الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النون والذال معا، لكنها جاءت في آية: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ [القمر: 36] في غاية الفصاحة، وجمال الموقع في حسّ السمع، وذلك بما سبقها من القلقلة في دال «لقد» وطاء «بطشتنا» ، والفتحات المتوالية في «فتماروا» ، التي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة خفيفا عليه. وتأتي اللفظة متمكنة في موضعها مستقرّة في قرارها إلى أقصى غاية، مع أدائها المعنى المراد غاية الأداء».
4 - إفادة التصوير:
وذلك أن الكلمة القرآنية تقدم للقارئ صورة فنية، وتستقل برسم مشهد، أو نقل حركة، أو تشخيص فكرة، بل إنها تقدّم لنا ما يسميه العصريون «التجسيم» ، تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات، لتزيد المعنى تمكنا من النفس وتأثيرا فيها (1).
ومن ذلك مثلا قوله تعالى في اليهود: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] فلننظر «تلك الصورة الساخرة الهازلة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت به هذه الصورة المجسّمة لتؤدّيه، وهو حبّ اليهود الشديد لعبادة العجل» الذي صنع لهم من الذهب.
واقرأ كذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الحج:
11]. تأمل كلمة «حرف» ومعناه الطرف من الشيء، «إنّ الخيال ليكاد يجسّم هذا الحرف الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس، وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب المحسوس
في وقفتهم، وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب».
5 - الإعجاز العلمي:
فقد جاءت عبارات القرآن الكريم عن القضايا الكونية بطريقة عجيبة
(1) انظر كتاب من بلاغة القرآن للدكتور أحمد بدوي: 65، وراجع أمثلته بتوسع. وانظر كتابنا علوم القرآن الكريم: 228 - 230 ففيه أمثلة مفيدة.
تجعلها مفهومة عند العربي القديم، والعامي، لكنها تفيض بمعان يكشفها التأمل تتناسب مع تقدم العلم، وظهور مزيد من الحقائق التي كانت مجهولة، مما حفلت به دراسات إعجاز القرآن العلمي.
وللمفردة القرآنية دور كبير في هذا الباب العظيم، يطول استقصاؤه جدا، نكتفي ببعض الأمثلة منه:
فمن ذلك: قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً.
فقوله: لَواقِحَ فهمه المفسّر القديم مجازا عن تلقيح الرياح الأزهار أو جمع السّحب اجتماع الذكر بالأنثى. لكنّ العلم الحديث قرر أنّ السحاب يحمل شحنة كهربائية، بعضه سالب الشحنة وبعضه موجب، وأن الرياح تلقح السحب السالبة بالموجبة فينزل المطر. وهذا التفسير في غاية الدقة، وهو أليق بتناسب الجملة مع قوله بعدها: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً لا سيما مع هذا العطف بحرف الفاء، التي تفيد الترابط.
وهكذا آيات القرآن المتعلقة بالكون، كلها شاهد أنه تنزيل من يعلم «السّرّ في السموات والأرض» ، تبارك وتعالى.
وغير ذلك كثير من دور غريب القرآن، وكلماته، يزيد المتأملين فيه إيمانا، وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً.
ويرحم الله ابن عطية (1) إذ قال: «وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد» .
(1) المحرر الوجيز: 60 - 61.