الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرد على منكري الوحي
وقد أثار أعداء الأنبياء والكافرون ببعثة الرسل الشبهات حول ثبوت الوحي من الله تعالى لهؤلاء الخيرة المصطفين من عباده، وتعللوا في إنكارهم بتعللات مختلفة، بدأها أوائلهم في العصور السالفة الغابرة وجددها أواخرهم في العصور الخالفة الحاضرة.
ويتخلص أهم ما قالوه في دعويين سبق إليهما الكفرة المشركون من قبل، حين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم مجنون، أو أنه مصاب بمرض عصبي، وزعموا أنه يأتيه رئيّ من الجن يلقي إليه هذا القرآن، ولما كان منكروا النبوة في هذا العصر ينكرون الجن فقد صاغوا شبهتهم باسم «الوحي النفسي» .
ولا شك أن دعوى المرض العصبي كذب واضح يدل على الجهل الفاضح بشخص محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم، بل يدين قائله بأنه بلغ به العناد والتجني على الحقيقة مبلغا فقد به توازنه العقلي، فالتاريخ يشهد بأدلته القاطعة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أعظم الناس خلقا، وأوسعهم أفقا، وأشجعهم قلبا، وأسخاهم يدا، لا تصمد أمامه معضلة، ولا يتعقد أمامه موقف إلا واجهه بأحسن الحلول وأعلاها وأفضلها، وأنه كان أفصح الناس لسانا وأعذبهم بيانا، مما يشهد بأنه صلى الله عليه وسلم أكمل العالم عقلا وتفكيرا وأنه أمة وحده في علوّ أخلاقه وثباته وحلمه، وكمال عقله ورباطة
والتخمين وعمل الذهن غير الشعوري.
2 -
إن الوحي يوقع في القلب علما يقينيا اضطراريا لا يقبل التغيير ولا التبديل، أما الكشف أو الإلهام فهو أمر يقع في النفس فتعرفه معرفة دون اليقين، وقد تتحمس له كاليقين، لكن كثيرا ما يظهر الخطأ فيه.
3 -
إنه يجب الأخذ بالوحي قطعا، لكن لا يجوز الأخذ بالإلهام أو الكشف وإن تكرر صدقه إلا بعد عرضه على دلائل الشرع، لأن الوحي معصوم، أما الإلهام وكذا الكشف ونحو ذلك فليس شيء منها بمعصوم، فلا بد من مراجعة ذلك.
جأشه، ولهذا ردّ القرآن على هؤلاء بأنهم هم الذين فقدوا رشدهم: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ.
وأما دعوى (الوحي النفسي) فقد وجدت لدى المنكرين ومثيري الشبهات مرتعا خصيبا ولا سيما اليهود من المستشرقين (1) لما فيها من التلبيس الخبيث والمكر في الدس والافتراء الذي يضفي على هذه الفرية مسحة كاذبة من دعوى البحث العلمي العصري.
وإن الثابت المقرر من مظاهر الوحي وآثاره ليثبت بطلان هذه الدعوى وكذبها، من وجوه كثيرة جدا، نذكر منها:
1 -
إعجاز القرآن، فإن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مهما صفت فإنها ستظل كسائر المتعبدين والعباقرة يأتون بالشيء العظيم لكن لا يعجز أمثالهم أن يلحقوا بهم أو يسبقوهم ويتفوقوا عليهم، وهذا القرآن الذي أوحي به إلى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم معجز تحدى الجن والإنس، والأولين والآخرين، فأنّى يمكن أن يكون هذا الكتاب إلا من عند الله.
2 -
إن حادث الوحي يثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه آت من ذات مستقلة خارجة عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك واضح في حديث بدء الوحي في غار حراء، حيث إن الملك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجأة كما في الحديث الصحيح المتفق عليه: «فجاءه الملك فقال اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ
…
فهذا الحادث يوضح أن هناك ذاتا خارجة عن ذات محمد وشخصه تملي عليه وتأخذه وتغطّه أي تضمّه وتعصره عصرا شديدا، وتقول له: اقرأ، فهي ذات متكلمة، وهي ذات آمرة ومؤثرة في بدنه بالضغط الشديد عليه، حتى يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد خشيت على نفسي» . وذلك يثبت بطلان زعم الوحي النفسي ويفنّده تفنيدا.
(1) مثل جولد زيهر.
3 -
إن الوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم غير مرتبط بإرادته أو رغبته، ولا بتفكيره أو بحثه لدى وقوع المهمات، فربما كان في بيته يأخذ شيئا من الراحة فينهض والبشر على محياه وقد نزلت سورة، كما ثبت الخبر في نزول سورة الكوثر كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، ومن القرآن ما تنزل في هزيع أخير من الليل، كآية التوبة على الثلاثة الذين خلّفوا، وآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خيمته والحرس حوله، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الخيمة فقال:«يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى» (1) ولهذا كثرت أقسام القرآن بحسب أوقات نزوله، فمنه السفري والحضري، ومنه الليلي والنهاري، ومنه ما نزل مشيّعا، ومنه
…
ومنه، مما فصله علماؤنا في مصادر علوم القرآن.
4 -
«إن عبقرية الإنسان تحمل بالضرورة طابع الأرض حيث يخضع كل شيء لقانون الزمان والمكان، ويتقيد بحدودهما وآفاقهما، بينما يتخطى القرآن دائما نطاق هذه الحدود، ليدلّ من خلال رحابة موضوعاته إلى أن دور محمد- صلى الله عليه وسلم فيه إنما هو الحفظ والوعي، أو الأخذ والتلقي، ثم الإبلاغ للعالم.
بل إن جميع معارف الإنسان في عصر نزول القرآن- لا معارف النبي ومعارف بيئته- ومعارف عصور لا حقة لا تمثل شيئا من شمول المعارف القرآنية وتنوعها وعمقها، فضلا عما في معارف القرآن من تصحيح تلك المعارف وتقويم عوجها من جذورها، حتى ما كان منها متعلقا بما هو سابق لعصر نزول القرآن، فليت شعري إن لم يكن هذا وحيا ممن يعلم السر في السموات والأرض فأي شيء يكون» (2).
(1) البرهان ج 1 ص 198.
(2)
باختصار وتصرف عن كتاب «الظاهرة القرآنية» تأليف مالك بن نبي رحمه الله، وليرجع إلى هذا الكتاب ففيه فوائد هامة. وانظر ما يأتي في الإعجاز العلمي وفي بحث «الكون في القرآن» .