الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع عشر فواتح السور
حسن افتتاح الكلام من غاية البلاغة وأسباب القبول، لأنه أول ما يلامس أذن السامع، فإن كان بليغا جميلا استدعى انتباه السامع وإقباله، وإلا لم يكن له ذلك الوقع والتأثير.
وقد شهد أئمة البيان والبلاغة للقرآن الكريم أنه أتت فيه فواتح السور على أحسن الوجوه وأكملها، حتى أخذت منه فنون حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال، كما أخذت من أساليبه سائر فنون البلاغة.
ويجد الناظر في فواتح السور تفننا عظيما في أنواع الافتتاحيات، أثارت انتباه البلغاء وعقدوا لها دراسات، ومؤلفات، لحسنها، وكثرة فنونها، ففيها الافتتاح بالتحميد، والتسبيح لله تعالى، والقسم، والنداء، والأمر، والجمل الخبرية، وحروف التهجي، وجمل الشرط، والاستفهام، والدعاء، والتعليل (1).
الافتاح بحروف التهجي:
وكان أعجب فواتح السور حالا، وإثارة للبحث، هي حروف التهجي، التي افتتحت بها سور كثيرة من القرآن، وعرفت باسم «الحروف المقطعة في فواتح السور» ، مثل:«الم» ، «المص» ، «ألر» ، «حم» ، «ق» ، «ن» .
(1) انظر تفصيلها وبيان السور التي افتتحت بكل نوع منها في الإتقان، النوع الستين.
فما هو الهدف أو المقصود من إيرادها؟.
أكثر العلماء من المفسرين واللغويين، وغيرهم قالوا: إن هذه الحروف المقطعة في فواتح السور هي أسماء للسور التي افتتحت بها، قالوا: سمّيت بها إيذانا بأنها كلمات عربية معروفة التركيب، قد ركّبت من هذه الحروف وأمثالها، وفي ذلك إشارة إلى الإعجاز، وأن القرآن لولا أنه وحي من الله تعالى لما عجزوا عن معارضته (1).
يؤيد هذا القول أحاديث، منها ما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى على الإنسان».
وكذا حديث: «يس قلب القرآن» (3).
وحديث: «من قرأ آية «الكرسي» و «حم» المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء» (4).
وذهب كثير من المحققين إلى أن هذه الحروف هي حروف مسرودة على طريقة التعديد- أي النطق بلفظها فقط- تنبيها على إعجاز القرآن، وكأنه يقول: إن القرآن منتظم من عين الحروف التي يتألف منها كلام العرب، فلولا أنه نازل من عند خلّاق القوى والقدر لما تضاءلت عن الإتيان بمثله قدرتهم، ولا عجزت عن كلام يساويه طاقاتهم، وهم فرسان البيان وأرباب الفصاحة والبلاغة.
(1) هكذا نقله أبو السعود في تفسيره ج 1 ص 16 وكثيرون ذكروه أنه اسم للسورة دون ذكر الإشارة إلى الإعجاز.
(2)
كلاهما في الجمعة البخاري ج 2 ص 5 ومسلم ج 3 ص 16.
(3)
أخرجه أحمد عن معقل بن يسار مرفوعا في ضمن حديث ج 2 ص 26 وأخرجه الترمذي عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم وفيه «وقلب القرآن يس» . في فضائل القرآن رقم 3048 والبزار عن أبي هريرة. تفسير ابن كثير ج 6 ص 547.
(4)
أخرجه البزار والترمذي في فضائل القرآن رقم 3039، والأحاديث في تسمية السور «حم» و «يس» وغيرهما كثيرة، انظرها في الجامعين الصغير والكبير في لفظ «من قرأ» وفي مصادر التفسير المأثور.
وقيل: إن هذه الحروف جاءت ليدل كل حرف منها على اسم من أسمائه تعالى، أو أنها لو وصلت صارت اسما من أسماء الله تعالى. وهما منقولان عن ابن عباس. فقد ورد عنه أنه قال: الم: «أنا الله أعلم» . وقيل: إن الألف من «الله» ، واللام من «لطيف» ، والميم من «مجيد» .
ومثال وصلها ببعضها ما ورد عن ابن عباس: «الر» و «حم» و «ن» هي الرحمن.
واستشهدوا لهذا بأن العرب قد تستعمل الحرف تريد به الكلمة، كقول الشاعر:
فقلت لها قفي
…
فقالت ق.
أي وقفت.
والذي يترجح عندنا من هذه الأقوال وغيرها هو المذهب الأول، وذلك لما ذكرنا من الأدلة، ولأنه أقرب المذاهب لاستعمال العرب، وإفادة الكلام.
أما الرأي الثاني الذي يجعلها إشارة فقط إلى إعجاز القرآن، لأن القرآن مؤلف من هذه الحروف وغيرها، وكلامكم هو كذلك، وحيث عجزتم عن الإتيان بمثله فقد ثبت أنه كلام الله، فهذا الرأي له مؤيدات كثيرة.
منها: أن عدد السور التي افتتحت بحروف التهجي تسع وعشرون، وهو عدد حروف الهجاء إذا جعلنا الهمزة والألف حرفين، وعدد الحروف الواردة فيها هو/ 14/ أي نصف الحروف، وأنها جاءت على نظام تركيب الكلمة عند العرب، منها ما هو حرف واحد، ومنها اثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة.
