الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة (في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية
، على ما استقر عليه الحال في ابتداء الدولة التركية وإلى زماننا على رأس الثمانمائة مما أكثره مأخوذ من ترتيب الدّولة الأيوبية التي هي أصل الدّولة التركية، وفيه [ثلاثة]«1» أطراف)
الطرف الأول (في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العبّاس)
قد تقدّم في الكلام على المكاتبات الصادرة عن الملوك إلى خلفاء بني العباس أنها على أساليب في ابتداء المكاتبات: منها ما يفتتح بآية من القرآن الكريم ثم بالسلام؛ ومنها ما يفتتح بالسلام ابتداء؛ ومنها ما يفتتح بالصلاة على الخليفة على مذهب من يرى جواز إفراد غير الأنبياء بالصلاة؛ ومنها ما يفتتح بالدعاء لديوان الخلافة.
ولكن الذي ذكره المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف بالمصطلح الشريف» «2» مما الحال مستقرّ به أن المكاتبة إلى ديوان الخلافة الشريفة: «أدام الله أيام الدّيوان العزيز، المولويّ، السيّدي، النبويّ، الإماميّ، الفلانيّ» ثم الدعاء المعطوف، والصدر بالتعظيم المألوف؛ وأنها قد تفتتح بغير هذا الدعاء نحو:«أدام الله سلطان» و «خلد الله سلطان» أو «أيام» أو غير ذلك
مما يقتضي العزّ والدّوام. وأن الصدر نحو: «العبد، أو المملوك، أو الخادم، يقبّل الأرض أو العتبات أو مواطيء المواقف» أو غير ذلك. وأنّ ختم الكتاب يكون تارة بالدعاء، وتارة ب «يطالع أو أنهى» أو غيرهما مما فيه معنى الإنهاء. ويخاطب الخليفة في أثناء الكتاب بالديوان العزيز، وبالمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف. وبأمير المؤمنين مجرّدة عن سيدنا ومولانا، ومرّة غير مجرّدة، مع مراعاة المناسبة، والتسديد والمقاربة. وأن خطاب المكاتب عنه بحسب من كتب عنه:
فكتب بعض ملوك بني أيوب بالديار الشامية «الخادم» . وبعضهم «المملوك» وبعضهم «العبد» وبعضهم «أقل المماليك» وبعضهم «أقلّ العبيد» . وأن علاء الدين خوارزم شاه «1» : صاحب بلاد خوارزم وما معها، وابنه جلال الدين «2» كانا يكتبان «الخادم المطواع» ، وأن أمّ جلال الدين كانت تكتب «الأمة الداعية» . قال:
في «التثقيف» «3» : وعنوانه «الديوان العزيز» إلى آخر الألقاب، ثم الدعاء يعني من
نسبة الصدر، نحو «أدام الله أيامه وخلّد الله سلطانه» وما أشبه ذلك. قال: وعادة العلامة إليه «الخادم» أو «المملوك» أو «العبد» . وكتب بعضهم «أقلّ المماليك» وبعضهم «أقلّ العبيد» . يريد أنّ العلامة تكون مطابقة لما يقع في أثناء المكاتبة عن المكتوب إليه من الخادم وغيره مما تقدّم ذكره، بحسب ما يؤثر الملك المكتوب عنه الخطاب به عن نفسه.
وهذه عدّة صدور مختلفات الابتداءات منقولة من التعريف وغيره.
أما قطع الورق الذي يكتب فيه إلى الخليفة، فقد تقدّم في الكلام على مقادير قطع الورق في المقالة الثالثة، نقلا عن ابن عمر المدائنيّ في «كتاب القلم والدواة» أنه يكتب للخلفاء في قرطاس من ثلثي طومار، وأن المراد بالطّومار الفرخة الكاملة، وأن المراد الورق البغدادي «1» ؛ وحينئذ فينبغي أن يجرى الأمر على ذلك تعظيما للخلافة.
صدر: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زالت سيوف أوليائه في رقاب أعدائه محكّمة، وصنوف الكفّار، في أيدي عسكره الجرّار، بالنّهاب مقسّمة، وصفوف أهل الشرك مزلزلة بخوافق أعلامه المطهّرة وسنابك جياده المطهّمة؛ ولا برحت ملائكة النصر من أمداده، وملوك العصر بيض الوجوه بتعظيم شعار سواده.
