الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجون «1» بما به عضّها، وفضّ الحصار أقفالها التي فضّها منه ما فضّها، لكان قد ذهب شميسه «2» ، وخفي عن أن يسمع حسيسه؛ لكن أبى الشقاء الغالب على أهلها إلا أن يمدّ عليهم أمد العذاب، ويرخي لهم طول المهلة المشفية بهم كلّ يوم مهاوي الخسار والتّباب، حتّى يبلغ الكتاب فيهم أجله، ويصل إلى الحدّ الذي شاء الله أن يصله؛ فيأخذهم أخذ من عمي عن إدراك الحق بصره وبصيرته، وخبث في معاندته سرّه وسريرته؛ ويرجّى أن الوقت في ذلكم دان بإمكان، والله تعالى يديم للمقام الواثقيّ ما عوّده من توالي السّعود واطّرادها، وإصحاب الآمال وانقيادها؛ وسلام الله الطيب يراوحها ويغاديها، وتحياته، ورحماته الموصولة وبركاته.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بالحضرة)
وتوصف ويدعى لها، ثم يقع التخلّص إلى المقصد، ويختم بالدعاء والسلام.
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة «3» إلى المتوكل بن هود «4» القائم بالدعوة العباسية بالأندلس عن بعض أتباعه، عند ورود كتابه عليه بخبره بفتح
…
... «5» من الأندلس وقتل الثائر بها، وهو:
الحضرة العلية أبقى الله ظلّ ملكها على العباد، وعرّفها من تأييده وإنجاده أفضل المعتاد، وجعل لها من الملجأ إليه والتوكل عليه أكثر الجموع وأكثف الأعداد، ولا زالت أحاديث نصرها سالمة المتون صحيحة الإسناد، وصحائف فتوحها تجمع صلاح العباد، وتطلع صباح البشائر من ليل المراد؛ عبدها ومملوكها، السالك من الخدمة والنصيحة الطريق التي يجب سلوكها، فلان.
وبعد: فكتب العبد- كتب الله للمقام العليّ المجاهديّ المتوكّليّ سعدا يردّ الصّعاب ذللا، ويسدّ من المكاره سبلا؛ وأمدّه بملائكة رسله جاعل الملائكة رسلا- من فلانة وبركاته مروية للظماء وحركاته مسكّنة للدّهماء، وآثاره في يومي سلمه وحربه آثار الأشدّاء على الكفّار والرّحماء؛ والأرض بوضوح محيّاه، وفتوح أسنّته وظباه، تهتزّ أعطافا، وتعتزّ مواسط وأطرافا، وتبرز في أثوابها القشب فيزداد حسنها أضعافا؛ والأيّام بالبشائر التي فضّت ختامها عفوا «1» على قدر، وقضت مسامها صفوا بلا كدر؛ لها أنف الشامخ تيها، ووجه الضاحك المتهلّل إشادة بحالها وتنويها، ودلالة على رحب مجالها وتنبيها. والحمد لله حمد من عرف قدر نعمائه فوفّى حقّ أسمائه تقديسا وتنزيها. وإن الخطاب العليّ الكريم ورد راصفا أجلّ الدّرر، واصفا أجمل الفتوح الغرر، رافلا في حلل الأيد «2» والقهر، رافعا منسأة «3» الحوادث بإحدى حسنات الدهر؛ فيا له من كتاب! أودع بدائع الكلم، وجوامع البيان الملتئم المنتظم؛ لو استمدّ سناءه أوّل الفلقين لم يك كاذبا، ولو أعير محيّاه ثاني الشفقين كان عن ضوء النهار نائبا؛ ذكّر بأيّام الله المشهودة بالملائكة والرّوح، ومدّ باع الكلام في فتح الفتوح؛ وأطال ذيول القول مفتاحا منه
