الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمنذ البداية كانت العناية بالعلم جزءا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام، وإن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية، تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوربا. وإن التقدم الذي تمّ اليوم بفضل المعارف العلمية في شرح بعض ما لم يكن مفهوما أو في شرح بعض ما قد أسيء تفسيره حتى الآن من آيات القرآن، ليشكّل قمّة المواجهة بين العلم والكتب المقدسة».
الأصول العامة لحديث القرآن عن الكون:
فإذا أردنا بعد هذا أن نزداد فهما للقرآن في حديثه عن الكون فتأملنا حديثه هذا وما اشتمل عليه من المعلومات والمعارف فإننا نجد أن هناك أصولا عامة يجب أن تكون نصب أعيننا لدى دراسة الآيات القرآنية التي تتحدث عن الكون، وهذه الأصول هي:
1 -
إن القرآن الكريم لم يتخذ العلوم الكونية موضوعا من موضوعاته الأساسية، بل كان غرضه الأكبر هو هداية الناس. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. فهو لم يضع نظريات في العلوم، وليس يرفع من قدره أن يفعل ذلك، لأن هذه العلوم إذا خلت من الهداية تحولت إلى نقمة تحقيق بالإنسانية.
كما هو مشاهد لنا على مستوى الأفراد والجماعات والدول، فحسب القرآن أن ينشئ المجتمع الفاضل، لكنه في الوقت نفسه قد أرسى أسس تقدم العلم بما رسخ من مفاهيم صحيحة، وأبطل من أفكار زائغة.
2 -
إن العلوم الطبيعية خاضعة للتدرج يوما بعد يوم فترك القرآن بحث النظريات العلمية ابتلاء للناس كما ترك غيرها من الوسائل الحيوية والمهن والصناعات والحرف ليترك المجال مفتوحا وليستحق كل بما يقدمه. وقد وقف القرآن من هذه العلوم موقف المؤيد الموافق لها فأمر بها وحض الناس على النظر في مظاهر الكون وما تكنه من أسرار ودلائل مما أودعه الخبير القدير من أعاجيب الخلق والتكوين، وبيّن القرآن أن حقائق هذا الكون فيها عبرة للعقلاء
من الناس: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
3 -
قرر القرآن أن الكون خادم الإنسان مسخّر له، وأثبتت العلوم الحديثة ما قرره القرآن، والتاريخ الإسلامي لم يعرف الانفصال بين عالم الدين وعالم الطبيعيات، فابن النفيس مثلا عالم الضوء كان إماما في الفقه الشافعي يقتدى به، وغيره كثيرون، فليس هناك تباين بين الدين والعلم، بل كثيرا ما قد نجد عالم الدين عالما كونيا وعالم الكون عالما دينيا، فلا عداء بين الإسلام والعلوم الكونية قديمها وحديثها لأن الكون في مفهوم القرآن مسخّر كما بينا للإنسان، بخلاف ما ساد في أوربة حتى عهد قريب من أن الإنسان وجد في جو معاد له وأن الكون يصارع الإنسان.
وقد أثبتت الأبحاث العلمية المتقدمة أن هذا الكون خادم للإنسان، وأن مجال انتفاع الإنسان منه لا يمكن أن يحيط به الحصر، بل يخضع لمدى قدرة الإنسان على الانتفاع منه، وذلك ما أشار إليه القرآن في مواطن كثيرة كقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وقوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ
…
وقوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
فقد عبّر القرآن تعبيرا دقيقا عن العلاقة بين الكون والإنسان في هذه الكلمة سَخَّرَ بكل ما فيها من معاني استمرار الخدمة، فكان هذا الموقف من القرآن الكريم تقريرا لقاعدة العلم الأساسية ومنطلقا للعلماء في أبحاثهم.
4 -
إن القرآن تكلم عن حقائق الكون ولم يتبنّ نظريات علمية، لكنه تكلم ولفت النظر إلى ما في الكون من عجيب الصنع وكان هدفه الاستنباط والاستدلال على المكون
الخالق والامتنان على الناس بما أنعم الله عليهم.
وهذان الغرضان متلازمان مع الهدف الذي من أجله جاء القرآن، فالمنّة والإنعام تستدعي الشكر والطاعة والتقرب إلى الله تعالى.
ومن ثمّ جاء موقف هام آخر للقرآن، وهو أن القرآن في حديثه عن الكون جاء من حيث طريقته جامعا بين الإجمال والتفصيل، وفي هذا الحديث نجد التوافق بين القرآن والعلم قرنا فقرنا، وهنا يظهر عنصر معجز عظيم لأن القرآن في حديثه عن الكون انعتق من التأثر بما كان عليه أمر الناس من علوم ونظريات سائدة في ذلك العصر، فقد كان في عصر القرآن الكريم من يعبد الفلك ومظاهر الطبيعة مثلا، فجاء القرآن وتكلم عن الكون وعن الأفلاك كلاما علميا يتفق مع أحدث النظريات القائمة المعتمدة اليوم، ولا مصدر لهذا العلم في ذلك الوقت القصي إلا التنزيل عمن خلق الكون، ولذلك نجد أن كثيرا من مواقف القرآن الكريم يزداد على مدى الزمن وضوحا ودقة، بعد أن كان يفهم فهما إجماليا.
خذ مثلا قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ في معرض الحديث عن المطر والسحاب، وقد تبين ذلك في العلم الحديث، فالرياح التي تمطر تلقح السحاب ببعضه، إذ تتفاعل القوة الموجبة في السحاب مع القوة السالبة فيكون البرق والرعد والمطر ..
وخذ مثلا قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وقد فهم المتقدمون من زوجين الأمرين المتقابلين كالليل والنهار والظلمة والضياء، ولكن المعنى الأوسع هو السالب والموجب، فإن أصغر خلية في الذرة وهي الجوهر تتألف من السالب والموجب وقد جاء العلم الحديث يقرر أن مادة الكون ترجع إلى عنصر واحد هو (الطاقة) ومن الطاقة الموجبة والطاقة السالبة تتكوّن الذرة، ثم المادة.
وهكذا توصّل التقدم العلمي الحديث إلى ما سبق أن قرره القرآن منذ أربعة عشر قرنا. وهذا الموقف للقرآن من العلوم كان له أثر في تحرر الناس من الخرافة والأوهام وفي تقدم العلوم على أيدي المسلمين بعد أن كان العالم في الظلمات حتى تتلمذ العالم قرونا على يد المسلمين الذين منهم انبثقت الشعلة، وإنا لنرجو أن تحقق هذه الأمة بتقدمها الخلقي الديني وما ينبثق عنه