الخادم ينتهب ثرى العتبات الشريفة بالتقبيل، وينتهي في قصارى الطّلبات، على الوقوف في تلك الرّبوع، ويكلّل ربى تلك الساحات، هو وكلّ ابن سبيل بلآليء الدّموع، خضوعا في ذلك الموقف الذي تنكر القلوب فيه الصّدور، وتلصق منه الترائب بالنّحور «2» ؛ ويظهر سيما «3» الجلالة في الوجود، ويغدق على الأولياء فيعرفون بسيماهم من أثر السّجود. وينهي أن ولاءه القديم، وبلاءه
العظيم، وأيّامه السالفة، وأفعاله التالدة والطارفة، وسوابق خدمه في امتثال الأوامر الشريفة التي لم يزل يتسارع إليها، ويقارع عليها، ويصارع غلب الأسود على تنفيذ مراسمها، وإقامة مواسمها، وإطارة صيتها، ودوام تثبيتها، تحمل الخادم على الاسترسال، وتجمل له السؤال، والذي ينهيه كذا وكذا.
صدر آخر: من «التعريف» : أدام الله سلطان الديوان العزيز، ولا زالت الخلائق بكرمه مضيّفة [والكتائب في هجير وطيسه مصيّفة]«1» ، والأبصار في نصر أنصاره مصنّفة، والمواضي بأوامره في قبضات عساكره مصرّفة، والنقود إلا ما تشرّف باسمه مزيّفة، والقلوب في صدور الأعداء بخواطف رعبه مسيّفة «2» ، والوعود إلا بما تنجزه مواهبه مسوّفة، والوغى لا ترى إلا برماحه مثقّفة، والسماء وإن علت لا تكون إلا لأذيال سيوفه مسجّفة «3» ، والمهابة بسطاه إما للمعاقل فاتحة وإما عمّا يطمع أن تناله الأيدي منها مجحفة، والأمم على اختلافها تحت راياته المنصورة مقاتلة وأخرى له محالفة، والأعلام التي يأوي إليها الإسلام به جوار الجوزاء مخلّفة، والأبطال لقتال الكفر ببوارق سيوفه، قبل مضايق صفوفه، ومخانق زحوفه مخوّفة.
الخادم يقبل بولائه إلى ذلك الجناب، ويقبّل الأرض وكتابه يحسن المناب، ويقيل عثراته إذ كان به قد لاذ، ويقيم معاذيره إذ كان به قد عاذ، ويتسربل بطاعته سرابيل تقيه إذا خاف من سهام الدهر إلى مهجته النّفاذ، ويصول بانضمامه إلى تلك العصابة المنصورة لا بما يطبع من الفولاذ، ويجلّ تلك المواقف المقدّسة أن يبلّ مواطئها بدمعه، وأن يحلّ مواطنها بقلبه قبل أن يعاجل كلّ عدوّ بقمعه؛ ويعدّ ما هدي إليه من الاعتصام بسببها سببا لفوزه، وموجبا لملك رقّ عنق كلّ عاص وحوزه؛ وينهي كذا وكذا.
صدر آخر: خلّد الله سلطان الديوان العزيز! ولا زالت أيامه شامخة الذّوائب، شارخة الصبّا [حتى] حيث يلحق الشّيب الشوائب، راسخة الفخار في الظّهور بالعجائب، نافخة في فحم الليل جمر الكتائب، صارخة والرعد ترتعد فرائضة بين السّحائب، ناسخة دولة كلّ علياء بما تأتي به من الغرائب، وتبذله من الرّغائب، فاسخة عقد كلّ خالع يردّه الله إليها ردّة خائب، باذخة على ماضي كلّ زمان ذاهب من عصور الخلفاء الشرفاء وآئب، سالخة لجلدة كلّ أيّم «1» ظنّ أنّ في أنياب رمحه النّوائب.