للصّعب الجموح، فكان الغزير الصيّب، والكثير الطيّب؛ والمتّبع إن مضى بقلوب وأسماع، والمضاعف حسنه إن كرّر إلى غير انقطاع. كيف لا؟ وقد بشّر خبره بالمراد في المراد «1» ، وأوقع اليقين بما خرق العادات من الإسعاف والإسعاد، وكان من آحاد الاخبار لا من أخبار الآحاد «2» ؛ ومما اقتصّه ما جرى من أوائل الحركة السعيدة، واعترض من المتاعب الشديدة؛ وأن الشتاء كان في ابتدائه، والغيم ساحب لردائه، ساكب فضل أندائه. والمكاره في طيّها النّعم الجسام، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام؛ ولذلك هانت على المقام العلي- أيده الله- تلك المشاقّ، ورجّى من عمله ونظره ما جنى من ثمرة العاقّ؛ فسار إليه بالجحفل الأحفل، والعزيمة الزعيمة بفضّ المقفل، ورضّ الأعلى والأسفل؛ وقد اعتزّ بأجلّ المدائن شانا، وأوثقها بنيانا، وأبعدها صيتا ومكانا؛ وهي التي أعيت رياضتها كلّ رائض، وسخرت بكلّ قاعد بقنونها «3» رابض؛ وجمع إليها من طرد الآفاق، وأعداد الاجتماع والاتّفاق، أتباع كلّ ناعق، وأشياع كل مارد مارق، فاستحلّوا الدماء، وركبوها مضلّة عمياء، وأدرك كلّ منهم مما شاء للإسلام ما شاء، وعدوّ الله يفتل لهم في الذّروة والغارب «4» ، ويضرب لهم سكّان البلد ضرب الغرائب؛ حتّى أباد خضراءهم، وجعلهم شرّ خلف فيمن وراءهم؛ غير مبال بما احتقب من الجرائر «5» ، واقترف من إباحة الحرائر، فاجترأ مدّة بالجلاء، وازداد إثما بالإملاء؛ وحينئذ سمت إليه عساكر الإسلام، وناولته بالموت الزّؤام، ورأى عيانا ما كان يطير
إليه قلبه لو رآه في المنام؛ وتداولته المطاولة المستدرجة، والعاجلة المزعجة؛ وفي كلّ ذاق عذاب الهون، فأحسّ بقاصمة المتون وقاضية المنون؛ وانقسمت شدّته إلى المهلكين: خوف وإعدام، واستكملت تسعة أشهر وكان الفتح عندها لتمام؛ وإنه للولد الذي هنّيء به الإسلام، وضنّت بمثله الأيام، واستبشر بوجوده الأنام؛ فما أعلى مقامه! وأبهج يومه وأسعد عامه! ولا غرو أن تكون غرّته أبهى الغرر، ومفتتحه مباركا كالبشر؛ وقد أسفر عن أيمن وجه النّجح، وخرج من عموم الأيام بمخصّص هذا الفتح؛ وانتقم الله فيه من الشقيّ الظالم، العظيم الجرأة على ارتكاب المظالم؛ فطاح بموبق أعماله، وعجّل الله به إلى ما أعدّ لأمثاله؛ وكان دمه شرّ دم أريق، وأديمه أخبث أديم لاقى التمزيق.
والحمد لله الذي نصر الراية العباسيّة وأعلاها، وأظهر آية عنايته وجلّاها، وأسبغ نعمه الجسيمة ووالاها. وحين ورد هذا النبأ العظيم [كان] أندى من قطر النّدى على الأكباد، وسرى في البلاد سريان الأرواح في الأجساد، وكلفت به الأسماع والأسمار، وسمت به وإليه الأمصار والأبصار؛ واستقرّ من ارتجاع البلد، وانتزاع النفس الذاهبة إلى جري الأبد، حكمان مدركهما الفعل والإقرار، وعملان تمّ بهما المراد والاختيار؛ فرفعت الأدعية إلى سامعها، وغصّت الأندية بحاضري مجامعها؛ وذاع بالبشرى فيا حسن ذائعها وشائعها، وأذعنت الآمال لإدناء نازحها وشاسعها، وأخذ العبد من المسرّة بحظّ أخلص العبيد مشهدا ومغيبا، وأجمعهم لمعالي الجدّ تطنيبا، ولمعاني الثناء والحمد تطييبا، وجدّد من شكر الواهب لجزيل هذه الهبة، والفاتح لأعظم المعاقل الأشبة «1» ما يستغرق المدد، ولا يبلغ الأمد؛ وأنّى [لمثلي] أن يصف البشرى الواصلة، أو ينصف المقالة المتطاولة، ولو حلب أشطر الإحسان «2» ، وجلب أبحر البيان؛ وكيف والفكر قد قعد حصرا، والمدى لا