الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بكلاري بك أكبر أمراء الألوس بمملكة إيران: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم» . وإلى الثلاثة الذين دونه: «أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم» ، ثم استقر «أعز الله تعالى أنصار الجناب الكريم» . وأن المكاتبة إلى الوزير:
«ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي» . والمعنى في ذلك ما تقدّم من أنه ليس لأمراء الألوس والوزير بهذه المملكة من التصرّف ما لأمراء الألوس والوزير من التّصرّف بتلك المملكة.
قجا علي بك بهذه المملكة. قال في «التثقيف» : وهو ممن استحدثت المكاتبة إليه في سنة خمس وستين وسبعمائة.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التثقيف» الاسم و «الساميّ» بالياء وتعريفه اسمه.
الصنف الثاني (الحكّام بالبلاد بهذه المملكة)
وها أنا أذكر من ذكر المكاتبة إليه منهم في «التثقيف» .
الحاكم بالقرم «1» : وهو إقليم شماليّ بحر نيطش «2» . وقاعدته مدينة صلغات، وهي مدينة على نصف يوم من البحر، وقد غلب عليها اسم القرم. وقد ذكر في «التثقيف» أن الحاكم بها في سنة خمسين وسبعمائة كان اسمه زين الدين رمضان؛ ثم استقرّ بعده علي بك ابن عيسى بن تلكتمر. وقد رأيت في بعض
التواريخ أن الحاكم بها في حدود ستّ وسبعين وسبعمائة كان ماماي «1» المقدّم ذكره.
وقد ذكر في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إلى الحاكم بها في قطع العادة، والعلامة «أخوه» و «صدرت» و «العالي» . والذي رأيته في دستور يعزى في الأصل للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنه يكتب إليه في قطع الثلث وأن المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. وتعريفه «الحاكم بالقرم» .
الحاكم بأوزاق: وهي مدينة على بحر مانيطش «2» المقدّم ذكره في الكلام على المسالك والممالك. وهو المعروف الآن ببحر الأزق «3» ؛ وهي عن القرم في جهة الجنوب والشرق، وبينهما نحو خمس عشرة مرحلة. قال في «التثقيف» :
ورسم المكاتبة إلى الحاكم بها مثل الحاكم بالقرم على السواء. والذي رأيته في الدّستور المقدّم ذكره أنه في قطع الثلث «السامي» بالياء كما في الحاكم بالقرم.
(الثاني (من ملوك توران من بني جنكزخان صاحب ماوراء النهر)) وقاعدة ملكه في القديم بخارا، والآن سمرقند. ومن مضافاتها غزنة «4» وما والاها من متاخم الهند. وقد تقدّم الكلام عليها مستوفى في الكلام على المسالك والممالك. وقد ذكر في «التعريف» أنّ آخر ما استقرّت لترماشيرين، وكان حسن الإسلام عادل السّيرة، طاهر الذّيل، مؤثرا للخير، محبّا لأهله، مكرما لمن يرد من العلماء والصّلحاء، وطوائف الفقهاء والفقراء.
