الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجدير بتلك الألمعيّة الثاقبة أن تتلقّى ما يورده بالإصغاء، وتقابل النّعم المسداة إليه بالشكر الماطر الأنواء، وتوقظ ناظر اهتمامه للنّهوض بأعباء الخدمة الإماميّة، وحيازة المراضي المكرّمة النبويّة، وتمهي «1» عزيمتها فيما يكون بالإحماد الأشرف محظيا، ولأمثال هذا العرف المصنوع مستدعيا، ولرأي حضرة سيدنا في ذلك علوّ رأي إن شاء الله تعالى.
الجملة الثانية (في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء الفاطميين بالديار المصرية)
فقد ذكر عليّ بن خلف من كتّاب دولتهم في كتابه «موادّ البيان» «2» أنه إذا كانت المكاتبة من الوزير إلى من دونه، تكون بغير تصدير؛ إلا أن الخطاب فيها يجب أن يبنى على أقدار المخاطبين في مراتبهم في الدولة، ولم يزد على ذلك.
والذي وقفت عليه منه أسلوب واحد: وهو أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتابنا والأمر على كذا» ويتعرّض فيه لذكر حال الخلافة والخليفة، ثم يتخلّص إلى المقصود بما يقتضيه الحال، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء.
كما كتب القاضي الفاضل عن بعض وزراء العاضد: آخر خلفائهم إلى بعض الملوك ما صورته:
كتابنا- أطال الله بقاء الملك- عن مودّة ظاهرة الأسباب، متظاهرة الأنساب، ضافية جلباب الشّباب، وعوائد عوارف لا يتنكّر معروفها، ووفود فوائد لا يتصدّع تأليفها، ومساعي مساعد لا ينقص معروفها ولا ينفض مسوفها «3» ؛
وسعادة بالخلافة التي عدق «1» إليه أمرها وأوضح سرّها، وملأ سرائرها وسريرها، وأطلع شمسها وقمرها. بمولانا وسيدنا أمير المؤمنين تتوالى ميامنها، وتتلألأ محاسنها، وتشرف درجاتها، وتتضاعف سعادتها؛ والكلمة قائمة على أصولها، وأمور الخلق جارية على ما هو لها، ونظام الإسلام بسياستها لا يهي، وسياقة الدوام في سعادتها لا تنتهي، والله الموزع شكر هذه المنن، المسؤول في الإنهاض لما نهضت فيه النيّة وقصرت عنه المنن؛ ولم نزل- أدام الله إقبال الملك المعظم- معظّمين لأمره، عارفين نبل قدره وجليل فخره، مشيدين بجميل ذكره وجزيل نصره، معيدين لما تتهادى الألسن من مستطاب نشره، قارئين من صفحات الأيام ما أمدّها به من بشره، غير مستيمنين لذكر اسمه الكريم إلا بصيامه وشكره، موردين مما هو يبلغه من بارع ضرائبه بالمقامات الشريفة من آثار سلفه ومآثرهم، ومأثور مكارمهم ومفاخرهم، واستناد المكرمات إلى أوّلهم وآخرهم، ومشهور ذبّهم عن الملّة ودفاعهم عن أهل القبلة، وسدادهم في الأمور، وسدادهم الثّغور، وسيادتهم الجمهور، وإستقلالهم بالمشقّات المتقدّمة، وإخمادهم نيران الخطوب المضطرمة، وكفّهم سيول السيوف العرمة، وموالاتهم أمور الدولة العلويّة التي اشتهر بها منهم الأكابر، وورثها كابر عن كابر، وحافظوا منها على سيرة معروف لا ينسخ، وعقد صفاء لا يفسخ، وسريرة صدق تستقرّ في الضمائر وترسخ، وتتوضّح بها غرّة في جباه السبق وتشدخ «2» ؛ وتستهدي عند إيراد هذا الذّكر العطر، والثناء المشتهر، من الدعوات الشريفة العاضديّة المعضودة بالنّجح، المتوضّحة عن مثل فلق الصّبح، ما يتهلّل لمساعيه بالميامن المستهلّة، ولمراميه بالإصابة المتصلة، بينه وبين هذه الدولة العالية، والخلافة الحالية، بكتاب منه نهجنا فيه طريقها اللاحب «3» ، واستدعينا به إجابته التي تتلقّى بالمراحب؛ وأعلمناه أنّ تمادى الأيام
دون المراسلة وتطاولها، وتنقّل الأحوال والدّول وتناقلها، لا يزيد مودّته إلّا استحكام معاقد، وانتظام عقائد، ووفاء مواعد، وصفاء موارد؛ وأنه لا تباعد بين القلوب بغرض المرمى المتباعد، ولا تفرّق المسافات القواصي ما بين النّيات القواصد. فلما تأخرت الإجابة، تقدّمت الاسترابة، وتناجت الظنون المعتلجة، وتراجعت الآراء المختلجة، بأن الرسول عاقته دون المقصد عوائق، وتقسّمته من الأحداث دون الطريق طرائق؛ فلم ترد المكاتبة إلى جنابه، ولا أسعد السعى بطروق جنابه، الذي تنال السعادة وتجنى به، وإلا فلو أنه أمّ له، بلغ ما أمّله، ولو وصله، لأجاب عما أوصله؛ لأن مكارم خلائقه تبعث على التبرّع بالمسنون فكيف بقضاء المفروض، وشرائف طرائقه تأبى للحقوق الواجبة أن تقف لديه وقف المطّرح المرفوض. فجدّدنا هذه المكاتبة مشتملة على ذلك المراد، وفاوضناه بما يعيره الإصغاء، ويجنّبه الإلغاء، ويحسن له الإنصات، ولا يحتاج فيه إلى الوصات «1» ورسمنا أن يكتمه حتّى من لسانه، وأن يطويه حتّى عن جنانه، وأن يتمسك بالأمر النبويّ في استعانته على أمره بكتمانه؛ فمن حسن الحزم سوء الظن، وهل لأرباب الأسرار فرج إلا ما دامت في السجن، وقد استلزمنا المرتهن لما استعظمنا الرهن، وفوّضنا إلى من لا يعترينا فيه الوهم ولا منه الوهن؛ ونحن تحبّبنا بما يعلم به حسن موقع رسالة الاسترسال، وبما يبيّن به عن دلالة الإدلال، وبما يرحّب بمودّته مجال الجمال؛ والله سبحانه يؤيّد الملك بنصر تستخدم له الأقدار، وسعادة لا تتصرّف في تصريفها أحكام الفلك المدار، وإقبال يقابل آراءه وآدابه في فاتحة الورد وعاقبة الإصدار، وعزّ لا يزال منه متوقّلا «2» في درجات الاقتدار إن شاء الله تعالى.