الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صحيفة المقاطعة:
في أول يوم من شهر الله المحرم سنة سبع من البعثة (1)، رأت قريشٌ؛ أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد عزّوا بإِسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب، فساءها ذلك، وأجمعوا على أن يتعاقدوا علي بني هاشم وبني المطلب؛ ابني عبد مناف، ألَّا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم؛ حتى يُسْلِموا إِليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلقوها في سقف الكعبة.
وانحاز إِلى الشعب بنو هاشم، وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم، إِلا أبا لهب، فإِنه ظاهر قريشًا، وبقوا علي تلك الحال لا يدخل عليهم أحد نحوًا من ثلاث سنين؛ حتى جهدوا، ولم يصل إِليهم شيءٌ إِلَّا سرًّا، مستخفيًا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد معه غلامٌ يحمل قمحًا، يريد به عمَّته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إِلى بني هاشم؟! والله، لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك في مكة. فجاءه أبو البختري بن هشام، فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم. فقال له أبو البختري: طعام كان لعمّته عنده، بعثت إِليه، أتمنعه أن يأتيها بطعامها؟! خلِّ سبيل الرجل. قال: فأبى أبو جهل، حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لحى بعير، فضربه به فشجّه، ووطئه وطئًا شديدًا (2).
وكانت قريشٌ في ذلك بين راضٍ وكاره، فسعى في نقض تلك الصحيفة من كان كارهًا لها، وكان القائم في أمر ذلك هشام بن عمرو بن ربيعة، مشى في ذلك إِلى مطعم بن عدي وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك.
(1) انظر: فتح الباري (7/ 192).
(2)
انظر: سيرة ابن هشام (1/ 353، 354).
ثم أطلع اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأنّه أرسل عليها اللأرَضَة فأكلتْ جميع مما فيها من جَوْر وقطيعة وظلم، إِلَّا ذكرُ الله عز وجل، فأخبر بذلك عمَّه، فخرج إِلى قريش وأخبرهم أنّ ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإِن كان كاذبًا خلَّينا بينكم وبيته، وإِن كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتنا وظُلْمنا، قالوا: قد أنصفتَ
فأنزلوا الصحيفة، فلمّا رأوا الأمرَ كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ازدادوا كُفرًا إِلى كفرهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من الشِّعب (1).
لقد بقي المسلمون ثلاث سنوات داخل الشعب، ومع ذلك الحصار الشديد أكلوا فيه أوراق الشجر، ترتفع فيه أصوات أبنائهم بالبكاء جوعًا وعطشًا، بل إِنّ سعد بن أبي وقاص بال ذات ليلة فسمع قعقعة تحته، فإِذا هي قطعة من جلد بعير، فأخذها وغسلها ثم حرقها تم سحقها؛ ثم استفّها، وشرب عليها الماء، فتقوّى بها ثلاثة أيّام (2)، وقد ضربوا بذلك أروع الأمثلة في الثبات على الحق، والصبر على الأذى، والاعتصام بالله تعالى في الشدة،
وإِن وقوف طائفة من المشركين مع المسلمين لدليل على أن المسلمين كانوا في نظر هذه الطائفة أهلًا للمعروف ومحلًا للكرامة، لجميل أخلاقهم وصدق تعاملهم، كما أن أولئك المشركين لديهم من سلامة الفطرة واحترام أواصر القربى ما دفعهم لذلك الموقف.
ثم خرج بنو هاشم وبنو المطلب من شعبهم؛ وكان ذلك في السنة العاشرة من البعثة (3)، وحصل الصلح برغمٍ من أبي جهل عمرو بن هشام، واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أنّ قريشًا أسلموا، فقدم مكةَ منهم جماعةٌ فوجدوا البلاء والشدة كما كانا،
(1) سيرة ابن هشام (1/ 350)، الفصول لابن كثير (ص 102، 103).
(2)
ابن إسحاق، المغازي والسير 194، وانظر حلية الأولياء3/ 93.
(3)
انظر: طبقات ابن سعد 1/ 201، وفتح الباري 7/ 192.
فاستمروا بمكة إِلى أن هاجروا إِلى المدينة، إِلا السكران بن عمرو زوج سودة بنت زمعة، فإِنّه مات بعد مقدمه من الحبشة بمكة قبل الهجرة إِلى المدينة، وإِلا سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، فإِنهما احتبسا مستضعفين، وإِلا عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى، فإِنه حُبِس، فلما كان يوم بدر هرب من المشركين إِلى المسلمين (1).
ومن جملة الأخبار التي حملت بعض المهاجرين في أرض الحبشة إِلى العودة إِلى مكة ظنًّا منهم بأن أهلها قد أسلموا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا على قريش يومًا سورة: {وَالنَّجْمِ} فأخذتهم روعة التنزيل، وقوة البيان، حتى إِذا بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (2)؛ سجد، فسجد المشركون مأخوذين بروعة القرآن وقوة تأثيره، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، فسجد فيها، وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفًّا من حصًى أو تراب، فرفعه إِلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. فرأيتُه بعدُ قُتِل كافرًا (3).
فظنّ الناقل لمّا رأى المشركين قد سجدوا متابعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم أسلموا واصطلحوا معه، ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك، وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها، فظنوا صحة ذلك، فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة، وكلاهما محسن مصيبٌ فيما فعل.
وكان العائدون قرابة ثلاثة وثلاثين رجلًا، منهم: أبو سلمة وزوجه رضي الله عنهما (4).
(1) الفصول لابن كثير ص 104.
(2)
سورة النجم، آية 62.
(3)
أخرجه البخاري في الجمعة، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها ح (1067)، ومسلم في المساجد ح (576).
(4)
انظر: البداية والنهاية (4/ 224، 225).