الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نهنّئكم بما منحكم الله من انفساح الإياله، ونموّ الجلاله، والنّعم المنثاله، بسلطان ألقى عنانه إلى مثلكم قد اختار لقياده، وارتاد فسعد في ارتياده؛ وتكفّل الحزم بحفظ بلاده، وصون طارفه وتلاده «1» ؛ وكأنّ به قد استولى على آماده، وتطاول لإرث أجداده. ولنا فيكم- علم الله- ودّ [تأسّس بناؤه، وكرمت أبناؤه]«2» وحبّ وجب بالشرع إنفاذه إليكم وإنهاؤه. وغرضنا الذي نؤثره على الأغراض والمقاصد، ونقدّمه بمقتضى الخلوص الذي زكت منه الشّواهد، أن تتصل بيننا وبينكم المخاطبة، وتتعاقب المواصلة والمكاتبة، والله عز وجل المعين على ما يجب لودّكم من برّ تكفل واجبه، وتوضّح مذاهبه، واعتقاد جميل يتساوى شاهده وغائبه، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته.
الصنف الثاني (ما يكتب به إلى الرّعايا)
والحكم فيه على نحو ما تقدّم في الصّنف الذي قبله، إلا أنه يخاطبهم بأوليائنا.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر أيضا إلى بعض رعاياه بمدينة المريّة بالأندلس، بالبشارة بموت الطاغية ملك قشتالة بجبل الفتح، ورحيل قومه به إلى بلادهم ما صورته:
من الأمير عبد الله يوسف، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر أيّد الله أمره، وأعز نصره، وأسعد عصره؛ إلى أوليائنا في الله تعالى الذين نبادر إليهم بالبشائر السافرة الغرر، ونجلو عليهم وجوه الصنائع الإلهيّة كريمة الخبر والخبر، ونعلم ما لهم من الودّ الكريم الأثر: القائد بالمريّة، والقاضي بها، والفقهاء، والأشياخ، والوزراء والأمراء والكافّة والدّهماء «3» من
أهلها، عرّفهم الله عوارف الأداء، وأوزعهم شكر نعمة هذا الفتح الرّبّانيّ الذي تفتّحت له أبواب السماء، وأنشرت «1» معجزاته ميّت الرجاء في هذه الأرجاء. سلام كريم، طيب برّ عميم، تنشق منه نفحات الفرج، عاطرة الأرج، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله فاتح أبواب الأمل بعد استغلاقها، ومتدارك هذه الأمة المحمديّة بالصّنع الذي تجلّى لها ملء أحداقها، والرحمة التي مدّت على النّفوس والأموال، والحرمات والأحوال، ضافي رواقها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي دعوته هي العروة الوثقى لمن تمسك باعتلاقها «2» ، وأقام على ميثاقها، ذي المعجزات التي بهرت العقول بائتلاقها، الذي لم ترعه في الله الشدائد على اشتداد وثاقها، وفظاعة مذاقها، حتّى بلغت كلمة الله ما شاءت من انتظامها واتّساقها، والرضا عن آله وصحبه، وعترته وحزبه؛ الفائزين في ميدان الدنيا والدين بخصل «3» سباقها. فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم شكرا لنعمه، ومعرفة بمواقع كرمه، من حمراء غرناطة- حرسها الله- ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا ما أمّن الأرجاء ومهّدها، وأنشأ معالم الإسلام وجدّدها، وأسّس أركان الدين الحنيف وأقام أودها، وأنتم الأولياء الذين نعلم منهم خلوص الأهواء، ونتحقّق ما عندهم من الخلوص والصّفاء. وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح، ودارت عليه خمرة النّخوة والخيلاء مع الغبوق والصّبوح، حتّى طفح بسكر اغتراره، ومحّص المسلمون على يديه بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره، وتوجّهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره، ووثق بأنّه [يطفيء]«4» نور الله
بناره، ونازل جبل الفتح فشدّ مخنق حصاره، وأدار أشياعه في البرّ والبحر دور السّوار على أسواره، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب، وانبهام الأبواب، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب؛ وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظّنون في هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمم الكافرة، والبحور الزاخرة، والمرام البعيد. وإننا صابرنا بالله تيّار سيله، واستضأنا بنور التوكّل عليه في جنح هذا الخطب ودجنّة ليله، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق، واعتلقنا من حبله المتين بأوثق العلائق، وفسّحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق؛ وأخلصنا لله مقيل العثار، ومولى أولي الاضطرار، قلوبنا، ورفعنا إليه أمرنا، ووقفنا عليه مطلوبنا، ولم نقصّر ذلك في إبرام العزم واستشعار الحزم، وإمداد الثّغور بأقصى الإمكان، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاده على الأحيان؛ فرحم الله انقطاعنا إلى كرمه، حين لجأنا إلى حرمه، فجلا بفضله سبحانه ظلام الشّدّة، ومدّ على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدّة، وعرّفنا عوارف الصّنع الذي قدم به العهد على طول المدّة، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الرّكاب، واحتشاد الأحزاب، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب، واستخلص العباد والبلاد من بين الظّفر والناب؛ فقد كان سدّ المجاز بأساطيله، وكاثر كلمة الحقّ بأباطيله، ورمى الجزيرة الأندلسيّة بشؤبوب شرّه، وصيّرها فريسة بين غربان بحره وعقبان برّه، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرفقة إلا على الخطر الشديد، والإفلات من يد العدوّ العنيد، مع توفّر العزائم- والحمد لله- على العمل الحميد، والسعي فيما يعود على الدّين بالتأييد.
وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرّب وهذا يبعد، إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة، وحلّ تلك العزمة «1» ، وموت شاة «2» تلك الرّقعة، وإبقاء الله على
تلك البقعة؛ وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغترارا، وأعظم أنصارا؛ وزلزل أرض عزّه وقد أصابت قرارا؛ وأنّ شهاب سعده أصبح آفلا، وعلم كبره انقلب سافلا؛ وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه، وأهلكه برغم أنفه؛ وأن محلّته عاجلها التّباب والتّبار «1» ، وعاثت في منازله النار، وتمخّض عن سوء عاقبته الليل والنّهار، وأن حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم، وينادي بشتات الشّمل لسان مناديهم، وتلاحق بنا الفرسان من جبل الفتح: المعقل الذي عليه من عناية الله رواق مضروب، والرّباط الذي من حاربه فهو المحروب، فأخبرت بانفراج الضيّق، وارتفاع العائق لها عن الطّريق، وبرء الداء الذي أشرق بالرّيق.
وأن النصارى دمّرهم الله جدّت في ارتحالها، وأسرعت بجيفة طاغيتها إلى سوء مآلها، وسمحت [للسّهب]«2» والنّهب والنار بأسلابها وأموالها؛ فبهرنا هذا الصّنع الإلهيّ الذي مهّد الأقطار بعد رجفانها، وأنام العيون بعد سهاد أجفانها، وسألنا الله أن يعيننا على شكر هذه النّعمة التي إن سلّطت عليها قوى البشر فضحتها ورجحتها، أو قيست بالنعم فضلتها؛ ورأينا سرّ اللطائف الخفيّة كيف سريانه في الوجود، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطف الإلهيّ والجود، وقلنا إنما هو الفتح الأوّل شفع بثان، وقواعد الدين الحنيف أيّدت من صنع الله ببيان.
اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة، ومننك الوافرة، أنت وليّنا في الدنيا والآخرة؛ وأمرنا للحين فقلّدت لبّات «3» المنابر بهذا الخبر، وجلّيت في جماعات المسلمين وجوه هذا الفتح الرائق بالغرر؛ وعجّلنا تعريفكم به ساعة