» أحسن قيام، ويشمّروا عن ساعد كلّ جدّ واعتزام، ويتعرّفوا كلّ من تحتوي عليه المنازل ممن بلغ حدّ التكليف من الرجال، ويتعهدوهم الحين بعد الحين والحال إثر الحال، ويطلبوهم بالذّكر بملازمة هذا العمل الذي قدّمه الله على سائر الأعمال. وليحذر المسلم أن يواقع بإضاعة المكتوبة أمرا إمرا «2» ، ويترك من فرائض الإسلام ما يقتل متعمّد تركه حدّا أو كفرا.
وعلى معلّمي كتاب الله أن يأخذوا الصّبيان بتعلّم الصلاة والطهارة والإدامة لإقامتها والموالاة وحفظ ما تقام به وأقلّ ذلك سورة فاتحة الكتاب. وعلى كل إنسان في خاصّته أن يأخذ صغار بنيه وكبارهم وسائر أهله ومن إلى نظره بذلك ويأمرهم به؛ قال الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها
«3» ، وقال عليه الصلاة والسلام:«كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» .
ثم اعلموا أنّ الصلاة بما آثرها الله به من وظائفها الشريفة، وخصائصها
المنيفة، تنتظم من أعمال البرّ ضروبا لا تحصر، وتعصم من مواقعة ما يشنأ «1» وينكر، وتحظي من الخيرات العميمة الجسمية بالقسم الأوفى الأوفر؛ قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
«2» ونحن لا نوسع تاركها بحال عذرا، ولا نؤخّر له عقابا وزجرا، ولا نزال نجبره على إقامتها قسرا، وإذا استمرّ التعهّد لها مع الأحيان، وعمل الناس بما جدّدناه من إجراء التذكير بها بين القرابة والصّحابة والجيران، وتواصوا بالمحافظة عليها حسب الإمكان، لم تزل بيوت أذن الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه معمورة بتلاوة القرآن، ولم تنفكّ إلا للإقامة عن الأذان.
ومما يزيد هذه الوظيفة تأكيدا، ويوفّي قواعدها تشييدا، درس كتاب الصلاة والطهارة حتّى يستكملوه وعيا وحفظا، ويؤدّوا مضمّنه لفظا، فلفظا، ففي ذلك من الإشراف على أحكام العبادتين ما تبين مزيّته وفضله، ولا يسمع المؤمن بحال جهله؛ ثم إذا أحكموه انتقلوا إلى درس كتاب الجهاد، وعمروا الآناء بتعرّف ما أعدّ الله للمجاهدين من الخير المستفاد؛ فالجهاد في سبيل الله فرض على الأعيان، وقد تأكّد تعيّنه لهذه البلاد المجاورة لعبدة الأصنام والصّلبان، ونرجو أن ينجز الله ما وعد به من الفتح القريب لأهل الإيمان؛ وليطلبوا الناس بعرض ما يتدارسون تثبيتا لمحفوظاتهم «3» ، واستزادة لقسمهم من الأجر وحظوظهم.
ومن مقدّمات الجهاد، وأقوى أسباب الاعتداد، تعلّم الرّماية التي ورد الحضّ عليها، وندب الشرع إليها. قال عليه السلام في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
«4» «ألا إنّ القوّة الرّمي» ، قالها ثلاثا: فأظفروا الناس بتعلمهم، ولترتّبوهم طبقات على قدر إجادتهم وتقدّمهم، قال عليه السلام: «من
ترك الرّمي بعد ما علّمه رغبة عنه فإنّها نعمة تركها أو قال كفرها» ، وقال عليه السلام:«من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدوّ أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة» .
وليعلموا أنهم يطلبون في وقت الحاجة بما يثمره هذا التأكيد من بدارهم، ويترتّب عليه من ائتمارهم، وليحرصوا على أن يلفى عددهم وافرا في حالتي إيرادهم وإصدارهم.