قال: وكتب إليه على رسم المكاتبة إلى صاحب إيران. وقد تقدّم في الكلام على المكاتبة إلى صاحب إيران نقلا عن «التعريف» أنه يكتب إليه في قطع
البغداديّ الكامل، يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة الغراء المكتتبة بالذهب المزمّك بألقاب سلطاننا على عادة الطّغراوات؛ ثم تكمّل الخطبة ويفتتح ببعدية إلى أن تساق الألقاب، وهي:«الحضرة العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، الشاهنشاهيّة، الأوحدية، الأخوية، القانيّة، الفلانية» . ولا يخلط بها «الملكية» لهوانها عليهم؛ ثم يدعى له بالأدعية المفخّمة الملوكية: من إعزاز السّلطان، ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ونشر الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير البنود، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ثم يقال ما فيه التصريح والتلويح بدوام الوداد، وصفاء الاعتقاد، ووصف الأشواق، وكثرة الأتواق، وما هو من هذه النسبة؛ ثم يؤتى على المقاصد، ويختم بدعاء جليل وتستعرض المراسيم والخدم، ويوصف التطلّع إليها، ويظهر التهافت عليها؛ وأنه تكتب جميع خطبة الكتاب وطغراة بالذهب المزمّك، وكذلك كلّ ما وقع في أثنائه من اسم جليل، وكل ذي شأن نبيل: من اسم الله تعالى أو لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أو ذكر الإسلام، أو ذكر سلطاننا أو السلطان المكتوب إليه، أو ما هو متعلّق بهما، مثل لنا ولكم، وكتابنا وكتابكم، جميع ذلك يكتب بالذهب وما سواه بالسّواد. وأن العنوان يكون بالألقاب إلى أن ينتهي إلى اللقب الخاص؛ ثم يدعى له بدعوة أو اثنتين نحو أعزّ الله تعالى سلطانها، وأعلى شانها؛ ونحو ذلك. ثم يسمّى اسم السلطان المكتوب إليه؛ ثم «يقال» خان: مثل أن يقال: ترماشيرين خان، ويطمغ بالذهب طمغات عليها ألقاب سلطاننا تكون على الأوصال، يبدأ بالطّمغة على اليمين في أوّل وصل، وعلى اليسار في ثاني وصل، ثم على هذا النمط إلى أن ينتهي في الآخر إلى اليمين، ولا يطمغ على الطرّة البيضاء. والكاتب يخلي لمواضع الطّمغة مواضع الكتابة تارة يمنة، وتارة يسرة، إلى غير ذلك مما سبق القول عليه.
قلت: وآخر ما استقرّت هذه المملكة لتمرلنك «1» ؛ وتمر اسمه الذي هو علم
عليه، ومعناه بالتركية حديد. ولنك لقب عليه، ومعناه بالفارسية أعرج: لأنّه كان به عرج ظاهر؛ ولذلك تسمّيه التّرك تمر أقصق، إذ أقصق عندهم بمعنى أعرج. وهو يتسمّى في كتبه تيمور كوركان. ومن هذه المملكة انساب على بلاد إيران حتّى استولى على جميعها، وسار إلى بلاد الهند فاستولى عليها؛ ثم طاح إلى الشام في سنة ستّ «1» وثمانمائة وعاث فسادا، وخرّب وأفسد ولقيه السلطان «الملك الناصر» فرج ابن الظاهر برقوق صاحب مصر والشام على دمشق؛ وجرت بينهما مراسلة؛ ثم طرأ للسلطان الملك الناصر ما أوجب عوده إلى مصر لأمر عرض له من جهة
بعض أمرائه «1» ، وبقى تمرلنك نازلا بالشام محاصرا لدمشق، إلى أن خدع أهلها وفتحها صلحا، ثم غدر بهم ونهبها وسبى حريمها، ثم حرّقها بعد ذلك بعد أن أسرف في القتل وأثخن في الجراج، وأمعن في الأسر.
وللمكاتبة إليه حالتان:
الحالة الأولى- حين كان السلطان الملك الناصر فرج- عزّ نصره- بالشام محاربا له، وكتبه حينئذ ترد في القطع الصغير على ما سيأتي ذكره، وكان يكتب إليه حينئذ في قطع «2» مما فات المؤلف رحمه الله تعالى ما كتب عن مولانا الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق، تغمّده الله تعالى برحمته ورضوانه، في جواب الأمير تمرلنك المدعو تيمور، عن الكتب الواردة منه قبل ذلك- من إنشاء المرحوم المقرّ البدريّ محمد، ابن المرحوم المقرّ العلائيّ عليّ ابن المرحوم المقرّ المحيوي يحيى، بن فضل الله العمري العدويّ القرشيّ
رحمهم «1» الله تعالى- في سنة ست وتسعين وسبعمائة، عند سفر مولانا السلطان المشار إليه إلى حلب المحروسة لملتقى المذكور، في قطع الثلث بغير علامة؛ وسعة ما بين السطور قدر عرض الإصبعين. والطرّة وصلان، طولهما نحو الذّراع الهاشميّ، وكان عنوان كتاب تمرلنك الذي ورد آخرا وهو الذي اقتضى الحركة الشريفة والجواب المشار إليه.
