الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا يمكن أن يدانيه أحد أو يساويه لأنه علا فأصبح لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
وهكذا ارتقى المعنى بهذا التصوير ليبلغ غاية لا تساميها غاية، حيث أصبح النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى المكارم والفضائل، ثم هي فوق ذلك لا تصدر عنه بتكلف أو مشقة بل بغاية اليسر، لأنها منقادة له، وتلك نهاية في الكمال لا تدرك، ولا يبلغها إلا من قال الله تعالى له: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
ومن ثم قال المادح المتذوق عظم هذه الآية وجلالها:
إذا الله أثنى بالذي هو أهله
…
عليه فما مقدار ما يمدح الورى
ومن التصوير بالحرف: هذه الجملة من مطلع سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.
فقوله: ذلِكَ الْكِتابُ أفاد غاية كمال القرآن، حتى كأنه لا كتاب سواه، وذلك لأن هذه العبارة جملة اسمية معرّفة الطرفين، وتعريف طرفي الجملة الاسمية يفيد الحصر، فأفادت الجملة حصر صفة الكتاب في القرآن، والمراد بيان غاية كماله حتى كأنه لا كتاب سواه، كما تقول: لا شجاع إلا علي.
لكن حرف اللام في ذلِكَ وهو لام البعد أضفى على المعنى خيالا مصورا فإنه أفاد أن هذا الكتاب لفرط كماله بعيد عن أن تناله أطماع الطامعين بانتقاص شيء منه أو الإتيان بمثله، فصوّر تعاليه المعنوي بالبعد الحسي، فاستعمل اسم الإشارة، وهي تستعمل حقيقة في الحسيات، وأدخل لام البعد، يصوره لنا في بعده المعنوي عن أن يتوصل إليه بالبعد المكاني الذي لا تبلغه وسائل التوصيل.
ومن التصوير بالكلمة:
قوله تعالى (1): الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
(1) في مطلع سورة الملك.
فقوله تعالى هنا: لِيَبْلُوَكُمْ المراد منه يختبركم، وأصل المقصود ليظهر أيكم أحسن عملا، ولما أن الاختبار يكشف هذه الحقائق ويظهرها فقد عبّر به عن ذلك، لكن الآية القرآنية نقلتنا من هذا المعنى المجرد إلى صورة فيها المعاناة المستمرة باستعمال كلمة لِيَبْلُوَكُمْ وأصل الكلمة من (البلى)، فصورت هذه الكلمة الإنسان بتعرضه للامتحانات واحتكاكها به في كل شئونه وكأنه قد بلي منها، وجاءت الصيغة لِيَبْلُوَكُمْ بالفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار لكي تحضر لك صورة هذا الإنسان وأنواع الاختبارات تتوالى عليه في عباداته ومعاملاته، وماله وبدنه، ونفسه ومجتمعه، ودنياه وآخرته هل يستقيم فيها جميعها على أمر الله أو لا يستقيم، فتتابع عليه الابتلاء حتى بلي، فأثرت الكلمة في إيجاد الصورة كما لعبت الصيغة دورا أعطى الصورة حركة وحسا، لو عبّرت بكلمة أخرى أو صيغة أخرى غير المضارع من المادة نفسها لفات من غرض الكلام ونقص مغزاه.
ولصيغة الكلمة الصرفية دورها الهام جدا في أسلوب القرآن الكريم، ينطوي على لون من قمة الإعجاز البياني، بل وجدناه ينطوي على إعجاز علمي عظيم.
ومن أمثلة ذلك هذه الآية (1): أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.
تصوّر كل من الكلمتين صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ طيران الطيور في الهواء، في حال بسط أجنحتها، وفي حال ضربها بأجنحتها على جنوبها صافَّاتٍ:
أي باسطات أجنحتها وَيَقْبِضْنَ أي يضربن بأجنحتهن على جنوبهن، والصورة واضحة من التعبير، وجاءت كلمة فوقهم لتستكمل صورة الطيران فهو محلق في الهواء فَوْقَهُمْ.
لكن التأمل الدقيق يوقفنا على سر في التعبير غاية في العجب، ذلك أنه
(1) سورة الملك أيضا، الآية 19.