الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحكمة من سرية الدعوة في أول أمرها ظاهرة، إِذ أن مجابهة المجتمع بما يخالف ما هم عليه يحتاج إِلى حكمة وإِعداد وتكوين للعناصر المستجيبة حتى يشتد عودها ويكثر عددها وتقوى نفوسهم على تحمل البلاء، وفي هذا تعليم للدعاة إِلى الله وبيان مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة.
وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي تقع عند الصفا مكانا لاجتماعه بمن أسلم من أصحابه (1)، وكان اختياره دار الأرقم لمواصفات في موقعها القريب من السجد ولكنه لا يقع تحت نظر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة، وصاحبها كان شابا عزبا من بني مخزوم وقد أسلم ولا يعلم عن إِسلامه أحد من قومه، وكان والده كفيف البصر. وقد استمر اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في هذه الدار سرا حتى بعد إِعلان الدعوة والجهر بها، وبعد الهجرة إِلى الحبشة، فقد أسلم عمر في السنة السادسة والنبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم.
الدعوة الجهرية:
قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (2). قال ابن جرير: وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إِليك قرابة، وحذّرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم (3).
وأخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} نادى رسول الله في قريش بطنًا بطنا، فقال: أرأيتم لو قلت لكم إِن خيلًا بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط. قال: فإِني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبَّا لك، ألهذا جمعتنا؟!.
(1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 253.
(2)
سورة الشعراء، آية 214.
(3)
تفسير الطبرى (9/ 481).
فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إِلى آخر السورة (1).
وفي رواية للإِمام مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صعد الصفا فنادى: "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت رسول الله، سليني بما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا"(2).
وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم النذارة بما كانوا يعلمونه في شخصه الكريم، ولا ينكرونه، بدأ بقضيّة لا يختلفون فيها، وهي صدقه صلى الله عليه وسلم، فأجابوه:(ما جرّبنا عليك كذبًا)، وهم يعلمون استحالة أو استبعاد الخبر، فمكة آمنة، وكل العرب تدين لحرمة مكة وقدسيتها، فأنّى أن تغير عليها خيلًا، ومع ذلك كان لديهم استعداد لقبول هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم لم يجربوا عليه كذبًا. فأعلن إِنذاره لهم بقضيّة كبرى وحقيقة عظمى، أنذرهم يوم البعث والجزاء، أنذرهم عذاب الله الجبّار لمن كذّب به واستكبر.
وانطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدها يدعو إِلى الله تعالى ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يردّه عن ذلك رادّ، ولا يصدّه صادّ.
وكفارُ قريش في أول أمرهم غير منكرين لما يقول، بحيث كان إِذا مرّ بهم في مجالسهم يشيرون إِليه: إِن غلام بني عبد المطلب ليُكلَّم من السماء، إِلى أن عاب آلهتهم، وذكر آباءهم الذين ماتوا على الكفر، فانتصبوا لعداوته وعداوة من آمن معه، يعذبون من لا منعة عنده أشد العذاب، ويؤذون من لا يقدرون على عذابه.
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ح (4770)، ومسلم في الإِيمان ح (208). والآيات من سورة المسد 1 - 5.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الإِيمان ح (206).