سلام وإهداء السّلام من البعد
…
دليل على حسن المودّة والعهد
فكتب العنوان الشريف:
طويل حياة المرء كاليوم في العدّ
…
فخيرته أن لا يزيد عن الحدّ!
فلا بدّ من نقص لكلّ زيادة
…
لأنّ شديد البطش يقتصّ للعبد!
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العليّ الشان، العظيم السلطان، العميم الإحسان، العليم بما
كان وما يكون في كل زمان ومكان؛ تاهت في ميادين فلوات معرفته سوابق جياد الأفهام، وتدكدكت لهيبة جلاله جبال العقول والأوهام؛ وصلّى الله على سيدنا محمد حبيب الرحمن، وسيد الأكوان، وصاحب المعجزات والبرهان، المبعوث إلى الخلق أجمعين من الإنس والجانّ، والمنعوت بالفضل العميم، والخلق العظيم، في التّوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعلى آله وصحبه الغرّ الكرام الحسان، وعلى التابعين لهم بإحسان، وسلّم تسليما كثيرا ما تعاقب الحدثان.
وبعد، فقد وصل إلى أبوابنا الشريفة العالية كلّ ما جهّزته أوّلا وآخرا يا أمير تيمور من كتاب، وأحاطت علومنا الشريفة بما فيها من كلام وخطاب؛ وقصد وعتاب، وإرعاد وإرغاب وإرعاب.
فأما ما ذكرته في أوّل كتبك من ألقابنا الشريفة بالتعظيم، والتّبجيل والتفخيم؛ فقد علمناه وعرفناه، ولكن وجدنا الكلمتين اللتين في الطمغات آخر الكتب وهما راستي رستي منافيتين لذلك التعظيم، وهذا غير مستقيم؛ لأنه متناقض غير متناسب، فعجبنا من هذا التناقض الواضح، والتخالف الفاضح؛ وفي المثل السائر:«أصلح وقابل وأفسد وقابل» .
وأمّا إرسالك السيف والتّركاش «1» لنا، فقد تعجّبنا منه إلى الغاية، وأنكرناه إلى النّهاية: لأنك لم تزل في كتبك كلّها تستشهد بتاريخ جنكزخان وأخباره وأحواله، وتقتدي به في أقواله وأفعاله؛ وما سمعنا في التواريخ ولا أتّفق قطّ من جنكزخان، ولا ممن تقدّمه وتأخّره من ملوك مملكته في زمن من الأزمان، أنّه أهدى إلى خادم الحرمين الشريفين سيفا ولا تركاشا؛ ما اختلف في ذلك اثنان.
فإرسالهما منك إلينا هل هو من باب المحبة أو لا، وإن كان تخويفا، فنحن ما نخاف من سيفك وتركاشك بعناية الله العظيم الأعلى.
السّيف والرّمح والنّشّاب قد علمت
…
منّا الحروب فسلها فهي تنبيكا!
إذا التقينا تجد هذا مشاهدة
…
في الحرب، فاثبت فأمر الله آتيكا!
بخدمة الحرمين الله شرّفنا
…
فضلا وملّكنا الأمصار تمليكا!
وبالجميل وحلو النّصر عوّدنا،
…
خذ التّواريخ واقرأها تلبّيكا!
والأنبياء لنا الرّكن الشّديد فكم
…
بجاههم من عدوّ راح مفلوكا «1» !
ومن يكن ربه الفتّاح ناصره،
…
ممّن يخاف؟ وهذا القول يكفيكا!
وقد أجبناك عن السيف والتّركاش فيما مضى قبل هذا الوقت وتقدّم، فاعرف ذلك واعلم.
وأما ما ذكرته من قولك: إنك فتحت معنا باب المحبة والوداد، والصّحبة والاتّحاد، لا باب المخاصمة والمشاورة والعناد؛ فقد علمنا ذلك وفهمناه. والذي نعرّفك به أنّ الذي وقع منك بخلاف ما قلت: لأنك لو كنت صادقا في قولك، كنت لمّا حضر إليك شكر أحمد وأرغون السلامي «2» اللذان هما من بعض ممالكينا ومن جملة رعايانا أمسكتهما وجهّزتهما إلينا بعد أن قيّدتهما؛ فما فعلت ذلك بل عملت بالضدّ منه لأنّك آويتهما، وحميتهما وعظّمتهما وأكرمتهما؛ وجعلتهما من خواصّك وأحبابك، وأوليائك وأصحابك. وأيضا توجّه إليه صولة بن حيار «3» الذي هو قطعة هجّان «4» من هجّانتنا فأكرمته، وألبسته التاج وعظّمته؛ وبعثت معه خلعة إلى نعير»
المذكور وإلى غيره من عربانه، ووعدته بالتّقدمة والإمارة، بالتصريح العظيم لا بالتلويح والإشارة؛ وكتبت إليه كتابا ما تركت فيه ولا خلّيت، وأظهرت كلّ ما كان عندك وما أبقيت؛ فجهّزه إلينا وقريء على مسامعنا الشريفة كلمة كلمة، وعرفنا واضح معناه ومبهمه؛ وها نحن نشرحه لك لتعلم وتتحقّق أنه وصل إلينا، واطّلعنا عليه وما خفي أمره علينا. وهذا نصه:
(دام دولته) الأمير الكبير، المعظّم أمير نعير، أدام [الله] دولته شمسا. نعرض لعلوّ علومه المحروسة أنه قد اتّصل بنا طردك عن الشام، ومعاملتهم معك غير الواجب.
حال وقوفك على هذا المثال تسرع في الوصول إلينا بحيث نعطيك ما أعطي المرحوم عمك أمير سليمان طاب ثراه، ونجعلك مقدّم العساكر المنصورة؛ وبهذا برز الحكم المطاع من الحضرة العالية؛ ففي عزم العساكر والجيوش المعظّمة الوصول إلى أطراف البلاد شرقا وغربا وروميّا من سائر النواحي والأمصار، والبلاد والأقطار؛ وإن أبطأ ركابك عن الوصول، فنحن واصلون إليكم في طريقنا إلى مصر وغيره، ولا يبقى لطاعتك مزيّة ولا منّة، فيكون ذلك على الخاطر المبارك.
فينبغي أن لا يكون جواب الكتاب، إلا قدوم الركاب؛ ففيه لكم الفوائد العظيمة، والعطايا الجسيمة؛ ومع [ذلك] إصابة الرأي منكم، تغني عن تأكيد الوصية إليكم؛ ومهما عرض من المهامّ يقضى حسب المراد، ومنهج السّداد؛ والله الموفق.
وبحاشية الكتاب المذكور ما نصّه:
وقد كتبنا إلى السلطان أحمد أن يصل إلينا، فانظر كيف كان عاقبة أمره؟
فينبغي أن تتوجّه أو يتوجّه بعض أولادك إلينا لأجل مصالحك كافّة.
فيا أمير تيمور لو كنت صادقا، وكلامك بالحق ناطقا، ما وقع منك مثل هذا ولا صدر، ولا اتّفق بل ولا ببالك خطر؛ ولكن كلّ ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكلّ وعاء ما ينضح إلا بما فيه.