الخادم يقبّل العتبات الشريفة ساجدا بجبينه، وشاهدا يستأديه له على يمينه، وجاحدا كلّ ولاء سوى ولائه المعقود بيمينه، وعاقدا بشرف الانتساب إليه عقد دينه، وحامدا الله الذي جعله [من]«2» طاعة أمير المؤمنين عند حسن يقينه؛ وعائدا بأمله إلى كرم تثمر به الآمال، وتقمر به اللّيالي لأنها شعاره الذي تضرب به الأمثال، وتمطر به السّحب الجهام «3» فتمحى بها آية الإمحال. وينهي ورود المثال الشريف الذي طلع نيّره فأنار، وسطع متضادّه فألّف بين الليل والنهار؛ وأقبل فما رآه إلا كتابه الذي أوتيه باليمين، وسحابه الذي أعطيه يندى منه الجبين؛ ونصره أكثر من الألوف، وأنصفه أعجل من السيوف، وزاحم به الدهر فضلا عن الصّفوف، وزار به الوغى لا يهابها وخطّيّات القنا وقوف؛ فتشرّف به وطار بغير جناح، وقاتل بغير سلاح، وقرأه وبات قرّى له في السّماح، وتسلّمه كأنما تسنم به المعاقل وتسلّم منه المفتاح.
صدر آخر: خلّد الله أيام الديوان العزيز! ولا زالت سطواته تجمد برعبها
الأبطال المدجّحة، وتخمد بفيضها النّيران المؤججة، وتخمل بركز نفاذها إلى القلوب الرّماح المزجّجة «1» ، وتبخّل معها بعوائد كرمها السحب المثجّجة «2» ، وتخفّ لديها أوقار «3» الجبال المفجّجة «4» ، وتخرّ بل تخور خوفا أن تترقّى إليها الأصوات المضجّجة، وتخصّ بالغرق من خاطر في بحارها الملجّجة، وتحلف بسلطانها للموت أشهى من البقاء إلى طرائد سيوفها المهجّجة «5» ، وتخلّد النصر بحججها القائمة على الخصماء المتحجّجة.
الخادم يقلّب وجهه في سماء الفخار بتقبيل الأرض التي طالت السماء، فأطالت النّعماء، وفضلت النّجوم اللّوامع، وأوتيت بمالكها- أعزّ الله سلطانه- كلم الفضل الجوامع، وأحلّت شوامخ المجد من حلّها، وأجلّت قدر من جدّ فأجلّها، وأعطت مفاتيح الكنوز كنوز الشّرف لمن قبّلها كما يقبّل الحجيج الحجر، أو أمّلها كما يؤمّل الساري طلوع القمر؛ وينهي كذا وكذا.
صدر آخر: قال في «التعريف» : وهو غريب الأسلوب.
أدام الله أيام العدل والإحسان، النّعم الحسان، والفضل المشكور بكلّ لسان؛ الأيّام التي أشرق صباحها السّافر، وعمّ سماحها الوافر، وآمن بيمنها كلّ مسلم ضرب عليه سرادق الليل الكافر؛ وعلت شموسها وقد جنحت العصور الذّواهب، وقدحت أشعّتها فأضاءت بين لابتي الغياهب «6» ؛ أيّام الديوان [العزيز
المولوي، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الحاكميّ] «1» ، لا برحت أيامه مفنّنة، «2» وأحكامه مقنّنة، وسحبه على الظّماء محنّنة، وقربه بفقد ما حوته مجنّنة «3» ، وحقائقه غير مظنّنة، وطرائقه للخير مسنّنة، والخلائق تحت جناح رأفته ورحماه مكنّنة؛ ولا زال ولاؤه ضمير من اعتقد، وممير «4» من أخذ من الدهر ما نقد، ومبير الأسود المتضائلة لديه كالنّقد «5» ، وسمير من تنبّه وضجيع من رقد، ومعير البرق ندى كرمه وقد وقد، ومغير متعالي الصّباح من راياته العالية بما عقد، ومجير من لاذبه حتّى لا يضرّه من فقد ومبير عداه برداه الذي إن تأخّر إلى حين فقد «6» الخادم يخدم تلك العتبات الشريفة التي إن تاهت على السماء فما «7» ، وإن دنت للتقبيل فإن الثّريّا تودّ أن تكون فما؛ وينهب تراب تلك الأرض التي هي مساجد، ويقبّل ذلك البساط الذي لا موضع فيه إلا مكان لاثم أو ساجد؛ وينزّهها عن سواكب دمعه: لأنّ ذلك الحرم [الآمن]«8» لا تطلّ فيه الدماء، ويجلّها عن مواقع لثمه لأنها لا تلثم السماء؛ ويرفع صالح الدعاء وإنما إلى سمائها يرفعه، وينهي صادق الولاء وماثمّ من يدفعه، ويدّخر من صحيح العبوديّة ما يرجو أنه ينفعه؛ ويطالع العلوم الشريفة بكذا وكذا.
صدر آخر: أدام الله النعمة على الدين والدنيا بإيالة الديوان العزيز! وأسبغ نعمه فالنّعم في ضمنها، وملأ الآمال منها وأفاض من أنوارها التي علم قرن
الشمس أنّه غير قرنها، وأدال دولته التي نزل الخلق من جنّات عدلها جنّات عدنها؛ وأمضى سيوفها التي تعرب فيعرف ضمير النصر في لحنها «1» ، وأعلى آراءها التي تلقى العداة بدروع يقينها، وتلقى الغيوب بسهم ظنّها؛ ولا زالت البشائر تتبارى إليه بردها، ويضفو على أعطاف الإسلام بردها؛ ولا برحت راياته سويدات «2» قلوب العساكر، وأجنحة الدعاء المحلّق إلى أفق السماء من أفق المنابر، وولاؤها السّرّ المبهم الذي هو مما تبلى به السرائر «3» الخادم
…
صدر آخر: أعلى الله الموحّدين على الملحدين، وثبّت كلمة المتّقين على اليقين، بدوام أيّام الديوان العزيز، وروّض بولاته كل ديوان، ووسم بولائه كلّ أوان، وأنطق بحمده كلّ لسان، وألهم الخلق أن يعنونوا بطاعته صحائف الإيمان، وأسعدهم بما يتناولونه في الدنيا من كتب المنن وفي الآخرة من كتب الأمان؛ فكلّها طائر في العنق يكون بالطاعة قلائد برّ في الأطواق، وبالمعصية جوامع أسر في الأعناق.
ورد على المملوك كتاب إن لم يكن أنزل من السماء، فهو من الذين أنزل عليهم كتاب من السماء، وإن لم تنزل ألفاظه بالماء، فهو من الذين أنزلت ألفاظ دعواتهم الماء؛ وإن لم يكن كتاب العمل: لأنه ليس بيوم الكتاب، فإنه قطّ «4» عجّل له قبل يوم الحساب؛ ولولا أن أمّ الكتاب أعقمت «5» لكان ابن أمّ الكتاب، وإن هو إلا طائر ألزم في عنقه وما وكر طائره إلا المحراب.
صدر آخر: أتمّ الله ما أنعم به على الديوان العزيز وعلى الخلق، وأشرك في هذه النّعمة أهل الغرب والشّرق، وميّز الحظوظ فيها بحسب درجات السّبق. فإنه
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى
«1» والله لا يخلف موعده؛ والديوان العزيز لا يكدّر مورده، ولا رفع عن أيدي الخلق يده، بل يجري عليها ما ضمّنه، ويمكّنها بما بسط لها في الأرض ومكّنه، ويرسل عليها سحائب رحمته، وينشيء منها ناشئة نعمته، ويوجّه إلى قلبها وجه كلّ أمل، ويفيض طوفانها فلا يكون به للغليل قبل، ولا يأوي إلى حصاة قلب «2» فيعصمها ولو أنه جبل.
قلت: ولم أقف على مكاتبة عن أحد من ملوك الديار المصرية إلى أبواب الخلافة مذ صارت دار الخلافة بالديار المصرية. والظاهر أنه لم تجر مكاتبة عن السلطان إلى الخليفة، لأن الخليفة لا يكاد يفارق السلطان سفرا ولا حضرا مفارقة توجب المكاتبة إليه، كما أشار إليه صاحب «التثقيف» . وقد لوّح في «التعريف» إلى ذلك فقال: وأوّل ما نبدأ بما يكتب به إلى الأبواب الشريفة الخليفتية (كذا) زادها الله شرفا، جريا على قديم العادة، ورجاء لملاحظة السّعادة.
وهذه نسخة مكاتبة من هذا النوع مما كتب به القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» رحمه الله إلى ديوان الخلافة ببغداد في أيام الناصر لدين الله بخبر ملك الألمان «3» من الفرنجة والقتال معه، في جواب كتاب ورد عليه، يوضّح في هذا الموضع بيان هذا الأسلوب، ويغني عن مراجعة [كثير] من الأمثلة المذكورة في المكاتبات إلى الخلفاء على ما تقدّم، وهو:
أدام الله ظلّ الديوان العزيز النبويّ، الإماميّ، الشريف الناصريّ، ومدّه على الأمة ظليلا، وجعل الأنوار عليه دليلا، وحاطه بلطفه وتقبّل أعماله بقبول
حسن وأنبتها، وأرغم أعداءه وكبتها، ومسّها بعذاب من عنده وسحتها؛ ولا زالت رايته السوداء بيضاء الخبر، محمرّة المخبر في العداة مسودّة الأثر.