ومما فيه مصلحة كريمة الأثر، واضحة الحجول والغرر، يكون ذكرها جميلا، وأجرها جزيلا، تعهّد الضّعفاء والفقراء، وإسهامهم من الكثير كثيرا ومن القليل قليلا بحسب الإصابة والرّخاء، ووضع الصدقات في أهل التعفّف الذين لا يسألون الناس إلحافا أوّل ما يجيء حين العطاء؛ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«ليس المسكين بهذا الطّوّاف الذي يطوف على الناس فتردّه التّمرة والتّمرتان، وإنّما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل النّاس» ؛ فتفقّدوا هذا الصّنف فهو أولى بالإيثار، وأحقّ أهل الإقتار، والمؤمنون إخوة ويعنى الجار بالجار، وليعن الغنيّ الفقير فذلك من مكارم الآثار.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة تعيّنت إقامتها على المسلمين جميعا؛ فمن رأى منكرا فلينهه إليكم وعليكم تغييره وتعفية أثره على ما يوجبه الدّين ويقتضيه، وليأخذوا الحقّ من كل من تعيّن عليه سواء في ذلك القويّ والضعيف، والمشروف والشريف؛ وكلّ من ارتكب منكرا كائنا من كان، عزّ قدره أوهان، فليبالغ في عقابه، وينكّل على قدر ما ارتكب من المنكر وأتى به، فقد قال عليه الصلاة والسلام:«إنّما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ؛ وإنّني والّذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» ، وقال لأسامة في الحديث نفسه:«أتشفع في حدّ من حدود الله» ؛ وقد حدّ عمر رضي الله عنه ولده، وحدّ عثمان رضي الله عنه أخاه. فلتكن هذه الوظيفة منكم بمرأى ومسمع، ولتسلكوا
في إقامتها على الخامل والنّبيه أوضح مهيع، ووفّوا المعروف حقّه من الإظهار، وتلقّوا المنكر بأتمّ وجوه الإنكار، ثم عليكم أجمعين بالتّواصي بالخير والتّعاون على البرّ والتقوى: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
«1» وقال عليه السلام:
«لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تجسّسوا وكونوا عباد الله إخوانا» .
وبالجملة فعلى المؤمن أن يستنفد وسعه في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسّلف من بعده؛ ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة؛ ولم ينشأ ما نشأ من الأهوال، ولا طرأ في هذه الأمة ما طرأ من الاختلال، إلا بمفارقة الاقتداء الذي هو للدّين رأس المال؛ ورضي الله عن عمر حيث قال:«فرضت الفرائض وسنّت السّنن وتركتم على الواضحة إلا أن تضلّوا بالناس يمينا وشمالا» .
ومن أشدّ المنكرات- بغير نكير- وجوب تغيير: الخمر التي هي أسّ الإثم والفجور، وأمّ الخبائث والشّرور، وأسّ كلّ خطيئة ورأس كل محظور؛ فليشتدّ أتمّ الاشتداد في أمرها، ويبحث غاية البحث عن مكامن عصرها، ويتفقّد الأماكن المتّهمة ببيعها، ويتسبّب بكلّ وجه وكل طريق إلى قطعها، وليبادر حيث كانت إلى إراقة دنانها، وليبالغ إلى أقصى غايات الاجتهاد في شانها؛ وإنّ الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه؛ فليتّق الله مدمن شربها فإنها رجس من عمل الشيطان، وليحذر ما في قوله عليه السلام:«لا يشرب المؤمن الخمر حين يشربها وهو مؤمن» من إخراجه عن أهل الإيمان؛ وشرب الخمر لجاج في الطّبع، فلا خير فيها مع الاعتناء المبنيّ على الشّرع؛ ولو نهي الناس عن فتّ البعر لفتّوه حرصا غالبا على ما تقدّم فيه من الزّجر والمنع، فمن عثر عليه بعد من شارب لها أو عاصر، مستسرّ بها أو مجاهر، فليضرب الضرب المبرّح، ويسجن السجن الطويل، وليبقّ إلى أن تصحّ توبته صحة لا تحتمل التأويل؛ ثم إن عاد فالحسام المصمّم يحسم داءه إذا أعضل، ويصدّ به سواه عما استحلّ من هذا الحرام واستهسل.
ومن أشدّ ما حذّر منه، وأكّد النهي عنه، كتب الفلسفة لعن الله واضعها! فإنهم بنوها على الكفر والتعطيل، وأخلوها من البرهان والدّليل، وعدلوا بها ضلالا وإضلالا عن سواء السبيل، وجعلوها تكأة لعقائدهم ومقاصدهم المخيّلة ركونا إلى الباطل وتمسّكا بالمستحيل، وقد كان سيدنا الإمام المنصور رضي الله عنه قد جدّ فيها بالتحريق والتّمزيق، وسدّ بإمضاء عزمه المسدّد ورأيه المؤيّد وجوه طلّابها بكل طريق، فحسبنا أن نقتدي في ذلك بأثره الجميل، ونأخذ في إحراقها حيث وجدت وإهانة كاتبيها وطالبيها وقاريها ومقريها، ولا يعدل عن السيف في عقاب من انتحلها واستوهبها- وإن السيف في حقّه لقليل؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام:
«تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّة نبيّه» وبحسب العاقل كتاب الله وسنّة الرسول.
