الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهداف ومقاصد دراسة السيرة النبوية
إِن دراسة السيرة النبوية ليست كدراسة سيرة بطل من الأبطال فحسب- وإن كان هو صلى الله عليه وسلم بطل الأبطال- فلا تُقْرأ وتتعلم لأجل المعرفة وإشباع رغبة حب الاستطلاع وزيادة الرصيد المعرفي فقط وإِنما تدرس لأهداف ومقاصد عظيمة نشير إِلى بعضها:
1 -
معرفة مقاصد الشريعة وأحوال المتعبدين
وذلك للبحث فيها عن الهدى والصراط المستقيم ومرضاة رب العالمين، لأن السيرة مصدر من مصادر التشريع ومنهج لحياة كل مسلم ومسلمة، ولابد أن يدرك القارئ للسيرة النبوية أهميتها التربوية والتشريعية والاجتماعية والإِدارية والسياسية، لأنها تطبيق عملي لنصوص الوحي في كافة مناحي الحياة ألإِنسانية.
2 -
تحصيل الدروس والعبر
إِن السيرة العطرة مليئة بالدروس والعبر التي لا يدركها إِلا من تعلمها بقصد الاتباع لصاحبها عليه الصلاة والسلام، والتربية على مقاصدها وعبرها، فهي مادة تربوية سلوكية تبني الشخصية السوية المتكاملة وتقوِّم السلوك المعوج.
ولذا فإِنه يجب على العلماء والمربين الاعتناء بدراسة السيرة النبوية، والحرص على ما صح من أخبارها حتى يحصل التأسي والمتابعة على الوجه الصحيح. وإِن المناهج التربوية والدعوات الإِصلاحية يجب أن تقتبس من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتلتزم به اعتقادًا وسلوكًا ومنهج تفكير، وتأخذ من التجارب الناجحة ما لا يتعارض مع الأدلة الشرعية.
3 -
الاطلاع على مآثر جيل الصحابة وكيف تحققت لهم السيادة والريادة
السيرة النبوية معين لا ينضب وتراث لا يبلى لكل من رجع إِليها وتأدب بأدبها واقتبس من مشكاتها وقد فقه الصحابة رضي الله عنهم هذه المعاني في السيرة، وأدركوا أهميتها، فكانت مع القرآن الكريم هي منهج التربية للأجيال ومادة البناء الفكري والسلوكي،
ومحط الاهتمام والعناية. يقول علي بن الحسين زين العابدين (1): كنا نعلّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلّم السورة من القرآن (2) وكان إِسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص يُحَفِّظ أبناءه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيَعُدّها عليهم، ويقول:"هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها"(3).
وبهذا المنهج العالي كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ثم التابعون، أرقى أجيال الأمة وأقواها علمًا وعملًا وأثرًا في واقع الحياة وبناء الحضارة، فكانوا قادة وسادة، معتزين بمنهجهم، مؤثرين في غيرهم غير متأثرين، فقد حققت السيرة النبوية للجيل الأُول السيادة والريادة في كل الميادين الخيرة النافعة، ونشروا العدل والأُمن والإِسلام في كل بلد وصلوا إِليه، وانتشر فيه نور الحق.
وقد تحققت السيادة والريادة للجيل الأول عندما صدق في التأسي والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فتمكن من التطبيق الواقعي لنصوص القرآن والسنة، ولا بد لاستئناف الحياة الإِسلامية الصحيحة من تمثل السيرة النبوية في الواقع المعاش على مختلف المستويات، وفي كل المواقع والنواحي، وأن تكون دراستنا للسيرة النبوية بهذه المعاني العميقة، والنظرة الشاملة، والفقه الواعي، حتى نصنع جيل النهضة، وثلة النصر، وقاعدة التمكين للأمة.
4 -
تحصيل القدوة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم
جعل الله في سيرته وتصرفاته صلى الله عليه وسلم تنوعًا وشمولًا لكل جانب من جوانب الحياة
(1) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان مع والده الحسين رضي الله عنه يوم قتل بكربلاء، شابًا، مريضًا، ولذلك لم يقتل، له ترجمة حافلة في الطبقات الكبرى (5/ 211) وقال: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا، مات بالمدينة سنة 94 هـ ودفن بالبقيع.
(2)
ابن كثير، البداية والنهاية 3/ 242.
(3)
الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 195.
ومواقفها المتغيرة، لتكون مساحة الاقتداء والتأسي واسعة وشاملة لكافة القدرات البشرية بفروقها الفردية وسجاياها الفطرية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوة لكل المسلمين على مختلف عصورهم، وتعدد مواقعهم الجغرافية، وأحوالهم العلمية، ومراكزهم الإِدارية. قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (1).
قال الحافظ ابن كثير (2): هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من الله عز وجل، قال تعالى- للدَّين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا- في أمرهم يوم الأحزاب- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟
ثم قال عز وجل مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة-:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (3) أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، والمراد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: قوله تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (4).
(1) سورة الأحزاب، آية 21 - 22.
(2)
تفسير القرآن العظيم 6/ 391.
(3)
سورة الأحزاب آية 22.
(4)
سورة البقرة آية (214).
فالآية الآمرة بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم نزلت بمناسبة غزوة الأحزاب حين رمى أهل الشرك والكفر المسلمين عن قوس واحدة وتحزبوا عليهم، حيث زلزلت النفوس وبلغت القلوب الحناجر، وكاد أن يهتز الاقتداء لتأخر النصر، فجاءت لتؤكد أن الاقتداء يكون في مواطن الشدة والصبر، والبأس والضيق، ومؤشرات فوت الحياة الدنيا كما يكون في اليسر، وتبين أن الارتباط بالآخرة هو سبيل الصمود والحماية من السقوط، فالاقتداء يكون في اليسر والعسر وعلى كل الأحوال.
