الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غزوة تبوك
في السنة التاسعة للهجرة وفي شهر رجب منها في وقت الصيف اللاهب، حيث يحلو للناس الظل، ويبدأ نضوج الثمر، كانت غزوة تبوك، وهي الغزوة التي سميت بالعسرة، لاجتماع الشدة في الطقس، والشدة في المال والدواب، وبُعْد الشُّقة والمسافة.
وسبب الغزوة كما ذكر ابن كثير، هو تحقيق قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1) فقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة الروم إِلى الإِسلام، وقتالهم إِن لم يستجيبوا، حيث بلغه أنهم يجمعون له، ويؤلبون القبائل العربية الخاضعة لهم على غزو المسلمين كما فعلوا من قبل في مؤته.
وعندما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمه على التوجه إِليها دعا إِلى الصدقة، ووضع رداءه فكان كل مسلم يأتي بما يستطيع، فمنهم من يأتي بالكثير، ومنهم من يأتي بالقليل، والمنافقون يسخرون من صاحب الكثير والقليل (2). وجاء عمر بنصف ماله قائلا: ما أظن أحدًا يسبقني إِلى ما فعلت، وجاء أبو بكر بكل ماله، فقال عمر: والله لا أسابقك أبدًا (3).
وأنفق العباس، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، وسعد بن عبادة، وعاصم بن عَدِي نفقات كثيرة، وجهز عثمان ثلث الجيش، فَسُرّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: مَا ضَرّ عثمان ما فعل بعد اليوم) (4).
(1) ابن كثير، البداية والنهاية ط/هجر، 7/ 144. والآية 123 من سورة التوبة.
(2)
صحيح البخاري، كتاب التفسير ح 4668.
(3)
أخرجه الترمذي في سننه ح 3675 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله 2/ 173.
(4)
أخرجه البخاري معلقًا، كتاب "فضائل الصحابة" باب فضائل عثمان رضي الله عنه وأخرجه الترمذي رقم 2700 وأحمد في المسند 4/ 75.
وكان عدد الجيش يزيد على ثلاثين ألفا، بينما كان عدد الجيش في حنين في آخر السنة الثامنة اثنا عشر ألفا، مما يؤكد نجاح خطة النبي صلى الله عليه وسلم في نشر الإِسلام، وازدياد الدخوك فيه بعد صلح الحديبية، وفتح مكة.
وتخلف عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة طوائف من المنافقين، فقد جاء أحد المنافقين إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في التخلف والقعود وقال: ائذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما أحد أشد عُجْبًا بالنساء مني، وإِني أخشى إِن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن (1)، فأنزل الله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (2).
وقال بعضهم لابنه: يا بني مالي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إِلى بني الأصفر، وقال آخر: لا تنفروا في الحر، فرد الله عليهم بقوله: {
…
وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (3).
كما تخلف عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم معذورون، وبكوا حسرة أن لا يجدوا ما ينفقون، وتخلف من المسلمين من لم يكن له عذر، منهم كعب بن مالك، ومرارة ابن الربيع، وهلال بن أمية، وتخلف أبو خيثمة الأنصاري، ولما سار الجيش خل بستانه وفيه امرأتان لكل منهما عريش قد رَشّته وَبّردت له فيه الماء، وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل وقف على الباب فقال: سبحان الله! رسول الله قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضّح والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسنة، في ماله مقيم؟!! ما هذا بالنّصف! والله لا أدخل عريش واحدة منكما، وأمرهما بتجهيز راحلته، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) ابن هشام، السيرة 4/ 156.
(2)
سورة التوبة، آية 49.
(3)
سورة التوبة، آية 81.
