الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما أكرهه أصحابه المشركون على أن يقول قولا ينصر آلهتهم ويرضيهم لم يتمكن من إخفاء الصراع الذي في نفسه، فاستمهلهم وقتا ليفكّر، ثم خرج ليقول: إن القرآن سحر يؤثر يأخذه محمد من بعض العالمين بالسحر.
فأنزل الله تعالى فيه:
…
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ
…
فتأمل هذه الآيات كيف صورت صراعه النفسي، وتكلفه الشديد ذلك التصوير المعبّر الموحي، الذي صار مثلا يضرب في الجهد العظيم، الذي يخرج بعده صاحبه بالقول الباطل العقيم.
القرآن المدني من حيث الأسلوب:
ومن سمات أسلوب القرآن المدني:
1 -
طول أكثر السور والآيات، كما هو واضح ظاهر من سورة البقرة وآل عمران مثلا.
2 -
أنها غالبا ما تسلك سبيل الهدوء، واللين في أسلوبها، واسترسال فواصلها.
والحكمة في اختيار هذا الأسلوب اشتمال القرآن المدني على الموضوعات السابقة، وهي تقتضي البسط والإسهاب، كما أن الخطاب في المدينة توجّه في أكثره للمؤمنين وذلك يناسب الهدوء واللين.
مناقشة المستشرقين حول المكي والمدني:
ومن ذلك نتبين فساد ما توهمه بعض المستشرقين، ومن تبعهم من ببغاوات تتلمذت عليهم من أبنائنا من توهم أو تصور ما زعم من تأثر القرآن بالبيئة، وأن القرآن لما كان في مكة بين الأميين جاءت سور المكي وآياته قصيرة، ولما وجد في المدينة بين مثقفين مستنيرين جاءت سور المدني وآياته طويلة، وجاء القرآن المكي لذلك خلوا من التشريع والأحكام، بينما القسم
المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام، بل بلغ الأمر بهذا الزاعم أن قال: «إن القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق والبراهين، فيقول: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
بخلاف القسم المدني فهو يناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين فيقول: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا.
هكذا يستدل هذا الزاعم بهذه الاستدلالات على ما توهمه من تأثر القرآن بالبيئة واقتباسه منها
…
(1).
وهذا في الواقع تجنّ واختلاق، صادر عن سفيه جهول، أو آفك مغرض متحامل حقود، ونورد إلماحات وجيزة لرد هذا الزعم فيما يلي:
1 -
إن سمات المكي والمدني الأسلوبية وكذا الموضوعية خاضعة لقضية البلاغة الجوهرية والمسلمة لدى كل ذي إلمام بالبلاغة والبيان عربيا أو غير عربي، وهي مراعاة مقتضى الحال، كما ذكرنا من قبل، لذلك نجد في المكي سورا طوالا بل من أطول الطوال ونجد في المدني سورا قصارا وفيها الآيات والفقرات القصيرة، بل من أقصر القصار، كما في سورة «الفتح» وسورة «الكوثر» وهي أقصر سورة في القرآن وهي مدنية كما ثبت بذلك الحديث الصحيح الذي لا يقاوم.
كذلك نجد في المدني شدة أحيانا، كما في هذه الآيات من مطلع سورة «الصف» المدنية بالاتفاق:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
(1) انظر تفاصيل عبارات هذه الفقرة ومناقشتها في كتاب: مناهل العرفان ج 1 ص 198 - 232 والمدخل إلى دراسة القرآن الكريم لفضيلة أستاذنا الشيخ محمد
بل نجد في المدني ما بلغ الغاية في الشدة والتخويف، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران (1):
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
كان الإمام أبو حنيفة يقول (2) في هذه الآية: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
كما قد نجد كذلك في المكي اللين والعفو البالغ أقصاه، كقوله تعالى في سورة «فصّلت» (3):
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
2 -
إن ادعاء خلو القرآن المكي من الحجج والأدلة قلب للقضايا وعكس للأوضاع ومناقضة للحقائق، فالقرآن المكي من سماته الموضوعية كما ذكرنا اعتناؤه بالدلائل العلمية الكونية على عظمة الله تعالى ووحدانيته، وعلى إبداع حكمته وجليل علمه وقدرته، حتى كانت فيه دلائل الإعجاز العلمي، الذي ألّفت ولا تزال الكتب تؤلّف في كشف عجائب هذا الإعجاز، وأسرار دلالته على موافقة ما يكشفه العلم بعد هذه القرون والحقب الطوال.
أبو شهبة وقد عني بذكر عبارات هذا الزاعم بنصها ص 232 - 251.
(1)
الآيات 130 - 132.
(2)
كما في تفسير الكشاف للزمخشري ج 1 ص 318.
(3)
الآيات 23 - 25.
وكذلك نجد في القرآن المكي الدلائل العقلية القاطعة على حقّيّة التوحيد، والقيامة، وبعث الرسل وغير ذلك، وقد سبقت لنا آيات من سورة «يس» في دلائل القيامة، وانظر قوله تعالى في إثبات التوحيد في سورة «المؤمنون» المكية (1):
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
3 -
إن هذا الزاعم قد حكم على نفسه بالجهل المطبق أو التجاهل والتجني المهلك، فإن الآية التي أوردها على أنها من المدني: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، إنما هي من القرآن المكي، وهي الآية (22) من سورة الأنبياء، وهي مكية كلها، وهذه الآية مكية بالإجماع.
وهكذا كان دأب الباطل أن يتّخذ الإفك وتحريف الحقائق ذريعة يسند إليها باطله وجحوده، سواء كان صاحبه جاهليا قديما، أو عصريا حديثا، ويريد الله أن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الجاحدون.
(1) الآيتان 91 - 92.