الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. والحيض: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ
…
ولا شك أن الأسئلة لم تكن في وقت واحد بل كانت في أوقات متفرقة مختلفة فكان لا بد من نزول القرآن منجما.
ويدخل في هذا الجانب متابعة الوقائع والأحداث في وقتها ينزل الوحي بشأنها ببيان التوجيه الإلهي، كما في غزوة بدر ومسألة الأنفال، ومصيبة المسلمين يوم أحد ونزول القرآن بالدروس والعبر التي نجعت فيهم مدى حياتهم مع تسلية أحزانهم ومواساتهم.
أو ينزل القرآن ببيان الحكم الإلهي كما في آيات الزنا والظّهار، والعدّة والأيمان
…
وهذه غزوات الرسول الكريم وحدها مثل غزوة بدر وأحد والخندق وتبوك وحنين مثال ناطق بهذه الحكمة الجليلة التي تقتضي نزول القرآن منجما في مناسبتها فكان لا بد للقرآن أن ينزل منجما وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ.
ثالثا: تعهد هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن:
وذلك لصياغتها على النهج الإسلامي القرآني علما وعملا، فكرا واعتقادا وسلوكا، تخلقا وعرفا.
كما قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ.
ومن مظاهر هذا الجانب أنهم كانوا قوما أميين لا يحسنون القراءة والكتابة فكانت الذاكرة عمدتهم الرئيسية، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه، فأنزل الله قرآنه مفرقا ليقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم على تمهّل فيسهل عليهم حفظه ويتيسر فهمه ودرسه كذلك.
ثم إن الأمة العربية التي خوطبت بالقرآن أولا قبل سائر الأمم كانت لها عقائد راسخة وعادات موروثة وأخلاق مأثورة عن أسلافهم يتباهون بها ويتفاخرون، ويتبارون في التمسك بها ويتسابقون، على عنجهيّة لم تعرفها أمة
غيرهم إذ ذاك، فكان كما قال الإمام مكّيّ بن أبي طالب (1):«أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة فإنه ينفر من قبوله كثير من الناس، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي» .
لهذا سلك القرآن الكريم معهم مسلك التربية الحكيمة، وهو مسلك التدرج في التشريع من حكم إلى حكم. والتأنّي في نقلهم من حال إلى حال، ومن خلق إلى خلق، وهكذا بلغ الغاية في تخليهم عن عقائدهم الباطلة، وعاداتهم المسترذلة، وسما بهم إلى عقائد القرآن وأخلاقه وعباداته وأحكامه ونظامه الشامل.
ويصور لنا هذه الحكمة التربوية ما أخرجه البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا» .
وهكذا كانت تنزل الفرائض: تنزل الفريضة حتى إذا تمكنت في النفوس نزلت الأخرى، وكذلك المحرمات، بل إن التدرج في أحيان كثيرة كان يقع في الحكم الواحد، مثل فرائض النفقات، والجهاد، وحقوق المرأة، والميراث، وتحريم الخمر، حتى أثمرت تلك التربية الربانية خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وحتى كان في وقائع امتثالها ما تباهي أرقى الدول في هذا العصر في محاولتها إصلاح مجتمعها، وما قصة تحريم الخمر المشهورة ومحاولة بعض الدول الكبرى في معالجتها ببعيدة عنّا، فقد كان الفشل ذريعا بل تسبب باستفحال المشكلة حتى انجرّ الكثيرون إلى الإمعان والزيادة في الشراب من الأنواع الأشد رداءة مما يعطينا العبرة في إعجاز التربية القرآنية التي كان التدرج في نزول الوحي بالاحكام من أنجع وسائلها.
(1) في كتابه الناسخ والمنسوخ، انظر الإتقان.
(2)
في فضائل القرآن ج 6 ص 185.