فأقبل على الجيش وهم قريبا من تبوك فرآه الناس وقالوا: هذا راكب مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. ثم دعا له بخير (1). وخرج أبو ذر على بعير فتأخر به، فقال الناس: أبطأ فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: إِن يكن به خير فسيلحقه الله بكم، وإِن كان غير ذلك فقد أراحكم الله تعالى منه، فلما آذاه بعيره حمل متاعه على ظهره ولحق بهم. فقال رجل: يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر. ثم قال: رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده (2). وكان ذلك بالفعل حيث تحقق ما قاله صلى الله عليه وسلم، فمات وحده رضي الله عنه بالربذة شرقي المدينة، واستخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة محمَّد بن مسلمة الأنصاري، وخَلّف عليَّ بن أبي طالب في أهله خاصة، فقال المنافقون: استثقله فخلّفه، فلحق به بالجرف (3)، وأخبره بقولهم. فقال صلى الله عليه وسلم: كذبوا، لكني خلفتك لما تركتُ ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إِلا أنه لا نبي بعدي. والحديث متفق عليه (4). وقد بني عليه بعض أهل الفرق الضالة بناءً كبيرًا واهيًا في موضوع الخلافة ولا حجة لهم في ذلك.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش حتى مر بالحِجْر وهي ديار ثمود فأسرع فيها ولم ينزل، فاستسقى أناس من آبار ثمود وعجنوا وطبخوا، فجمعهم وأمرهم قائلا: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إِلا أن تكونوا باكين، لا يصيبكم ما أصابهم، ولا تشربوا من مائها ولا تتوضئوا منه للصلاة، وأعلِفوا العجين الإِبل، وإِنه ستهب عليكم ريح فلا يخرجن أحد منكم الليلة إِلا ومعه صاحب له. ثم ارتحل حتى نزل على بئر الناقة (5). فامتثل الناس الأمر إِلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، والآخر في طلب
(1) ابن هشام، المصدر السابق 14/ 160.
(2)
المصدر نفسه 4/ 164 وانظر: البيهقي، دلائل النبوة 5/ 221 وقال ابن كثير: إِسناده حسن.
(3)
الجرف: موضع شمال المدينة يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة ومعسكرًا للجيش.
(4)
البخاري كتاب فضائل الصحابة ح 3706، ومسلم ح 2404.
(5)
البخاري، كتاب المغازي ح 4419، وكتاب الأنبياء ح (3378 و 3381) ومسلم في الزهد ح (2980).
بعيره، فأما الذي ذهب لحاجته فقد خنقته الجن، وأما الآخر فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أصيب فشفي، وأما الآخر فإن طيئًا أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة (1).
واجتمع بعض المنافقين في مجلس سخرية واستهزاء من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، منهم مخشي بن حمير، وقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنكم غدًا مقرنين في الحبال، إِرجافًا وترهيبًا للمؤمنين. وندم مخشي ندمًا شديدًا، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وقال: أدرك القوم فقد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فجاؤا يعتذرون، وقال أحدهم -وديعة بن ثابت- إِنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
…
الآية} (2).
وقال مخشي: والله يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، وقيل إِنه تاب وقُتِل يوم اليمامة (3). وظلت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أحد المنافقين وهو زيد بن اللصيت القينقاعي: أليس محمَّد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن رجلًا قال كذا وكذا. وإني والله ما أعلم إِلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا، وقد حبستها شجرة بزمامها. ولما علم عمارة بن حزم الأنصاري رضي الله عنه وكان عُقْبِيًا بدريًا- ما قال زيد بن اللصيت طرده من رحله وهو يضرب في عنقه ويقول: أي عباد الله، إِن في رحلي لداهية وما أشعر!! أخرج أي عدو الله من رحلي فلا تصحبني (4).
(1) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 161 وهو مرسل، وله شاهد عند البخاري ح رقم 1481.
(2)
سورة التوبة، آية 65 - 66.
(3)
ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/ 296، الذهبي، المغازي 642.
(4)
ابن هشام، المصدر السابق 4/ 163 وإسناده حسن، وقد صرح ابن إِسحاق بالتحديث، وذكره الذهبي في المغازي 641.