ورد على الخادم ما كوتب به من الديوان العزيز رائدا في استخلاصه، مبرهنا عن اختصاصه، مطلقا في الشّكر للسانه، وفي الحرب لعنانه؛ ومقتضيا لأمنيّة كان يتهيّبها، ومفيضا لمكرمة لو سمت نفسه إليها كان يتهمها؛ فلله هو! من كتاب كأنّه سورة وكلّ آية منه سجدة، قابله بالخشوع كأنما قلم الكتاب القضيب وطرسه البردة «1» ؛ وتلاه على من قبله من الأولياء مسترفها به لعزائمهم، مستجزلا به لمغانمهم، مستثبتا به للازمهم، مستدعيا به الخدمة للوازمهم، مرهفا به ظباهم في القتال، فاسحا به خطاهم يوم النّزال؛ فأثّر فيه كالاقتداح في الزّند «2» ؛ وكالانبجاس من الصّلد، وكالاستلال من الغمد؛ فشمّر من كان قد أسبل، وانتهى من كان قد أجبل «3» ؛ وكأنّما أعطوا كتابا من الدّهر بالأمان، أو سمعوا مناديا ينادي للإيمان؛ وقالوا: سمعنا وأطعنا، وعلينا من الخدمة ما استطعنا؛ هذا مع كونهم أنضاء زحوف «4» ، وأشلاء حتوف، وضرائب سيوف؛ قد وسمت وجوههم علامات الكفاح، وأحالت عرضهم أقلام الرّماح؛ صابرين مصابرين، مكاثرين مكابرين، مناضلين مناظرين؛ قد قاموا عن المسلمين بما قعد عنه سائرهم، ونزلوا بقارعة القراع فلا يسير عنها سائرهم؛ وسدّست «5» كعوب الرّماح أنملهم، وأثبتوا في معترك الموت أرجلهم؛ كلّ ذلك طاعة لله ولرسوله ولخليفتهما، وإذا رموا فأصابوا قالوا ولكنّ الله رمى.
ومن خبر الكفّار أنهم إلى الآن على عكّا يمدّهم البحر بمراكب أكثر عدّة من أمواجه، ويخرج للمسلمين منهم أمر من أجاجه»
؛ قد تعاضدت ملوك الكفر «2» على أن ينهضوا إليهم من كلّ فرقة منهم طائفة، ويقلّدوا لهم من كل قرن يعجز بالكرّة واصفه؛ فإذا قتل المسلمون واحدا في البرّ بعث البحر عوضه ألفا، وإذا ذهب بالقتل صنف منهم أخلف بدله صنفا؛ فالزّرع أكثر من الجداد «3» ، والثمرة أنمى من الحصاد. وهذا العدو المقاتل- قاتله الله- قد زرّ عليه من الخنادق أدراعا متينة، واستجنّ من الجنويات «4» بحصون حصينة؛ مصحرا ومتمنّعا، وحاسرا ومتدرّعا ومواصلا ومنقطعا؛ وكلّما أخرج رأسا قد قطعت منه رؤوس، وكلّما كشف وجها كشف من غطاء أجسادها نفوس؛ فكم من يوم أرسلوا أعنّة السوابق فذمّوا عقبى إرسالها، وكم من ساعة فضّوا فيها أقفال الخنادق فأفضى إليهم البلاء عند فضّ أقفالها؛ إلا أنّ عددهم الجمّ قد كاثر القتل، ورقابهم الغلب قد قطعت النّصل لشدّة ما قطعها النصل. ومن قبل الخادم من الأولياء قد آثّرت المدّة الطويلة، والكلف الثقيلة، في استطاعتهم لا في طاعتهم، وفي أجوالهم «5» لا في شجاعتهم؛ فالبرك «6» قد أنضوه، والسّلاح قد أحفوه، والدّرهم قد أفنوه؛ وكلّ من يعرفهم من أهل المعرفة، ويراهم بالعين فما هم مثل من يراهم بالصّفة؛ يناشد الله المناشدة النبويّة، في الصّيحة البدرية؛ اللهم إن تهلك هذه العصابة، ويخلص الدعاء ويرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة. هذا والساحل قد تماسك، وما تهالك؛ وتجلّد، ما تبلّد؛ وشجّعته مواعد النّجدة الخارجة، وأسلته عن مصارع العدّة الدّارجة؛ فكيف به إذا خرج داعية الألمان، وملوك للصّلبان، وجموع ما
وراء البحر، وحشود أجناس الكفر؟ وقد حرّم باباهم «1» - لعنة الله عليهم وعليه- كلّ مباح واستخرج منهم كلّ مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبسهم الحداد، وحكم عليهم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، ويعيدوا القمامة «2» وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ
«3» اللهم أخفر جواره، واصرف جوره، وأخلف وعده، واكسر ضمانه، وأنكصه على عقبه، وعجّل في الدنيا والآخرة منهم تبابه. وما بدأتنا به من نعمتك فلا تقطعه، وما وهبتنا من نصرك فلا تسلبه، وما سترته من عجزنا فلا تهتكه. [و] في دون ما الدّين مستقبله، وعدوّه خذله الله يؤمّله؛ ما يستغرغ عزائم الرجال، ويستنفد خزائن الأموال، ويوجب لإمام هذه الأمة أن يحفظ عليها قبلتها، ويزيح في قتل عدوّها علّتها؛ ولولا أنّ في التصريح، ما يعود على عدالته بالتّجريح، لقال ما يبكي العين وينكي القلوب، وتنشقّ له المرائر وتشقّ له الجيوب؛ ولكنّه صابر محتسب، منتظر لنصر الله مرتقب، قائم في نفسه بما يجب؛ ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي، وها هو قد هاجر إليك هجرة يرجوها عندك مقبولة، وولدي وقد أبرزت لعدوّك صفحات وجوههم، وهان عليّ محبوبك بمكروهي فيهم ومكروههم. ونقف عند هذا الحدّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ وإن لم يشتك الدّين إلى «ناصره» والحقّ إلى من قام بأوّله وإلى اليوم الآخر يقوم بآخره؛ فإلى من
يشتكى البثّ، وعند من يتفرج بالنّفث؟ ومنفعة الغوث قبل العطب، والنّجاء قبل أن يصل الحزام الطّبيين «1» والبلاغ قبل أن يصل السيل الزّبى.
فيا عصبة محمد صلى الله عليه وسلم اخلفه في أمّته بما تطمئن به مضاجعه، ووفّه الحقّ فينا؛ فإنّا وإنّ المسلمين عندك ودائعه، وما مثّل الخادم نفسه في هذا القول إلا بحالة من وقف بالباب ضارعا، وناجى بالقول صادعا؛ ولو رفعت عنه العوائق لهاجر، وشافه طبيب الإسلام بل مسيحه بالداء خامر؛ ولو أمن عدوّ الله أن يقول فرّ لسافر، وبعد ففيه وإن عضّ الزمان بقيّة، وقبله وإن تدارأت الشّهّاد دريّة «2» ؛ فلا يزال قائما حتّى ينصر أو يعذر، فلا يصل إلى حرم ذرّية أحمد صلى الله عليه وسلم ومن ذريّة أيوب واحد يذكر.
أنجز الله لأمير المؤمنين مواعد نصره! وتمم مساعدة دهره! وأصفى موارد إحسانه! وأرسى قواعد سلطانه! وحفظه وحفظ به فهو خير حافظا «3» ، ونصره ونصر على يديه فهو أقوى ناصرا، إن شاء الله تعالى.
ثم اعلم أن المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله قد ذكر في «تعريفه» أيضا أنّ المكاتبة إلى أبواب الخلافة من الملوك والسّوقة لا تختلف، بل تكون على الأنموذج المقدّم ذكره، واستلزم ذلك: فجرى على هذا المصطلح فيما كتب به إلى الديوان العزيز الحاكميّ، أحمد بن أبي الربيع سليمان «4» أحد الخلفاء
العباسيّين بالديار المصرية، عن رماة البندق «1» بالشام، جوابا عمّا ورد عليه من كتابهم، وهو متكلّم على رماة البندق يومئذ في أمر ناصر الدين بن الحمصيّ وهو أحد الرّماة.
أدام الله تعالى أيام الديوان العزيز، المولويّ، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الحاكميّ، ونصر به جمع الإيمان، وبشّر بأيّامه الزمان، ومتّعه بالملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بما ورثه من سليمان؛ ولا زال يخضع لمقامه كلّ جليل، ويعرف لأيامه كلّ وجه جميل، ويعترف لشرفه كلّ معترف بالتفضيل، ويشهد بنفاذ أوامره من ذوي نسبه الشريف كلّ أخ وخليل؛ ولا كان إلّا كرمه المأمول، ودعاءه المقبول، وعدوّه المصروع ووليّه المحمول؛ ولا برحت طاعته يعقد عليها كلّ جمع، ومراسمه ينصت إليها كلّ سمع، وطوائف الذين كذبوا عليه لا تتلى عليهم آياته إلا تولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع.
المماليك يقبّلون الأرض بالأبواب العالية التي هي خطّة شرفهم، ومكان تعبّد القدماء منهم ومن سلفهم، ويلوذون بذلك المقام، ويعوذون بذلك الحرم الذي لا يبعد نسبه من البيت الحرام؛ ويؤمّلون ذلك الكرم الذي ما منهم إلا من سعد به طائره، وجاءته به في وجه الصّباح أشائره؛ وفي وجه العشاء بشائره؛ فنالوا به أقصى المرام، وقضوا به من العمر ما إذا قالوا: يا سعد! لا يعنون به إلا ذلك الإمام؛ وينتهون إلى ما ورد به المرسوم الشريف الذي ما من المماليك إلا من متّ لديه بتقديم عبوديّته ورقّه، وسارع إلى طائره الميمون وحمله بسبقه، وفتح له عينه وظنّ أنّه حاكم، وامتثلوا أمره وكيف لا تمتثل الرماة أمر الحاكم؟ ولا سيّما ابن عمّ
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الامام الحاكم؛ وأجلّوه عن رفعه على العين إذ كانت تلك بمنزلة الحاجب، وقدّموا إليه خفوق قلوبهم الطائرة وما علموا إن كانوا قاموا بالواجب؛ ووقفوا على أحكام حاكمه فما شكّوا أنّ زمان هذا الفنّ بحياة ناصره في بغداد قد عاد، وأنّ مثاله المتمثّل في سواد الحدق مما حكته أيامه العبّاسيّة من شعار السّواد؛ وعلموا ما رسم به في معني محمد بن الحمصيّ الذي ما نوّرت الليلة أكاريخه، ولا بعدت في الإقعاد له تواريخه؛ بل أخمدت دموع ندمه نيرانه المشتعلة، وأصبح به لا يحمل القوس في يده إلا أنه مشغلة؛ وما كان أنهاه الدّيوان العزيز مما لم تذكر الخواطر الشريفة بأنه قبة المفترى، وأنه صاحب القوس إلا أن ماله سعادة المشتري؛ وأنه موّه تمويه الجاحد، وتلوّن مثل قوس قزح وإلا فقوس البندق لون واحد؛ وأدلى بغروره، وعرض المحضر الذي حمله على تغريره؛ وذلك في غيبة الأمير بهاء الدين أرسلان البندقدار الحاكمي، الذي لو كان حاضرا لكان حجّة عليه، ومؤكّدا لإبطال رميه وقوسه وبندقه في يديه؛ لما تضمّنه الخطّ الشريف المقيّد اللفظ المكتتب على المصطلح، الساحب ذيل فخاره على المقترح، الذي هدى إلى الخير، وبدا به ما وهب من الملك السليمانيّ الذي أوتي من كلّ شيء وعلّم منطق الطير «1» ؛ فإنّه لم يكتب له إلا بأن يرمي على الوجه المرضيّ واستيفاء شروط البندق، والخروج من جميع الأشكال عملا بقواعده؛ ويعلم بأنه ما رعى حقّ قدمته، ولا فعل في الباب العزيز ما يجب من التحلّي بشعار الصّدق في خدمته؛ وأنه خالف عادة الأدب، وأخطأ في الكلّ لكنه ندب «2» ؛ وذلك بعد أن عمل له جميع رماة البندق، وسئل فأجاب: بأنه سالم من كل إشكال
يشكل، وأنه بعد أن أقعد رمى وحمل وحمل؛ فشهد عليه السادة الأمراء ولاة العهد إخوة أمير المؤمنين ومن حضر، وكتبوا خطوطهم في المحضر؛ وما حصل الآن عند عرض قصة المماليك بالمواقف المقدّسة، ووضوح قضيته المدنّسة: من التعجّب من اعتراف المماليك، لكونهم رموا معه بعد أن رأوا الخطّ الشريف وهو لفظ مقيّد، وأمر أيّد به رأي الإمام الحاكم بأمر الله المسترشد بالله والمؤيّد؛ وكلّ ما أمر به أمير المؤمنين لا معدل عن طرقه، ولا جدال إلا به إذا ألزم كلّ أحد طائره «1» في عنقه، وأمير المؤمنين بحر لا يرد إلا من علمه، وهو الحاكم ولا رادّ لحكمه.
