الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبادر بالهجرة إِلى المدينة من حين أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن أمّ سلمة احتبست دونه، ومُنِعَتْ من اللحاق به، وحيل بينها وبين ولدها، ثم خرجت بعد سنةٍ بولدها إِلى المدينة، وشيعها عثمان بن طلحة من مكة إِلى أن رأت بلدة قباء بالمدينة، ثم تركها وعاد إِلى مكة، وذلك قبل إِسلامه فرضي الله عنه (1). ثم خرج الناس أرسالًا يتبعُ بعضهم بعضًا.
هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (2). قال قتادة: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} ، المدينة:{وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} ، الهجرة من مكة:{وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} ، كتاب الله وفرائضه وحدوده (3).
لم يبق من المسلمين في مكة إِلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعليّ رضي الله تعالى عنهما -أقاما بأمره لهما- وخلا من اعتقله المشركون كرها، وقد أعّد أبو بكر رضي الله عنه جهازه وجهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم منتظرًا؛ حتى يأذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في الخروج.
فلمّا رأى المشركون أصحابَ رسول الله قد تجهزوا، وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إِلى الأوس والخزرج، وعرفوا أنّ الدارَ دارُ مَنَعَة، وأنّ القومَ أهلُ حَلْقة وشوكة وبأس؛ خافوا خروجَ رسولِ الله إِليهم، ولحوقه بهم، فيشتد عليهم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلفْ أحدٌ من أهل الرأيّ والحِجَا منهم؛ ليتشاوروا في أمره، وحضرهم وليُّهم إِبليسُ في صورة شيخ كبير من أهل نجد (4)
(1) انظر لتمام القصة: سيرة ابن هشام (1/ 469، 470).
(2)
سورة الإسراء، آية 80.
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 149).
(4)
قال السهيلي في الروض الأنف 2/ 239: إنما جاءهم في صورة رجل من أهل نجد لأنهم قالوا -فيما ذكر أهل السير- لا يدخل معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم مع محمَّد.
مشتمل الصماء (1)، فتذاكروا أمرَ رسول الله، فأشار كل أحد منهم برأيّ، والشيخ يردُّه ولا يرضاه، إِلى أن قال أبو جهل:(قد فُرِقَ لي فيه رأيٌّ ما أراكم قد وقعتم عليه). قالوا: ما هو؟ قال: (أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريشٍ غلامًا نهدًا جلدًا، ثم نعطيه سيفًا صارمًا، فيضربونه ضربةَ رجل واحد، فيتفرق دمُه في القبائل، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنع، ولا يمكنها معاداة القبائل كلها، ونسوق إِليهم ديته).
قال الشيخ: (لله درّ الفتى، هذا والله الرأيّ). قال: فاجتمعوا على ذلك. فجاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى، فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليله (2)، وجاء رسول الله إِلى أبي بكر نصف النهار -في ساعة لم يكن يأتيه فيها- متقنِعًا، فقال له:"أَخْرِجْ مَن عندك". فقال: (إِنّما هم أهلُك يا رسول الله). فقال: إِنّ الله قد أذن لي في الخروج.
فقال أبو بكر: (الصحابةَ يا رسول الله). فقال رسول الله: "نعم". فقال أبو بكر: (فخذ بأبي وأمي إِحدى راحلتى هاتين). فقال رسول الله: "بالثمن"(3).
وأمر عليًّا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب، ويرصدونه، ويريدون بياته، ويأتمرون أيّهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله عليهم، فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذره على رؤوسهم، وهم لا يرونه.
ثم خلص إِلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فخرجا عن خوخة في دار أبي بكر ليلًا، وقد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي، وكان هاديًا خِريتًا ماهرًا بالدلالة إِلى أرض المدينة، وأمناه على ذلك، مع أنّه كان على دين قومه، وسلَّما إِليه راحلتيهما، وواعداه
(1) الصماء: الكساء الذي ليس له أكمام يخرج منها يديه.
(2)
انظر: سيرة ابن هشام (1/ 480، 483).
(3)
أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ح (3906) من حديث عائشة رضي الله عنها.
بعد ثلاث، وذهبا إِلى غار ثور، وقد أعمى الله على قريش خبرهما، فلم يدروا أين ذهبا، وكان عامر بن فهيرة يريح عليهما غنمًا لأبي بكر، وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل لهما الزاد إِلى الغار، قالت عائشة رضي الله عنها:(وجهّزناهما أحب الجهاز، ووضعْنا لهم سُفْرة في جِراب، فقطعتْ أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فأوْكَتْ به الجِراب، وقطعتِ الأُخرى فصيّرتها عِصامًا لفم القربة، فلذلك لُقِّبتْ بذات النطاقين (1).
وكان عبد الله بن أبي بكر يتسمَّع ما يقال بمكة، ثم يذهب إِليهما بذلك، فيحترزان منه، وجاء المشركون في طلبهما إِلى ثور، وما هناك من الأماكن؛ حتى إِنهم مروا على باب الغار، وحاذت أقدامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه وعمَّى الله عليهم باب الغار (2).
وحزن أبو بكر رضي الله تعالى عنه لشدة حرصه، حين مرّ المشركون، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر موضع قدميه، لرآنا. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما"(3).
ولما كان بعد الثلاث أتى ابن أريقط بالراحلتين، فركباهما، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة، وسار الدليل أمامهما على راحلته، وعين الله تكلؤهما، وتأييده يصحبهما، وإِسعاده يرحلهما ويُنزلهما.
ولما يئس المشركون من الظّفر بهما؛ جعلت قريش لمن جاء بهما دية كل واحد منهما، أي: مائةً من الإِبل، فجدّ الناسُ في الطلب، والله غالب على أمره، فلمّا مرّوا بحيٍّ من مدلج مصعدين من قديد، بصر بهم رجلٌ من الحيّ، فوقف على الحيّ فقال:(لقد رأيتُ آنفًا أسوِدةً ما أُراها إِلا محمدًا وأصحابَه)، ففطِنَ بالأمرِ سراقةُ بن مالك بن جعشم سيّد
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ح (3906).
(2)
انظر: الفصول لابن كثير (ص 114، 115).
(3)
أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ح (4663)، ومسلم في فضائل الصحابة ح (2381).