ويتعلق بهذا المنهيّ عنه ما استرسل فيه مردة أهل الأهواء، والمتنكّبون فيما تلبّسوا به من الأدران عن سنن الاهتداء، أولئك قوم اعتقدوا إباحة المحظورات كلّها، وعدّوا بإيهاماتهم السخيفة، وتخيّلاتهم الضعيفة، كلّ واهي العقد منحلّها، وادّعوا أنهم من الملة وأعمالهم تقضي بأنهم ليسوا من أهلها؛ فليبحث عن ذلك الصّنف الأوّل وهذا الثان، فمذهبنا أن نطهّر دين الله مما لصق به من الأدران، وأن نعيده إلى ما كان عليه قبل والله المستعان.
ومن الوظائف التي يجب أن تعتنوا بها غاية الاعتناء، وأن تقدّموا النظر فيها على سائر الأشياء، أمر أسواق المسلمين فقد اتّصل بنا ما تطرّق للتّجارات من مسامحات تعفّي عليها الخدع، ولا ينثرها إلا الحرص والطمع، ولا توافق الشرع ولا يطابقها الورع، حتى شاب أكثر المعاملات الفساد، ولا يجري على القانون الشرعيّ في كثير من المبايعات الانعقاد، وتصدّى المتحيّلون فيها لحيل يقصدونها، وأنواع لاجتلاب السّحت «1» يرصدونها؛ وربّما ورد التاجر من القطر
الشاسع، وحسّن الظنّ بالمشتري منه أو البائع، فيبلغ في خدعته، والإضرار به في سلعته، أسو أالمبالغ، ويرتكب من محرّم الخلابة «1» ما ليس بالسائغ، وسمع من ذلك أن من لا يتّقي الله تعالى يلابس الرّبا في تجارته، ويبني عليه جميع إدارته؛ وحفظ المكاسب من الخبائث أوجب الواجبات، والحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات، ويمحق الله الرّبا ويربي الصدقات؛ فلتلزموا الأمناء المعروفين بالدّيانة، المشهورين بالأمانة، تفقّد هذه الأسواق، وليحص كلّ أمين من تشتمل عليه سوقه من التّجّار، وليعرف المختار منهم من غير المختار، ومن لا يصلح للتجارة في سوق المسلمين يقام منها على أسو إ حال، ومن عثر منهم على ربا في معاملته عاجلتموه بأشدّ العقاب وأسو إ النّكال؛ فخلّصوا المتاجر من الشوائب، ومروهم بأن يسيروا في بيعهم وشرائهم واقتضائهم على أجمل المذاهب، وأن يحذروا الغشّ فقد قال عليه السلام:«من غشّنا فليس منّا» والانتفاء من الإيمان من أعظم المصائب؛ وإذا اعتبرت في المبايعات الوجوه الشرعيّة ولحظت الأحكام زكّى الله عمل التاجر، وبورك له فيما يدير من المتاجر. ثم لتوصوا كلّ من تقدّمونه لشغل من الأشغال أن يبدأ بصلاح نفسه قبل سواها، وأن يلتزم الأعمال التي يؤثرها الله تعالى ويرضاها، وحذّروهم كلّ الحذر أن تقفوا لهم على ما يشين، أو تسمعوا لهم قبيحا يخفى أو يبين؛ فمن سمعتم عنه أدنى سبب من هذا فعاجلوه بالعقاب الشّديد، والنّكال المبيد، إن شاء الله تعالى والسلام.
قلت: وعلى هذه المعاني والأمور المأمور بها في هذا الكتاب قد كانت الخلفاء تكتب بها في المكاتبات على أنحاء متفرّقة على ما تقدّم في مقاصد المكاتبات من المقالة الرابعة، وكانوا يولّون على الصلاة والمساجد من يقوم بأمرها على ما تقدّم، وإنّ أكثر هذه الأمور الآن مضمّنة في تواقيع أصحاب الحسبة على ما تقدّم ذكره في الكلام على الولايات في المقالة الخامسة، وبالله التوفيق.