وإنما ابن الحمصيّ المذكور عدم السّداد، وخالف جاري العادة في الحمّص فإنه هو الذي سلق في الافتراء بألسنة حداد؛ ولم يوقف المماليك من الخط الشريف إلا على بعضه، ولا أراهم من برقه المتهلّل غير ومضه؛ والذي أوقفهم عليه منه أن يرمي محمد بن الحمصيّ ويرمى معه، وكلمة أمير المؤمنين مستمعة، ومراسيمه متّبعة؛ وإذا تقدّم كان الناس تبعه. غير أن المذكور بدت منه أمور قطع بها الأمير صارم الدين صاروجا الحاكم البندقدار «2» في حقه، وأقعده عن قدمته التي كان يمتّ فيها بسبقه؛ وانتقل عنه غلمانه، وثقل عليه زمانه؛ ونودي عليه في جمع كبير يزيد على تسعين قوسا، وجرح بخطإ بندقه جرحا لا يوسى؛ ثم بعد مدّة سنين توسّل بولد الأمير المرحوم سيف الدين تنكز إلى أبيه، وتوصّل به إلى مراميه؛ فأمر أن يرمى معه وهدّد المخالف بالضرب، ولم يرم معه أحد برضاه إلا خوف أن توقد نار الحرب، فلما مضت تلك الأيّام، وانقضت تلك الأحلام، جمع مملوك الأبواب العالية الأمير علاء الدين بن الأبو بكري الحاكم في البندق الآن من رماة البندق
جمعا كبيرا، واهتّم به اهتماما كثيرا؛ وذكر أمر المذكور، وأحضر محضره المسطور؛ ولم يكن عليه تعويل، ولا في حكم الحاكم المتقدّم تعليل، ولا عند هذا الحاكم الذي ادّعى له وادّعى عنده تجوز الأباطيل؛ وتحقّق أنّ الحقّ فيما حكم به عليه فتبع، وترجّح أن لا يقام منه من أقعد ولا يوصل منه ما قطع؛ فنّفذ حكم الحاكم المتقدّم، واستمرّ بقعوده المتحتّم؛ ووافقه على هذا سائر الرّماة بالبلاد الشامية وحكّامها، ومن يرجع إليه في الرّماية وإحكامها؛ وبطلت قدمة لمذكور التي ذهب فيها عمره ضائعا، وزمانه الذي لو اشتريت منه ساعة بالعمر لم يكن نافعا.
ولما ورد الآن هذا المرسوم الشريف زاده الله شرفا قبلوا الأرض لديه، وأوقفوا عليه حاكمهم المسمّى فوقف له وعليه؛ وجمع له جمعا لم يدع فيه من الرّماة معتبرا، ولا من يلقم القوس وترا، ولا من إذا قعد كالعين جرى ما جرى، ثم قرأ عليهم ما تضمّن، ودعو الأمير المؤمنين ولم يبق منهم إلا من دعا أو أمّن؛ وتضاعف سرورهم بحكمه الذي رفع الخلل، وقطع الجدل، وقالوا: لا عدمنا أيام هذا الحاكم الذي أنصف والإمام الذي عدل؛ وبقى ابن الحمصى مثله، ونودى عليه إنّه من رمى معه كان مخطئا مثله؛ ووقرت هذه المناداة في كلّ مسمع، وقرّت استقرار الفضل عليه المجمع، وذلك بما فهم من أمير المؤمنين؛ وبنص كتابه المبين، وبما قضى الله به على لسان خليفته الحاكم والله أحكم الحاكمين؛ وطالعوا بها وأنهوا صورة الحال، وجمعوا في إمضائه الآمال. لا زالت سعادة أمير المؤمنين منزّهة عن الشّبه، آخذة من خير الدارين كل اثنين في وجه، حتّى تحصل كلّ رمية من كثب، ولا يرمى في كل أمنة إلا كلّ مصطحب، ما غبّ في السماء المرزم «1» ، ووقع العقاب على ثنيّة يقرع سنّه ويتندّم، وعلا النّسر الطائر والواقع على آثاره وسائر طيور النّجوم والحوّم؛ إن شاء الله تعالى.