يا فاعلا بالضّدّ من قوله
…
فعل الفتى دال على باطنه
والمرء مجزيّ بأعماله
…
إذا أظهرت ما كان في كامنه
وأما طلبك منّا السلطان أحمد الحلايري غير مرّة، فقد علمناه. ولكن عرّفنا يا أمير تيمور إيش عمل بك؟ حتّى حلفت له عدّة مرار بأيمان الله تعالى العظيمة وأعطيته العهود والمواثيق بأنك ما تتعرض إليه ولا إلى مملكته ولا توافيه ولا تشوّش عليه، حتّى اطمأنّ بأيمانك، وركن إليك، وأحسن ظنّه فيك، ووثق بك، واعتمد عليك فخنته وغدرته، وأتيته بغتة على حين غفلة وبدرته؛ وأخذت مملكته وبلاده، وأمواله وأولاده. وأعظم من ذلك أنّك أخذت أيضا حريمه وهنّ في عقد نكاحه وعصمته وأعطيتهنّ لغيره، وقد نطق الكتاب والسنة بتحريم ذلك وعظم ذنب فاعله وقبيح جرمه؛ ففي أيّ مذهب من المذاهب يحلّ لك أخذ حريم المسلمين، وإعطاؤهنّ لغير أزواجهنّ من المفسدين الظالمين؟ وهنّ في عصمة أزواجهنّ وعقد نكاحهنّ إنّ هذا لهو البلاء المبين؛ وكيف تدّعي أنك مسلم وتفعل هذه الفعال؟ عرّفنا في أيّ مذهب لك هذا حلال؟ فأعمالك هذه كلّها منافية لدعواك، بل منافية لدين الإسلام، وشرع سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
«1» وقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
«2» وقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
«3» وقال عز وجل: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
«4» وقد بيّن لنا الخير والشر، والحلال والحرام وأهلها فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
«5» وقال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا
«6»
وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ
«1» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» . وقال عليه السلام: «المسلم من سلّم المسلمون من يده ولسانه» .
ففي أيّ مذهب من دين الإسلام تستحلّ هذه المحرّمات العظيمة، والمنكرات القبيحة الشنيعة الجسيمة، التي يهتزّ لها العرش ويغضب الله عز وجل لها ورسله والملائكة والناس أجمعون؟ وما كفى ما فعلت مع القان أحمد المشار إليه حتّى تطلبه منا؟. اعلم أنّ القان أحمد «2» المشار إليه قد استجار بنا وقصدنا، وصار ضيفنا؛ وقد ورد: من قصدنا وجب حقّه علينا. وقال تعالى لسيد الخلق أجمعين في حقّ الكفار الذين هم أنحس الناس: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ
«3» فكيف بالمسلمين إذا استجاروا بالمسلمين؟ وكيف بالملوك أبناء ملوك المسلمين، الذين لأسلافهم الكرام معنا ومع ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين صحبة ومحبة وأخوّة في الله تعالى؟
ولو لم يكن ذلك كيف يجوز في شرع المروءة والنّخوة الوفاء أن نسلّم ضيفنا ونزيلنا والمستجير بنا؟ خصوصا وجنسنا جركس جنس ملوك الإسلام السالفين، خدّام
الحرمين الشريفين الذين اتّفق لهم مع التّتار ما تشهد به التواريخ، ومن عادتنا وشأننا وطباع جنسنا أننا لا نسلّم ضيفنا ولا نزيلنا ولا من استجار بنا لأحد. وإن كنت ما تصدّق ذلك فعندك من هم من جنسنا، سلهم يعرّفوك، فنحن لا يضام لنا نزيل، ونقري الضيف ونعامله بالجميل، وهذه جبلّتنا الغريزيّة وعادة أصلنا الأصيل؛ فإرسال القان أحمد إليك أمر مستحيل.
إنّا ذوو الفضل الغزير الوارف
…
أبوابنا هي ملجأ للخائف!
نقري الضّيوف ولا يضام نزيلنا،
…
شيم ورثنا فضلها عن سالف!
وكليمة تكفي الذي هو عاقل،
…
والرّمز تصريحا غدا للعارف!
