الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما دلالة العقل فلأن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يكون بتأويل نتبع فيه قواعد اللغة وأسلوب العرب، وهي لا تفيد العلم اليقيني القاطع، بل قد تحتمل أكثر من وجه، وصفات الله تعالى من العقائد لا بد فيها من اليقين، لذلك نتوقف، ونفوض إلى الله تعالى.
ومن هنا قالوا: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى المراد معنى يليق بجلاله تعالى لا يشبه صفاتنا، الله أعلم بحقيقته، وكذلك يقولون في غير ذلك.
المذهب الثاني: مذهب الخلف:
وهو تأويل هذه الآيات بما يناسب استعمالات اللغة مما يليق بكمال الله تعالى وتقدسه.
فيفسرون: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى بأن المراد: استولى مثلا ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بمعنى القدرة، وهكذا
…
ودليلهم أنه لما استحال أن يكون المعنى الظاهري مرادا، كان دليلا على أن المراد هو معنى مجازي، فنفسره وفق ما يفسر به كلام العرب، لأن القرآن عربي كما صرح القرآن بذلك في مواضع كثيرة فيجب الاعتماد على منهج فهم كلام العرب.
وبالنظر في حقيقة الأمر نجد بين المذهبين اتفاقا في جوهر المسألة وأساسها، وهو:
1 -
الاعتماد فيها على الآيات المحكمات، التي سماها الله تعالى أُمُّ الْكِتابِ أي الأصل والمرجع وهي قاطعة في تنزيه الله عن مشابهة الخلق.
2 -
صرف هذه النصوص عن ظواهر ألفاظها اللغوية المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر الموهمة للتشبيه غير مرادة قطعا، فالفريقان إذن متفقان في جوهر القضية، غاية الأمر أن السلف اكتفوا بالإجمال، وهو اعتقاد التنزيه عن هذه الظواهر، لكن دون تعيين التأويل المراد، أما الخلف فقد خطوا خطوة
ثانية وهي تفسير تلك النصوص حسبما يتبادر منها وفق استعمالات كلام العرب.
وقد تاه أقوام في فهم مذهب السلف، وأتوا في تعريفهم به بعبارة موهمة فقالوا:
إن المراد من هذه الآيات المتشابهة في الصفات هو معناها الحقيقي على وجه يليق به تعالى.
وهذا تعبير منتقد من حيث اللفظ والمعنى:
أما انتقاده من حيث اللفظ فلأن السلف لم يأتوا بكلمة «حقيقة» ، وهذا باب دقيق يجب التقيد فيه بالعبارات المنقولة تماما، فكيف نقحم على كلامهم ما لم يقولوا؟! وأما انتقاده من حيث المعنى: فلأن قولهم «المراد معناها حقيقة» يوهم تشبيه الله تعالى بخلقه، وقولهم «على وجه يليق به» ينافي ذلك، فصارت العبارة متناقضة موهمة، حتى وجدنا كثيرا ممن نظر في كلام أصحاب هذا الرأي أو اعتقده يتجه فهمه إلى التشبيه من حيث لا يشعر.
وإنّ من نظر في سياق تلك الآيات الواردة من متشابه الصفات وتمعن في الغرض الذي سيقت له علم بعدها عن إرادة المعنى الظاهري، واستحالة تفسيرها به.
تأمل قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وقوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، تعلم أن هذه الآيات وردت في مقام بيان قدرته تعالى، ووردت فيها اليد مفردة ومثناة وجمعا، مما يدل على استحالة إرادة المعنى الظاهري.
وحسبنا في هذا كلام الإمام الحافظ السلفي ابن كثير، قال في تفسير
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ (1): «أي الأمور كلها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام
…
».
وقال في تفسير آية: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (2): «أي هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم» .
وقال في آية بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ (3): «أي بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه» .
وهكذا الشأن في قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى: ما ورد هذا التعبير إلا في مناسبة بيان عظمة سلطانه تعالى، وأنه هو وحده المتصرف في الأكوان بقهره وجبروته كالأمثلة التالية:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 24].
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى [طه: 5 - 6].
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة: 4].
قال الإمام ابن كثير في آية الأعراف (4) ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ:
«وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
(1) سورة آل عمران، الآية 73 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 49.
(2)
سورة الفتح، الآية 10 وتفسير ابن كثير ج 7 ص 312.
(3)
سورة المائدة، الآية 64 وتفسير ابن كثير ج 3 ص 138.
(4)
تفسير ابن كثير ج 3 ص 422 وكذا قال في تفسير آية (2) من الرعد ج 4 ص 352.
«يمرّر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا» .
وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى الأذهان المشبّهين منفيّ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وهكذا سائر الآيات يفسرها السلف رضي الله عنهم على هذه الطريقة (1).
وقد اتفقوا على وجوب تأويل الآيات الواردة في متشابه الصفات في بعض الأحوال مثل:
1 -
أن يكون للمتشابه تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا، فيجب القول به إجماعا، وذلك كقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، فهذه الآية ليس لها إلا تأويل واحد، هو الكينونة مع الخلق بالإحاطة بهم علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: «أي رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم حيث أنتم، وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو القفار الجميع في علمه على السواء
…
» (2).
2 -
أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين (3).
ونقول أيضا: إنه إذا خيف من ترك التأويل سوء فهم الناس ووقوعهم في الزيغ وجب التأويل والأخذ بمذهب الخلف، وما أكثر ما يحتاج إليه في هذا الزمن الذي قل فيه العلم وكثر الجهل، وشاعت في أوساط المتعلمين أساليب التفكير العامّيّة، وطرق التصور السطحية.
(1) انظرها في مواضعها من تفسير ابن كثير.
(2)
ج 8 ص 34.
(3)
انظر هاتين المسألتين في مناهل العرفان ج 2 ص 182.