الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام ابن عطية (1): لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد»، بل هو كما وصفه الله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
الوجه الثالث: خطاب العامة وخطاب الخاصة:
وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك- إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حقها كاملا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال، فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم، فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسّر لكل من أراد وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
الوجه الرابع: إقناع العقل وإمتاع العاطفة:
في النفس الإنسانية قوتان قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها: فأما إحداهما فتنقّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى
فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا.
(1) في مقدمة تفسيره الجليل «المحرر الوجيز» ج 1 ص 39.
فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟
لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوّا في جانب، وقصورا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور في نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيّا أو رشدا، وأن يكون حقيقة أو تخيلا، فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذا ثمرة الفكرة، وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت هذا ثمرة العاطفة، وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرّغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.
وأما أن أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.
فمن لك إذا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