وقولك: إن العادة كانت جارية بين من سلف من ملوك الإسلام وملوك التتار، أنّه من هرب من جهة إلى أخرى يمسكه الملك الذي يهرب إليه ويقيّده ويجهّزه إلى الملك الذي هرب من عنده، وأن دمرداش بن جوبان لما هرب في الزمن الماضى من ملكه وجاء إلى سلطان مملكتنا المعظّمة المشرّفة، أمسكه وقيّده وأرسله إليه، فقد علمناه، وليس هذا الذي قلته وحكيته بصحيح، لأن الذي وقع واتّفق بخلافه: وهو أنّ أميرا من أمراء السلطان الملك الناصر كان يسمّى قراسنقر، هرب من عنده وراح إلى أبي سعيد فقطع رأسه، وجهّزه إلى الملك الناصر. وأما دمرداش المذكور فالملك الناصر ما أرسله إلى أبي سعيد مثل ما قلت وما مات دمرداش المذكور إلا في مصر المحروسة، فليكن ذلك في علمك ثابتا؛ وعلى كلّ حال فكلامك حجة عليك لا لك: لأنّك قد آويت شكر أحمد وأرغون السلامي وأكرمتهما وقرّبتهما، وكذلك كلّ من حضر إليك من مماليكنا ورعايانا وخدمنا من أهل مملكتنا، فلو أمسكتهم وقيّدتهم وجهّزتهم إلينا، كنت تكون صادقا في قولك، وكنت إذا طلبت منا أحدا ما تلام على طلبه، فكيف وأنت البادي والمعتمدي؟ فهذا الكلام كلّه شاهد عليك لا لك.
وأما قولك: إنّ صاحب تكريت كان حراميّا قاطع طريق، ففعلت معه ما فعلت مقابلة له على نجسه وحرامه وقطعه الطّرقات، فقد علمناه وسلّمنا لك هذا الأمر، بيّض الله وجهك، وما قصّرت فيه، فحبّذا ما عملت، ونعم ما فعلت في حقّه من إعطائه جزاءه. أفأهل بغداد كانوا حراميّة قطّاع طريق حتّى فعلت بهم ما فعلت، وقتلت منهم من التّجّار خاصّة ثمانمائة نفس في المصادرة بالعقوبة والعذاب. ففي أيّ مذهب يجوز هذا؟ وهل يحلّ لمن يدّعي الإسلام أن يعمل بخلق الله تعالى الذين أمر بالشفقة عليهم والإحسان إليهم ونشر العدل فيهم هذه الفعال؟ وقد تعجّبنا منك يا أمير تيمور إلى الغاية! كيف تدّعي أنّك عادل، وتعمل بأهل بغداد المسلمين الموحّدين وبغيرهم من المسلمين هذه العمائل؟ أما تعلم أنّ الشفقة على خلق الله تعظيم لأمر الله! وأنّ الله رحيم يحبّ من عباده الرّحماء، وأن الظّلم حرام في جميع الملل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله تعالى يقول: يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظّالموا» . وقال عليه السلام: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» . وورد: «إن فاتني ظلم ظالم فأنا الظّالم» وحسب الظالمين ربّ العالمين الذي قال في حقهم أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
«1» وقال إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ*
«2» . والباغي له مصرع. ولما جاء هولاكو ومنكوتمر وغازان وقصدوا ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين، الذين كانوا من جنسنا كما ذكرنا لك أعلاه، اتّفق لهم ما اتّفق مما هو مشروح في التواريخ ومعلوم عند الناس؛ فمهما أخذه أولئك تأخذه إذا جئت.
وأما قولك في كتبك: إنه إن لم نجهّز إليك السلطان أحمد الحلايري مقيّدا تجيء في أوّل فصل الربيع إذا نزلت الشمس برج الحمل، أو لمّا تنزل الميزان، وإن جهّزناه إليك مقيدا، تتأكد المحبة والصّحبة بيننا وبينك، فقد علمناه؛ والذي
نعرّفك به هو أننا كنا نتوقّع أنك تجيء قبل هذا الوقت، فقد أبطأت كثيرا، وملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين الذين كانوا قبلنا ما تصالحوا مع مثل هولاكو وغيره إلا حتّى تزاوروا وتقابلو واجتمعوا، ونحن أيضا كذلك، ما نصطلح إلا بعد أن نتزاور ونتقابل ونجتمع. وأنت طلبت أحمد الحلايري، وها نحن واصلون إليك به، نطلب منك أن تشفّعنا فيه، وتهبنا ذنبه الذي صدر منه، وندخل عليك بسببه، ونسأل إحسانك أن تعيّن لنا موضعا نلتقي معك فيه، حتّى نأتيك بأحمد الحلايري المذكور فيه، ونشفع فيه عندك. فعيّن لنا الموضع المذكور على حسب ما تختار: إما من ذاك الجانب من الفرات، أو من هذا الجانب. وأيّ موضع عينته وسمّيته لنا جئناك بالمشار إليه فيه، وندخل عليك في أمره، ونستوهب ذنبه منك.
