الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهناء إذا سنح وفي الدمع إذا سفح؛ وما مثل مكارم المولى من يعزب ذلك عن علمها، ولا يعزى إلى غير حكمها وحلمها؛ وهو- أعزه الله- ذو التّجارب التي مخضت له من هذه وهذه الزّبدة، وعرضت عليه منها الهضبة والوهدة. والرغبة إلى الله تعالى أن يجعل تلك المصيبة للرّزايا خاتمة، كما لم يجعلها للظّهور قاصمة؛ وأن يجعلها بعد حمل هذا الهمّ وفصاله على عليه فاطمة، وأن يحبّب إلينا كلّ ما يلهي عن الأموال والأولاد، من غزو وجهاد، وأن يخوّلنا فليس يحدّ لدينا على مفقود تأدّبا مع الله عز وجل غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وأن لا تقصف رماحنا إلا في فود أو فؤاد، ولا تحوّل سروج خيلنا إلا من ظهر جواد في السّرايا إلى ظهر جواد، وأن لا تشق لدينا إلا أكباد النادّ «1» ، ولا تجز غير شعور ملوك التتار تتوّج بها رؤوس الرماح ويصعد بها على قمم الصّعاد؛ والله تعالى يشكر للمولى سعي مراثيه التي لولا لطف الله بما صبّرنا به لأقامت الجنائز، واستخفّت النحائز «2» ، ولأهوت بالنّفوس في استعمال الجائز من الأسف وغير الجائز، ولا شغل الله لبّ المولى بفادحه، ولا خاطره بسانحة من الحزن أو بارحه، ولا أسمعه لغير المسرّات من هواتف الإبهاج صادحه، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي» وعليها كان الأمر في أوّل الدولة التركية)
وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب بها عن الملك المظفّر قطز «3» - وصاحب
اليمن يومئذ المنصور- بالبشارة بهزيمة التّتار. وأظنها من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، وأعلى مناره، وضاعف اقتداره؛ تعلمه أنه لما كان النّصف من شهر رجب الفرد، فتح الله تعالى بنصر المسلمين على أعداء الدين:
من كلّ من لولا تسعّر بأسه
…
لا خضرّ جودا في يديه الأسمر
فصدرت هذه التهنئة إليه راوية للصدق عن اليوم المحجّل الأغر:
يوم غدا بالنّقع فيه يهتدي
…
من ضلّ فيه بأنجم المرّان «1»
ففي أذن الدهر من وقعه صمم، وفي عرنين البدر من نقعه شمم؛ ترفعه رواة الأسل عن الأسنّة، ويسندة مجرّ العوالي عن مجرّ الأعنّة، أما النصر الذي شهد الضرب بصحّته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتر خذلهم الله تعالى استطالوا على الأيام، وخاضوا بلاد الشام، واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام:
سعى الطّمع المردي بهم لحتوفهم
…
ومن يمسكن ذيل المطامع يعطب
فاعتاضوا عن الصحة بالمرض، وعن الجوهر بالعرض؛ وقد أرخت الغفلة زمامهم، وقاد الشيطان خطامهم «2» ؛ وعاد كيدهم في نحورهم: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً
«1»
رامو الأمور فمذ لاحت عواقبها
…
بضدّ ما أمّلوا في الورد والصّدر،
ظلّوا حيارى وكأس الموت دائرة
…
عليهم شرعا في الورد والصّدر!
وأضعف الرّعب أيديهم فطعنهم
…
بالسّمهريّة «2» مثل الوخز بالإبر!
لا جرم أنّهم لسنّ النّدم قارعون، وعلى مقابلة إحساننا بالإساءة نادمون.
تدرّعوا بدروع البغي سابغة
…
والمرء يحصد من دنياه ما زرعا!
فأقلعت بهم طرائق الضّلال، وسارت مراكب أمانيّهم في بحار الآمال؛ فتلك آمال خائبة، ومراكب للظّنون عاطبة؛ وأقلعوا في البحر بمراكبه، والبرّ بمواكبه؛ وساروا وللشيطان فيهم وساوس، تغرّهم أمنيّة الظّنون الحوادس؛ فما وسوس الشيطان كفرا إلا وأحرقه الإيمان بكوكب
…
«3» .... هذا وعساكر المسلمين مستوطنة في مواطنها، جاذية «4» عقبانها في وكور ظباها، رابضة آسادها في غيل «5» أقناها «6» ، وما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة، ولا ثبتت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة لها ناسخة؛ ولا عقد [ت] برجمة «7» ناقوس إلا وحلّها الأذان، ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن؛ ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفّار، وأخبار الكفّار تنتقل إلى المسلمين إلى أن خلط الصّباح فضّته بذهب
الأصيل، وصار اليوم كأمس، ونسخت آية الليل بسورة الشمس؛ واكتحلت الأعين بمرود السّبات، وخاف كلّ من المسلمين إصدار البيات «1» .
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي
…
بأخرى الأعادي، فهو يقظان نائم!
إلى أن تراءت العين بالعين، واضطرم نار الحرب بين الفريقين؛ فلم تر إلا ضربا يجعل البرق نضوا، ويترك في بطن كلّ من المشركين شلوا؛ حتّى صارت المفاوز دلاصا «2» ؛ ومراتع الظّبا للظّبا عراصا «3» ؛ واقتنصت آساد المسلمين المشركين اقتناصا، ورأى المجرمون النار فظنّوا أنّهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مناصا؛ فلا روضة إلا درع ولا جدول إلا حسام، ولا غمامة إلا نقع ولا وبل إلا سهام؛ ولا مدام إلا دماء ولا نغم إلا صهيل، ولا معربد إلا قاتل ولا سكران إلا قتيل؛ حتّى صار كافور الدّين شقيقا، وتلوّن الحصباء من الدّماء عقيقا؛ وضرب النقع في السماء طريقا، وازدحمت الجنائب في الفضاء فجعلته مضيقا؛ وقتل من المشركين كلّ جبّار عنيد، ذلك بما قدّمت أيديهم وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
«4» .
قلت: وهذه النسخة تلقّفتها من أفواه بعض الناس، ذكر أنه وجدها في بعض المجاميع فحفظها منه، وهي في غاية من البلاغة، إلا أنها لا تخلو من تغيير وقع في بعض أماكنها، ولعله من الناقل لها، من حيث إنه ليس من أهل هذه الصناعة. ولم يسعني ترك إيرادها لما فيها من المحاسن، ولانفرادها بأسلوب من الأساليب التي