الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الحفظ التام بنوعيه: حفظ الصدور وحفظ السطور.
جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
ثم لاحت في الأفق إشارات تحذّر من الخطر، وذلك نتيجة القتل الكثير الذي وقع في صفوف الصحابة في حروب الردة، وكان قرّاؤهم أكثر إقداما بين مقاتليهم، فكثر فيهم القتل حتى دعا ذلك للتدبر في المستقبل الذي سيواجه فيه المسلمون الدولتين الأعظم في العالم آنذاك، كما فصلت لنا الروايات الصحيحة القطعية الثبوت، نسوق منها هنا رواية الإمام البخاري:
أخرج البخاري (1) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
«أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرّ يوم القيامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه
(1) في فضائل القرآن (باب جمع القرآن) ج 1 ص 183.
الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم».
وهذا النص يفيد تخوّف الصحابة وحسابهم للمستقبل الذي يوجب الحذر والاستعداد لما يطرأ للقراء في مجتمع فرض عليه الجهاد وأحدقت به الأعداء.
ويذكر الحديث ما اقتضاه العمل من الجهد في قول زيد: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال» .
إن هذا يعني في ضوء المعلومات الثابتة التي قدمناها معنى جليلا هو أنه «طلب القرآن متفرقا ليعارض (1) بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن، ليشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكّوا في أنه جمع عن ملأ منهم» (2).
وفي ضوء هذا نفهم قوله: «وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره» .
وروى البخاري عن ابن شهاب قال: «وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال: «فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، فقد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فألحقناها في سورتها في المصحف» (3).
فقد ورد من أكثر من طريق (4) أن زيدا وعمر بن الخطاب قاما بعمل جمع
(1) أي يقابل وتدقق نسخته.
(2)
البرهان ج 1 ص 238 - 239.
(3)
أخرجه البخاري في فضائل القرآن ج 6 ص 184.
وقد اخترنا أن قصة هذه الآية وقعت في جمع القرآن على عهد أبي بكر لاتحاد مخرج القصتين فإنهما ترويان عن زيد بن ثابت، أما الجمع على عهد عثمان فمن رواية أنس بن مالك، كما أنه من المستبعد جدا فقد شيء من مصحف أبي بكر، وعمل الصحابة في عهد عثمان إنما كان نشرا للمصاحف عن مصحف أبي بكر، وهو الذي جزم به الإمامان ابن كثير والزركشي.
(4)
كما أخرجها ابن أبي داود في المصاحف ص 12 و 17 وانظر الإتقان ص 58.
القرآن هذا «وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان» .
وقد فسر هذا القول بتفاسير متعددة كلها تشير إلى غاية التثبت، ولعل أولاها عندنا هو الاستشهاد على أن ذلك كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فسره أبو شامة المقدسي، وعلم الدين السخاوي. «ولذلك قال في آخر سورة التوبة: لم أجدها مع غيره، أي لم أجدها مكتوبة على الشرط المذكور مع غيره».
وإلا فإن خاتمة براءة محفوظة عنده وعند غيره من الصحابة، مشهورة قد وردت أحاديث في فضلها.
وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدق توثق ومحافظة، واستغرق هذا الجمع زهاء سنة، هي مدة ما بين واقعة اليمامة ووفاة الصديق رضي الله عنه، وأودعت نسخة المصحف لدى الخليفة لتكون إماما تواجه الأمة به ما قد يحدث في المستقبل ولم يبق الأمر موكولا إلى النسخ التي بين أيدي كتّاب الوحي، أو إلى حفظ الحفّاظ وحدهم.
ويعجبنا في هذا ما قاله الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب «فهم السنن» : «كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء (1).
وما كان أقواه وأمتنه من خيط ذاك الذي جمع به الصحابة رضي الله عنهم كتاب الله تعالى.
وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة
(1) البرهان ج 1 ص 238 والإتقان ج 1 ص 58.