ومن أقوى ما يؤيّد به هذا الرأي أن عادة القرآن أن يذكر بعد هذه الافتتاحيات القرآن وعظمته، إلا مواضع قليلة هي ثلاثة.
لكنه بعد ما فسّر الرأي الأول بأن هذه الفواتح أسماء للسور سمّيت بها إشارة للإعجاز فقد أصبح الرأي الأول يتضمن هذا الثاني، وهو بذلك أقرب منه، لما فيه من إفادة معنى مراد، ليس مجرّد الرمز والإشارة.
وأما جعل هذه الحروف رمزا لاسم من أسماء الله تعالى منفردة أو بوصلها مع بعضها فقد أولع به كثيرون من أهل الرياضات والتعبدات، وراح كل واحد يحملها محامل حسبما يخطر له، فليس مما نرجحه، لعدم انضباطه، أما شواهد كلام العرب فمنضبطة بقرينة تفيد المراد، والله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين.
وبناء على الرأيين الأقوى في تفسير هذه الفواتح لحظ العلماء دقة التناسب بينها وبين السور التي افتتحت بها، وأتوا بعجائب غريبة:
قال الإمام الزركشي رحمه الله (1): «ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة، واختصاص كل واحدة بما بدئت به، حتى لم يكن لترد «الم» في موضع «الر» ولا «حم» في موضع «طس» . وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الواردة فيها، فلو وضع «ق» موضع «ن» لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله.
وسورة «ق» بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذكر القرآن، والخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارا، و
…
، وقول العتيد والرقيب
…
وحقّيّة الوعيد
…
وغير ذلك مما هو واضح فيها».
ونضيف إلى ذلك ملاءمة حرف القاف الشديد لموضوع السورة ومعانيها كذلك.
«واشتملت سورة «ص» على خصومات متعددة: فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ
(1) فيما لخصه السيوطي في الإتقان: النوع الثاني والستون مع تصرف.
الأعلى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم
…
» (1).
وهكذا نخلص بعد هذه الدراسة إلى أن حروف الهجاء الواقعة في فواتح السور لها شأن عظيم: افتتحت بها تسع وعشرون سورة، وهو أكبر عدد بالنسبة لغيره من فواتح السور الأخرى، وكل هذه السور مكية عدا البقرة وآل عمران، وقد اشتملت السور التي افتتحت بهذه الحروف على بيان عظمة القرآن
(1) وأما إخضاع هذه الحروف إلى حساب رقمي- الذي ظهر حديثا- فقد سبق بمحاولة قديمة هي حساب الجمّل الذي توصل به بعضهم إلى وقائع معينة، أو فضيلة شخص، وكل منهما وكذا ما يشابههما من أي تفسير للقرآن- على هذا النحو- باطل مردود، وذلك لأنه طريق غير مقبول للفهم في كلام العرب، ولا يجوز فهم القرآن بغير طرائق فهمهم، ولما في ذلك من فتح أبواب لأهل الباطل، فإن كتابا كبيرا لا يخلو من أن تتفق فيه كلمات أو حروف مع رقم ما، فهل نجعل ذلك دليلا على حقية ما يزعمه أصحاب هذا الرقم؟! ثم إن الله تعالى تحدى العرب والعالم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، من الكلام الدال على المعاني، ولم يتحدّ أحدا بحروف تعدّ ثم تقسم على عدد، فإدخال هذا الأمر خروج بالقرآن أسلوبا ومضمونا وإعجازا عن حقيقة القرآن. هذا لو فرضنا أن هذا الحساب المزعوم قد انتظم، كيف وقد اختل على يد مدعيه ولم ينتظم.
وليس أمر العدد جديدا، بل قد لاحظ أسلافنا كثرة هذه الحروف في السورة التي افتتحت بها، بل ذهبوا لما هو أبعد من ذلك وهو تلاؤم مضمون السورة لهذه الحروف ونغمها الموسيقى، فعلمنا من هذه البحوث العددية المعاصرة تأكيد دراستهم فقط، وهو إحكام القرآن ودقة نظمه وعمق أغواره، ليس بطريق حساب عدد متوهم مزعوم بل بطريق دقة النظم وعمق التجاوب بين هذه الفواتح وسورها.
قال الزركشي: «وقد عد بعضهم القافات التي وردت في سورة «ق» فوجدها سبعا وخمسين، مع أن آيات السورة خمس وأربعون، وفي سورة «ن» تكرر هذا الحروف أربع عشرة ومائة مرة وآياتها اثنتان وخمسون
…
كذلك أحصى العلماء عدد كلمات القرآن وحروفه، وكلمات سوره وحروفها أيضا، فلم يكن أمر الإحصاء والعدد غائبا عنهم.
لكن العلماء كانوا أبعد نظرا وأسدّ مسلكا فإنهم أخذوا من هذا العمل بيان إحكام القرآن في نظمه ومعناه، كما رأينا.
وإعجازه، كما أن كل افتتاح منها جاء ملائما للسورة التي افتتحت بها، لفظا ومعنى، شكلا ومضمونا، نغما ودلالة، مما يجعلها واقعة في مواقعها لتمييز هذه السور التي افتتحت بها، فتكون أسماء لها، ومفاتيح افتتحت بها، كما قال الإمام التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه:«سمعت السلف يقولون: إنها أسماء السور ومفاتيحها» .