وأما ما ذكرته من أمر الرسول، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أن الرسول المذكور كان يكتب المنازل منزلة منزلة إلى بلادنا المحروسة، واطلع عليه في ذلك جماعة من جهتنا؛ ولما وصل إلى الرّحبة المحروسة، قال للنائب بها: بس الأرض للأمير تيمور واقرأ الخطبة باسمه. فلو كان رسولا مصلحا ما كان كتب المنازل، ولا أكثر فضوله، وتحدّث بما لا ينبغي له، وتكلّم فيما لا يعنيه، وتعدّى طوره: لأنه لا ينبغي للرسول أن يكون إلا أعمى أخرس غزير العقل، ثقيل الرأس، كما قال بعضهم:
إذا قصدت الملوك فالبس
…
من التّقى والعفاف ملبس!
أدخل إذا ما دخلت أعمى،
…
واخرج إذا ما خرجت أخرس!
وكيف يمكن نائبا الذي هو من جملة مماليكنا، وجبل لحمه ودمه على أنعمنا وصدقاتنا، وغذّي وربّي بلبان فضلنا وجودنا [أن] يبوس الأرض لغيرنا، أو يخطب باسم غيرنا؟ وكيف يترك اسم خادم الحرمين الشريفين أستاذه؛ ويذكر اسم غيره؟. فقد تكرّرت منك الفعال القبيحة، الموجبة لما يقدّره الله تعالى؟ ونحن نقسم بالله تعالى لولا قلت لنعير تعال حتّى أعملك مقدّم العساكر، ونمشي على الشام ومصر؛ وقرّبت مماليكنا وآويتهم، وبدأت بهذا كلّه وحصل منك التعدّي، ما
كان يتفق لرسلك ما اتّفق. ولكنّ الجزاء من جنس العمل، والخير بالخير والبادي أكرم، والشّرّ بالشر والبادي أظلم.
وأيضا كلّ وقت تسأل عن ممالكنا المصونة، وكثرة عساكرنا المنصورة من قلّتها. فلو كنت طالبا المحبة والصحبة والمصادقة، ما وقع منك هذا.
وأما قولك إنّ هولاكو أخذ من كلّ مائة رجل رجلين وجاء بهم، وأنت قد جئت بالرجلين وبالمائة، واعتمادك على كثرة عسكرك على قولك فقد علمناه، وإن كان اعتمادك على كثرة عسكرك فاعتمادنا نحن على الله تعالى واستمدادنا من الحرمين الشريفين، ومددنا ممّن بهما من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والصحابة والصالحين رضي الله عنهم. فإذا تلاقينا يكون ما يقدّره الله تعالى ويعطي الله النصر لمن يشاء، وتعلم ذاك الوقت لمن العاقبة؛ ويظهر فعل الربّ القادر تعالى، وعوائده الجميلة بنا التي لا شكّ عندنا فيها ولا ريب، وقطّ ملوك التتار ما انتصروا على ملوك الإسلام، بل ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين، هم المؤيّدون المنصورون المظفّرون بعون الله تعالى، وببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، معوّدون من الله الكريم بالفضل والإحسان والغنائم والفتوحات:
لأنهم أهل الكتاب والسّنّة والعدل والخير والخوف من الله تعالى، لا يقعون في محارمه، ولا يقدمون على ارتكاب ما ينهى عنه، فهم المؤمنون المتّقون. وقال الله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
«1» وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا
«2» وقال: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى
«3» وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
«4» وسوف ينجز الله تعالى وعده، لأنه لا يخلف الميعاد.