وإِن قيمة الاقتداء وفائدته وعطاءه، وعظيم ثوابه إِنما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يُمتحن صاحبها في صدق إِيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج في الدنيا ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إِلى إِبصار العواقب والمآلات، ذلك أن نقطة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء اليوم الآخر، واستمرار ذكر الله الذي يُجَلِّي هذه الحقيقة ويؤكد حضورها واستمرارها (1).
5 -
التكامل والشمول في فهم النصوص الشرعية واحترام نصوصها الصحيحة الثابتة
لقد يسر الله لهذه السيرة من يقوم على حفظها والعناية بأدق تفاصيلها حتى كأنك تنظر إِلى صاحبها صلى الله عليه وسلم وأحواله رأي العين، والتاريخ شاهد على أنه لا توجد سيرة في الدنيا مثل سيرته صلى الله عليه وسلم من الوضوح والكمال والصدق.
يقول الأستاذ سليمان الندوي: إِن حياة العظيم الذي يجدر بالناس أن يتخذوا منها قدوة لهم في الحياة ينبغي أن تتوافر فيها أربع خصال:
(1) عمر عبيد حسنة، مقدمة السيرة النبوية قراءه لجوانب الحذر والحماية ص 31.
(1)
أن تكون تاريخية، أي أن التاريخ الصحيح الممحص يصدقها ويشهد لها.
(2)
أن تكون جامعة، أي محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها.
(3)
أن تكون كاملة، أي متسلسلة لا ينقص فيها شيء من حلقات الحياة لذلك العظيم.
(4)
أن تكون عملية، أي أن الدعوة إِلى الفضائل والمبادئ والواجبات بعمل الداعي وأخلاقه لا بمجرد قوله، وأن يكون كل ما دعا إِليه بلسانه قد حققه بسيرته، وعمل به في حياته الشخصية والعائلية والاجتماعية، وبهذا تكون أعماله مُثلًا عُليا للناس يتأسون بها (1).
6 -
اتخاذ السيرة النبوية منهجًا معياريًا
إِن السيرة النبوية ليست مجرد حوادث تاريخية تؤخذ منها العبر والعظات فحسب، وإِنما هي فوق هذا كله، تجسيد عملي للوحي الذي يُقتدى به، وهي منهج واضح يهتدى بهداه، وصراط مستقيم يُسلك ويُتبع، لأنها منهج معياري غير خاضع لحدود الزمان والمكان وإِنما تقاس إِليه الأعمال والمواقف، وتُعَاير عليه الاجتهادات والآراء وتوزن بميزانه الحق.
يقول الدكتور فاروق حمادة: السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الواقع، فتعاليم الإِسلام لم تنزل لتحصر بين جدران المساجد وداخل أروقة بيوت العلم الشرعي وكلياته، بل تنزلت من الحكيم العليم لتكون سلوكًا إِنسانيًا ومنهجًا حياتيًا يعيشها الفرد المسلم في نفسه وشخصه، ويدركها في واقعه ومجتمعه، وَيَشِبُ عليها فتصبح جزءًا لا يتجزأ من كيانه، ويتصرف على هديها في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل موقف وشأن.
(1) سليمان الندوي، الرسالة المحمدية ص 68
فالمبدأ النظري يُرى ماثلًا قائمًا في شخص صاحبه، وهذا ما نجده في السيرة النبوية، حيث كان رسول صلى الله عليه وسلم يُجسِّد تعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الأحياء والبشر، وذلك في جميع أحواله وظروفه، نومًا ويقظة، سِلْمًا وحربًا، جِدًا ومداعبة، غَضَبًا ورضا، فردًا وجماعة (1).
وتظهر شخصية النبي صلى الله عليه وسلم من خلال السيرة النبوية في الصورة المشرقة للإِنسان الذي يمارس إِنسانيته بكل أبعادها، ويتفاعل مع الواقع بكل معطياته. وندرك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم الإِنسان -بكل نوازع الإِنسان- قد تربع قمة التسامي الإِنساني وهو المثل الأعلى الحق للبشرية جميعًا. كما يدرك الدارس للسيرة النبوية التلازم والتطابق الذي لا ينفصم بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك في شخصيته صلى الله عليه وسلم، فلا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، بل هو أول ملتزم ومطبق للأمر ولو كان وحده، ولقد اهتدى بهذه السيرة الكريمة العطرة واستدل بها على صدق نبوته ورسالته عدد غير قليل في حياته وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم من العظماء والكبراء، وآحاد الناس وعامتهم، ومنهم الجُلندَى ملك عُمان (2)، فقد قال لعمرو بن العاص عندما جاءه برسالة من النبي صلى الله عليه وسلم: والله لقد دلني على صدق هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إِلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إِلا كان أول تارك له، وأنه يَغلِبُ فلا يَبطر، ويُغلَب فلا يهجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي (3).
فهذه القمة الرفيعة من الإِنسانية في شخص محمد صلى الله عليه وسلم، والتي كانت تدرج على الأرض، وتسير في فجاجها، عندما تقدم للإِنسان على اختلاف زمانه ومكانه، ودينه
(1) مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص 20
(2)
الجلندي- بضم أوله وفتح اللام وسكون النون وفتح الدال- ابن عبد جمل الأزدي ملك عمان زمن البعثة النبوية، وخلفه من بعده ابنه جيفر (انظر ترجمته في الإِصابة لابن حجر 1/ 538)
(3)
المصدر نفسه 1/ 538 ونسبه عن وثيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق.