الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام الباقلاني: «فلو كان هذا القرآن من ذلك القبيل- الشعر- أو من الجنس الذي ألفوه لم تزل أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم، فكيف وقد أمهلهم، وفسح لهم الوقت، وكان يدعوهم إليه سنين كثيرة، وقال عزّ من قائل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ.
وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بان أنه خارج عن عاداتهم وأنهم لا يقدرون عليه .. » (1).
بل إن العرب قد تحملوا في مواجهة التحدي بالقرآن وركوبهم متن العناد والتصميم على الشرك وعبادة الأوثان الأهوال والأخطار، فلو كان ذلك بوسعهم، وتحت مقدورهم لما عدلوا عن السهل المتناول من القول يخملون به حجته، ويصرفون الناس عن دعوته، إلى ركوب متن كل صعب وذلول، وتكلف الوعر المضني من الفعل بخوض غمار الحروب.
شهادة بلغاء العرب بإعجاز القرآن بأقوالهم:
صدرت عن سادة العرب الفصحاء البلغاء اعترافات صريحة بإعجاز القرآن، أملتها عليهم سجيتهم العربية، وطبيعتهم الفنية التي لا يمكن معها جور ولا محاباة، وإن كانوا مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاندين دعوته إلى الإيمان، وقد أوردت لنا المصادر وقائع كثيرة يطول بسطها واستقصاؤها هنا (2).
من ذلك ما روى الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم في
المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد
(1) إعجاز القرآن ص 289.
(2)
انظر للاستزادة إن شئت كتاب «المعجزة الخالدة» فقد توسع وأفاض.
ساعدهم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السّطة (1) في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها؟
قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع» .
قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (2) على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال:«أفرغت يا أبا الوليد» قال: نعم. قال: فاستمع مني، قال:
أفعل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (3). ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه فلما سمع عتبة أنصت وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال:
«قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» .
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: «نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكوننّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن
(1) أي الفضل.
(2)
أي الجني بزعمه الفاسد.
(3)
سورة فصلت، الآيات 1 - 4.
تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإنّ يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزّكم وكنتم أسعد به. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم» (1).
ولقد تحيرت العرب في شأن هذا القرآن لأنه نزل بلسانهم، لسان عربي مبين، ثم هم يجدونه مباينا لكلامهم، فحاروا ماذا يقولون فيه من طغيان اللدد والخصومة.
وإنه لخبر مشهور، خبر تحير الملأ من قريش، حينما ائتمرت حين حضر موسم الحج، لكي يتفقوا على قول واحد يقولونه للناس، وقد رأوا شتات كلامهم السابق المختلف، وأداروا الرأي فيما يقولون في هذا القرآن وفي النبي الكريم الذي سوف يتلو هذا القرآن على الناس في الموسم؟.
فطرحوا فكرة القول بأنه شاعر، وأنه كاهن، أو أنه مجنون أو ساحر، وصاحب المشورة فيهم الوليد بن المغيرة يرد كل ذلك عليهم بالحجة والبرهان، ثم قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا:«ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته» .
فهذا التحير المظلم الذي غشاهم وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فأجاد النعت، كان تحيرا لما يسمعون من نظمه، وإعظاما ودهشة لما يحسون من إعجاز بيانه.
ولهذا فإنهم كانوا يخافون أن يفلت الزمام من أحدهم فيدخل في الإسلام لتأثره بعظمة القرآن، حتى قالوا لبعضهم كما سجل القرآن ذلك عليهم:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
فكانوا إذا تلا النبي القرآن عليهم صخبوا وصفقوا كيلا يتمكن الناس من
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 90 - 91.