وأما ما ذكرته من أمر قرا يوسف وبير حسن وغيرهما، وأنّ في معاشهم زغلا، وأنّهم مفسدون. وجعلك لكل واحد منهم ذنبا، وأنك أنت العادل الخيّر المفلح، والناس كلّهم مناحيس وأنت الصالح؛ والله يعلم المفسد من المصلح، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أنّ النّور لا يجتمع مع الظلام، ولا اليقظة والمنام، ولا الخير والشّرّ في حيز واحد: لأنها متضادّة، ليس بينها اتّفاق ولا التئام، وفعل المرء دالّ على نيته وطويّته، قال الله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ
«1» وقال: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ
«2» وقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
«3» وشتّان ما بين أهل الخير والفساد، وأهل العدل وأهل البغي والعناد؛ فالخيّر هو المتّقي، ومن يرتكب ما حرّم الله ويعتقد أنه على الحق فهو الشّقي.
إذا المرء لم يعرف قبيح خطيّته
…
ولا الذّنب منه مع عظيم بليّته
فذلك عين الجهل منه مع الخطا
…
وسوف يرى عقباه عند منيّته
وليس يجازى المرء إلا بفعله
…
وما يرجع الصّيّاد إلا بنيّته!
وأما قولك إنّ نعير العرب أرسل بالخفية يطلب السلطان أحمد، وأننا نرسم لنوّابنا أن يحترزوا من توجّهه إليه ولا يمكّنوه من ذلك، فإنه إن اتّفق توجهه إليه يكن ذلك سببا لخراب الدّيار، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أننا نتحقّق أن ما يحصل خراب الديار والدّمار ومحو الآثار إلا لمن يسعى ويتكلّم بخراب الديار وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
«4» . وستعلم ديار من تخرّب، وعمر من يذهب، وعلى من تكون دائرة السّوء دائرة، وسطوات المنايا قاهرة؟ وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«1» وها نحن واصلون بجيوش وجنود وعساكر مؤيّدة من السّباع أسبع، لا تروى أسلحتهم من دماء البغاة ولا تشبع، والجواب ما ترى لا ما تسمع:
قل للّذي في الورى أضحى يعادينا:
…
احذر فأمرك ربّ العرش يكفينا!
ما زال يمنحنا فضلا ويكلؤنا
…
وفي العدا بعظيم النّصر يشفينا!
أقامنا رحمة للناس أجمعهم،
…
ولم يزل من جزيل الجود يعطينا!
بالعزّ والنّصر والتأييد عوّدنا،
…
وزادنا في مديد الأرض تمكينا!
وللجميل وفعل الخير وفّقنا،
…
شكرا له ستره الأعلى يغطّينا!
قد أسكن الرحمة الحسنى التي أمنت
…
بها الأنام بأقصى ملكنا فينا!
فكلّما بالدّعاء المرتضى نطقت
…
لنا الرّعايا، أجاب الكون آمينا!
الله حافظنا، الله ناصرنا،
…
من ذا يعاندنا؟ من ذا يقاوينا؟
والله الموفّق بفضله العميم، والهادي إلى الصراط المستقيم؛ بمنّه وكرمه، وجوده ونعمه، إن شاء الله تعالى.
كتب في...... من جمادي الأولى سنة ست وتسعين وسبعمائة «2» .
الحالة الثانية- حين عاد السلطان من الشأم إلى الديار المصرية وخرّب هو دمشق وحرّقها، ثم انتقل عنها، وتردّدت رسله بطلب أطلمش: أحد أمرائه الذي كان قد أسر في أيام السلطان الملك الظاهر «برقوق» .
وفي هذه الحالة كان يكتب له في قطع الثلثين، والعنوان بقلم جليل الثّلث بحلّ الذهب سطران، مضمونهما «المقام الشريف العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين، دامت