الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاستجاب الصحابة كلهم لذلك، وحمدوا صنيعه، حتى عبد الله بن مسعود نفسه، فإنه بعد أن امتنع قليلا وافق طواعية، كما ثبت ذلك بالأدلة القاطعة الثابتة عنه (1).
وإنما صنع عثمان ذلك بهذه المصاحف الفردية لإزالة جذور الخلاف ومنابته.
وقد انعقد إجماع الأمة عبر كل العصور منذ عهد الصحابة على التزام المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وعملت بذلك جميع الفرق الإسلامية، لا يسمح أحد بمخالفة المصحف لا في رسمه ولا ترتيبه.
وهذه المصاحف في مختلف البلاد الإسلامية ولدى مختلف الفرق المسلمة لا تختلف في شيء عن مصاحف أهل السنّة، حتى في طريقة تقسيم السور وترقيمها، الأمر الذي أثبت بالدلالة القاطعة لكل العقلاء المنصفين على اختلاف أديانهم «أن المصحف الذي نسخه عثمان قد تواتر إلينا بدون أي تحريف على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي من الجميع للنص المقبول نفسه حتى اليوم يعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا» (2).
فضيلة عمل عثمان:
وقد حمد المسلمون سلفا فخلفا لعثمان رضي الله عنه صنيعه، حتى لقبوه جامع القرآن، لما «وفّق له من هذا الأمر العظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة» (3).
(1) انظر الآثار عنه في المصاحف لابن أبي داود تحت عنوان «رضا عبد الله بن مسعود لجمع عثمان
…
».
(2)
باختصار عن المستشرق (و. موير).
(3)
البرهان ج 1 ص 239 و 240.
وقد ثبت عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: «يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا» (1).
وقال علي رضي الله عنه أيضا: «لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل» (2).
وقد عنيت الأمة الإسلامية بهذه المصاحف العثمانية أكبر عناية، فاتخذت هذه المصاحف أصولا يؤخذ منها، وأئمة يقتدى في كتابة المصاحف بها، حتى حدثنا الرحالون المسلمون العلماء، والأئمة الكبار عن نسخ من هذه المصاحف أو قطع منها شاهدوها في بلاد الإسلام، ولا تزال أجزاء هامة من بعض هذه المصاحف حتى عصرنا هذا تحتفظ بها بعض دور الآثار الضخمة وتزهو بها على العالم.
ويحدثنا الإمام ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة (774 هـ) عن المصحف الشامي فيقول (3): «أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة 518، وقد رأيته كتابا عزيزا، جليلا، عظيما، ضخما، بخط حسن مبين، قوي، بحبر محكم، في رقّ أظنه من جلود الإبل» .
وقد ظل هذا المصحف مفخرة تزهو بها دمشق، ويحتضنها جامعها الأموي الكبير، حتى كان الحريق الكبير الذي أصاب المسجد الأموي سنة
(1) فتح الباري ج 9 ص 15 والنص أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 30 وابن الأنباري والسياق لابن أبي داود لكن الجملة الأولى من سياق ابن الأنباري، وانظر الإتقان ج 1 ص 59 ومقدمتان في علوم القرآن ص 46 ومناهل العرفان للزرقاني ج 1 ص 155.
(2)
المصاحف من أكثر من طريق ص 19 و 30 وانظر البرهان ج 1 ص 240.
(3)
في كتابه فضائل القرآن المطبوع في آخر تفسير ابن كثير ج 4 ص 15.
1310 هـ، واحترق فيه هذا المصحف الجليل (1).
وهكذا سجلت الأمة الإسلامية بحفظها القرآن في الصدور والسطور منذ عهد الرسالة، ثم بصنيع أبي بكر وصنيع عثمان بن عفان والصحابة في نسخ المصاحف مزية ليست لأمة غيرها، هي اعتماد المسلمين على نسخ من كتاب ربهم، منقولة على غاية الدقة والتحري عن الأصل المكتوب عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع مقابلة ذلك كله بحفظه في صدور المسلمين كلهم، ثم نقله كذلك عبر أجيالهم، ليعترف لهم التاريخ على لسان الموالي لهم والمخالف لدينهم بأنه أدق وأكمل مما يتوقعه أو يمكن أن يفعله أي إنسان، تحقيقا لقول الله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
(1) قال الأستاذ العلّامة الدكتور صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرآن ص 89: