الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حفظ الله تعالى القرآن العظيم من التحريف والتبديل فيه والزيادة والنقصان أبد الآبدين
لقد أثبت البحث العلمي في حفظ القرآن على عهد الصحابة الكرام أنه قد ثبت قطعا ويقينا حفظ الصحابة للقرآن الكريم بعدد يفوق التواتر حفظا في الصدور، كما أنه حفظ تسجيلا في السطور في الصحف حتى بلغ عدد النسخ جملة كثيرة عند كتّاب الوحي الذين زاد عددهم على الأربعين.
وهذا يدل قطعا على أن الله تعالى قد حفظ القرآن الكريم من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان. ويدل على ذلك أيضا أدلة أخرى كثيرة قطعية يقينية، نذكر نبذة منها فيما يلي:
أولا: قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (1). فقد دل على أنه سبحانه هو الذي أنزل هذا القرآن وهو تكفل أن يحفظه من التلاعب والزيادة والنقصان، فكما يجب الإيمان قطعا بأن هذا القرآن أنزله الله تعالى، يجب الإيمان قطعا بأن الله هو حافظ لهذا القرآن قطعا. وذلك يوجب ألا يدخل عليه أي تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقصان.
فلو جرى على هذا القرآن تبديل أو تغيير أو زيادة أو نقص: لما صحّ الخبر في قوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ولما صدق الله تعالى وعده بالحفظ لهذا القرآن العظيم، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن الله تعالى لا يخلف
(1) سورة الحجر، الآية 9.
وعده، وإن خبره صادق محتم الوقوع. ومن أصدق من الله قيلا! ومن أوفى بعهده من الله!! فإنه سبحانه لا يكذب خبره ولا يتخلّف وعده ولا تنقض كفالته.
ثانيا: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1).
فإنه لو جرى على هذا القرآن الكريم تبديل أو زيادة أو نقص: لكان ذلك منافيا ومعارضا لقوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فإن الله تعالى أخبر أن الباطل لا يأتي هذا القرآن ولا يتسرب إليه لا في نصوصه ولا في معانيه، فهو لا يعارض ولا يناقض، ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، لأن الزيادة فيه باطلة ليست منه، والنقص منه هو إبطال لما هو منه حقا دالا على حق. فقوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ دليل صيانته وحفظه من التلاعب والزيادة والنقص. وهذا الخبر القرآني لا يتخلف ولا يتبدل. إذن فالباطل لا يمكن أن يتسرب إلى هذا القرآن قطعا، لا في نصوص كلماته بزيادة أو نقص، ولا في معانيه بتكذيب أو نقض.
ثالثا: لو جرى على هذا القرآن الكريم تحريف أو زيادة أو نقص: لكان ذلك منافيا ومخالفا لقوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ الآية. وذلك أن الله
تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر به أول هذه الأمة وأوسطها وآخرها على حد سواء، وجعل الله تعالى القرآن الكريم حجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع العباد، وبلاغا عنه لكافة العباد إلى يوم المعاد، فإنه صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة العامة للثقلين إلى يوم القيامة، ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى كتابه الذي أنزله الله عليه، يبقى محفوظا إلى يوم الدين، لتقوم الحجة على العباد، وليهتدوا به إلى سبيل
(1) سورة فصلت، الآية 41.
الرشاد، ويبلّغه آخر هذه الأمة كما بلغه صلى الله عليه وسلم لأولها.
فلو جاز أن يجري عليه تحريف أو زيادة أو نقص لما تحقق إنذاره صلى الله عليه وسلم بالقرآن لمن يأتي من بعده، كما أنذر الذين في عصره، في حين أن الآية تخبر بإنذاره صلى الله عليه وسلم لمن في عصره ومن بعده على حد سواء.
رابعا: لو جرى على هذا القرآن الكريم تحريف أو زيادة أو نقص:
لأدّى ذلك إلى ذهاب الثقة به، ولأدّى ذلك إلى عدم الإيمان الجازم بما جاء به، وكيف لا يوثق به ولا يقطع جزما بما جاء به، مع أن الله تعالى بيّن لعباده أن هذا الكتاب الذي هو بجميع آياته موثوق به ومقطوع بحقيقته لا يتطرق الباطل ولا الخلل إلى جانب من جوانبه. قال تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فإن فحوى هذه الآية ونصها يناديان العباد ويخبرانهم أن الثقة كل الثقة، واليقين كل اليقين، والحق كل الحق، في هذا الكتاب العزيز الذي لا يجد الباطل والوهم والكذب والافتراء والتلاعب وما شابه ذلك- لا يجد ذلك إلى الكتاب سبيلا أصلا.
