الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصناف الذين تخلفوا عن غزوة تبوك:
كان الذين تخلفوا عن غزوة تبوك أربعة أصناف:
1 -
مأمورون بالتخلف منه صلى الله عليه وسلم، مثل محمَّد بن مسلمة، وعلي بن أبي طالب، وهؤلاء مأجورون.
2 -
معذورون، وهم الضعفاء والمرضى، وهم مأجورون أيضًا لأنهم قد حبسهم العذر.
3 -
عصاة مذنبون، مثل الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
4 -
ملومون مذمومون، وهم الأعراب والمنافقون.
وعند عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم عليه من تخلف عن الغزوة، وصاروا يعتذرون وهو يعذرهم، حتى جاء كعب بن مالك فقال له: مما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال كعب فقلت: لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك. فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، وعندما قام أسرع إِليه أناس يؤنبونه على صدقه حتى هَمّ بالعودة والبحث عن عذر، ولكنه سأل: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت. فقال: من هما؟ قالوا: مرارة ابن الربيع، وهلال بن أمية. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلام أولئك الثلاثة، فاجتنبهم الناس حتى تنكرت لهم الأرض. قال كعب: فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَحم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على
صلاتي أقبل عَليّ، وإِذا التفتُ نحوَه أعرض عني، حتى إِذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إِلي، فسلمتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام. فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أُحِبُّ الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار. وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إِذا نبطيٌّ من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إِذا جاءني دفع إِلي كتابًا من ملك غسان، فإِذا فيه: أما بعد، فإِنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسِك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء. فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إِذا مضت أربعون ليلة وإِذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره باعتزال امرأته، فقال: أُطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا. بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إِلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: إِلحقي بأهلك فتكوني عندهم، حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت إِمرأة هلال بن أمية إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله، إِن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: إِنه والله ما به حركة إِلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إِلى يومه هذا.
قال كعب: فلما كملت لنا خمسون ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليّ الأَّرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سَلْع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن (1) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله
(1) آذن: أخبر.
علينا حين صلى الفجر. حيث نزل عليه قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
…
الآية} (1) ورَكّضَ إِلي رجُلُ فرسًا، وسعى ساع فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوته إِياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجًا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك، قال: حتى دخلت المسجد فإِذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إِليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إِليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -وهو يبرق وجهه من السرور-: أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا. بل من عند الله.
قال كعب: إِن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إِلى الله وإِلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك).
ثم قال كعب: يا رسول الله، إِن الله إِنما نجاني بالصدق، وإِن من توبتي ألا أحدث إِلا صدقا ما بقيت (2).
(1) سورة التوبة، آية 118.
(2)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك ح (4418) وانظر: ابن كثير، البداية والنهاية ط/ هجر، 7/ 196 - 197.