فلو جرى عليه تحريف أو زيادة أو نقص لذهبت الثقة واليقين به.
أما ذهاب الثقة بالمزيد فالأمر بيّن. وأما ذهاب الثقة بالمزيد عليه فإن العاقل يقول: لعل في هذا الأصل زيادة أيضا، فما يدرينا أنها كلّها أصل؟! وأما ذهاب الثقة به حالة النقص: فذلك لأن بين الأصل المنقوص عنه والشيء الناقص منه ارتباطا في المعاني والأحكام والأخبار وغير ذلك، ولو جرى عليه النقص لأدى ذلك إلى عدم الثقة بالناقص والمنقوص منه. فلا يكون أحد من المسلمين على ثقة بدينه، لاحتمال نسخ بعض الصلوات أو تغيير أوقاتها أو الزيادة عليها، أو نسخ الزكاة أو مقاديرها، أو نسخ الصيام أو الزيادة فيه أو بتبديله بغيره، أو نسخ الحج، أو تحليل الخمر والميسر ونحوهما من المحرمات، أو تحريم بعض أنواع من الحلال، وبذلك لا يكون أحد من الناس على عبادة إلا وهو على شك منها، ولا يقدم على حلال ولا يحجم عن
حرام إلا وهو متشكّك، فأين الإيمان والجزم بشرع الله تعالى! نعوذ بالله تعالى! إن ذلك يخل بوجوب امتثال الإسلام، الذي كلف الله تعالى به جميع الأنام، في كل الأزمان، وذلك الإخلال ضد نصوص القرآن القطعية التي تطالب الناس بالإسلام في كل عصر وآن. قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً الآية. وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فلذلك كان أيضا حفظ كتابه النازل عليه صلى الله عليه وسلم ثابت بالأدلة القطعية المفحمة للعقول، كما تقدم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فقد بيّن سبحانه في هذه الآية أن وظيفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله أن ينذر العالمين إلى يوم الدين، دون أن يقتصر على أهل زمانه فحسب. ولا بد لهذا الخبر أن يتحقق وقوعه، لأنه من الله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا فكيف كان ذلك؟ هل تحقق أم لا؟.
نعم كان ذلك حقا، كما بيّن الله تعالى في قوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أي وأنذر القرآن كل من بلغه هذا القرآن إلى يوم الدين، لأن هذا القرآن باق كما هو، إلى يوم الدين بحفظ رب العالمين (1).
خامسا: إن من المعلوم قطعا أن القرآن الكريم كان في حياة الصحابة والسلف الصالح بمنزلة الروح من الجسد، به آمنوا بالإسلام، وبه جاهدوا، وبه جادلوا وقارعوا أهل الملل، ولأجله عاشوا، وبذلوا أرواحهم رخيصة من أجل القرآن ودعوته، واستحفظوه حوافظهم الفذة، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار. فمن المحال أن يحصل في كتاب الله تعالى خلل أو زيادة أو نقص من أي شخص كان مهما عظم شأنه سهوا أو عمدا إلا وينهض القوم بأجمعهم
(1) تلاوة القرآن المجيد ص 11 وما بعد، وهدي القرآن الكريم إلى الحجة والبرهان ص 216 وما بعد، كلاهما لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الله سراج الدين حفظه الله.
كبيرهم وصغيرهم، دانيهم وقاصيهم لتقويم العوج وتصحيح النص.
ويحاربون لأجله، ويجاهدون في سبيله، لا سيما وأن إعداد نسخة المصحف التي أريد أن تكون مرجعا للناس، التي أعدت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم نسخ
المصاحف عنها في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ذلك كله باطلاع المسلمين كلهم، ومراجعة كل من عنده علم بشيء من كتاب الله تعالى، الأمر الذي يوقن به كل عاقل بأن نص القرآن الموجود هو طبق الوحي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في اللوح المحفوظ، يتعبد به المسلمون ربهم، ويتشرف به القارءون، ويهتدي به العالم (1).
سادسا: على أنه لو كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يعلم أن في القرآن الكريم الذي نشره عثمان في الأمصار إسقاطا، أو تغييرا ما، لما أمكن أن يتجاوزه أبدا، ولما جاز له أن يشتغل وهو خليفة آلت إليه أمور المسلمين لمدة ست سنوات تقريبا يشتغل بمقاتلة من خالفوه في السياسة عن تصحيح القرآن ومقاتلة الذين رضوا بتحريفه وتبديله. فكيف وهو لم يفعل شيئا من
(1) وليست القضية كما زعم بعضهم: «أن المعارضة لا يمكن أن تترك هذه الفرصة تمر، دون أن تستغلها في صراعها مع العهد والخليفة، مع أننا لا نجد إشارة إلى ذلك في كلامهم» انتهى.
وهذا زعم عجيب جدا، ناشئ عن الخطأ العظيم في فهم مجتمع الصحابة الذين نزع الله الغلّ من صدورهم، وكانوا إخوانا متحابين، لا سيما في عصر الراشدين، أو هو قياس غريب على الأوضاع السياسية الحاضرة التي فيها أحزاب حكومة وأحزاب معارضة.
وإلا فإن المعارضة في عهد الشيخين أبي بكر وعمر وكذا في عهد عثمان لا وجود لها إلا في خيال هذا القائل الواهم.
ومما يدل على ما نقول أنه لولا أن الكلمة مجتمعة عند الصحابة كلهم على كتاب الله بأقصى تقديس وغيرة لما كان بوسع المعارضة المزعومة في كلام هذا القائل أن تفعل شيئا. فدلّ كلام هذا القائل نفسه على أن القضية هي قداسة القرآن، والحفاظ عليه، والإجماع على العمل به وبسنّة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة جميعهم، والأمة كلها في عهد الراشدين ومن بعدهم، وإلا فلا سلطان بل لا وجود لمن خالف ذلك، فلا يمكن أن يطرأ على القرآن تغيير قط.
ذلك، ولا فاه بكلمة حوله، بل كيف وقد كان هو يتلو القرآن وفق المصحف الذي نشره عثمان ويؤم الناس به في الصلوات.
سابعا: لقد ذكر الله تعالى بالمدح والتعظيم- التوراة، ثم ذكر الإنجيل، ثم ذكر هذا القرآن الكريم، وبيّن منزلته من بين الكتب الإلهية، ورفعة رتبته على جميع الكتب، وأنه المهيمن على الكتب السماوية التي نزلت قبله! قال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ الآية. ثم قال تعالى ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ الآية. ثم قال تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ.
فقد أخبر سبحانه عن رتبة هذا الكتاب العزيز بالنسبة لجميع الكتب قبله بأنه مصدق لما جاءت به من عند الله تعالى، وأنه المهيمن على جميع الكتب قبله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «المهيمن الأمين. والقرآن أمين على كل كتاب قبله» .
وقال أيضا: «المهيمن: الحاكم» .
وكلا قوليه هنا صحيح.
فإذا كان أمر القرآن وموقفه من الكتب السابقة أنه هو الأمين عليها، والحاكم على ما فيها فلا يمكن أن يجري عليه تحريف في كلمة، ولا زيادة أو نقص، لأن ذلك يعني أن الله تعالى قد نصب على كتبه السماوية السابقة أمينا غير مضمون وحكما غير مأمون. تعالى الله الحكيم العليم عن ذلك علوا كبيرا.
بل إن في جعل الله تعالى هذا القرآن الكريم أمينا وحكما على الكتب قبله شهادة منه سبحانه بضمانة وأمانة هذا القرآن وحفظه من التلاعب فيه والزيادة والنقص، ولذلك حقّ له أن يكون مهيمنا على الكتب السماوية قبله،
حاكما عليها وشاهدا وأمينا، يحقّ ما فيها من حق، ويبطل ما حرّف منها، أو زيد فيها.
وهكذا نجد الأدلة القطعية اليقينية تشهد بحقية نقل القرآن، ذلك النقل الذي لم يكن لكتاب غيره قط باجتماع التواتر له حفظا في الصدور وتدوينا في السطور. وضمان من الله تعالى بل ضمانات، وتكفل بل كفالات، وأي ضمان أعظم من ضمان الله، وأي كفالة أحفظ من كفالة الله تعالى، كيف وقد أكّد عز وجل وعده القاطع وكفالته الضامنة بمؤكدات على غاية القوة، فقد أكّد ب «إنّ» ، ثم أكد بالضمير «نحن» ، ثم باللام في لَحافِظُونَ.
ثم زاد هذه المؤكدات قوة بالتعبير بصيغة العظمة التي في الجمع إِنَّا نَحْنُ، وبالجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام، فأفاد ذلك تأكيدا بالغا غاية الغايات، ونهاية النهايات.
وبهذا آمنا بحفظ القرآن الكريم من التبديل والتغيير والزيادة أو النقص، إيماننا بنزوله من عند الله، وإيماننا بمن أنزله وهو الله سبحانه وتعالى، لنقبل عليه تلاوة وتدبرا، وعلما وعملا، ودعوة للخلق إليه، بكل يقين واطمئنان، كما تشير لذلك عبارة الآية الكريمة، لمن تأملها:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.