الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بضع عَشَرَ صَحَابِيًّا إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ ضِعَافٌ
وَقَالَ إِسْحَاقُ رضي الله عنه حَدِيثُ شَدَّادٍ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ
وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ هَذَا حَدِيثَ ثَوْبَانَ مِنْ طَرِيقَيْنِ الطَّرِيقُ الْمُتَقَدِّمُ أَجْوَدُ مِنْهُمَا
وَقَالَ أَحْمَدُ رحمه الله أَحَادِيثُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَلَا نِكَاحَ إِلَى بِوَلِيٍّ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنَا أَذْهَبُ إليها
(عن بن جُرَيْجٍ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ بَكْرٍ وَعَبْدَ الرَّازِقِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ ثَلَاثَتُهُمْ يَرْوُونَ عَنِ بن جريج
قاله الْمِزِّيُّ (مُصَدَّقُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ صِفَةُ شَيْخٍ
(رَوَاهُ بن ثَوْبَانَ) هُوَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ
9 -
(باب في الرخصة)
(احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنه عَنْ أَنَس قَالَ أَوَّل مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَة لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب اِحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم فمر به النبي فقال أفطر هذان ثم رخص النبي بَعْد فِي الْحِجَامَة لِلصَّائِمِ وَكَانَ أَنَس يَحْتَجِم وَهُوَ صَائِم قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ كُلّهمْ ثِقَات وَلَا أعلم له علة
وَرَأَى أَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تَضُرُّ الْمُحْرِمَ مَا لَمْ تَقْطَعْ شَعْرًا
وَقَدْ تَأَوَّلَ حَدِيثَ بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ فَقَالَ إِنَّمَا احْتَجَمَ النبي صلى الله عليه وسلم صَائِمًا مُحْرِمًا وَهُوَ مُسَافِرٌ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُهُ كَانَ مُحْرِمًا وَهُوَ مُقِيمٌ وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ مَا شَاءَ مِنْ طَعَامٍ وَجِمَاعٍ وَحِجَامَةٍ وَغَيْرِهَا
قُلْتُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ حِينَ احْتَجَمَ صَائِمًا وَلَوْ كَانَ يُفْسِدُ صَوْمَهُ بَالْحِجَامَةِ لَكَانَ يُقَالُ إِنَّهُ أَفْطَرَ بَالْحِجَامَةِ كَمَا يُقَالُ أَفْطَرَ الصَّائِمُ بِشُرْبِ الْمَاءِ وَأَكْلِ التَّمْرِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا وَلَا يُقَالُ أَكَلَ تَمْرًا وَهُوَ صَائِمٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيُّ احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ
(رَوَاهُ وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ) كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ (عَنْ أَيُّوبَ بِإِسْنَادِهِ) أَيْ عَنْ عِكْرِمَةَ (مِثْلَهُ) أَيْ بِلَفْظِ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ لَفْظِ مُحْرِمٍ (وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) أَيْ وَكَذَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ
(عَنْ مقسم عن بن عباس) قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وعن بن سعيد الخدري قال رخص رسول الله فِي الْقُبْلَة لِلصَّائِمِ وَرَخَّصَ فِي الْحِجَامَة رَوَاهُ النَّسَائِيّ
فَذَهَبَ إِلَى هَذِهِ الْأَحَادِيث جَمَاعَة مِنْ العلماء ويروى ذلك عن سعيد بن أبي وقاص وبن مسعود وبن عَبَّاس وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَالْحُسَيْن بْن عَلِيّ وَزَيْد بْن أَرْقَم وَعَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة وَأَبَى سَعِيد الْخُدْرِيّ وَأَبِي هُرَيْرَة وَهُوَ مَذْهَب عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيْرهمَا وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة
وَذَهَبَ إِلَى أَحَادِيث الْفِطْر بِهَا جَمَاعَة مِنْهُمْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
وَرَوَى الْمُعْتَمِر عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَن عَنْ غَيْر واحد من أصحاب النبي قَالُوا أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم ذَكَره النَّسَائِيّ
وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَة فَرَوَى عَنْهُ أَبُو صَالِح أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم ذَكَره النَّسَائِيّ
وَرَوَى عَنْهُ شَقِيق بْن ثَوْر عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَوْ اِحْتَجَمَ مَا بِالْبَيْتِ
ذَكَره عَبْد الرَّزَّاق وَالنَّسَائِيّ أيضا
(إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ نَهَى وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ فِي الْفَتْحِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ والجهالة بالصحابي لا تضر وقد رواه بن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ هَذَا وَلَفْظُهُ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالُوا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَكَرِهَهَا لِلضَّعْفِ أَيْ لِئَلَّا يَضْعُفَ
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ فِي الْفَتْحِ رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الحجامة أخرجه النسائي وبن خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ
قَالَ الْحَافِظُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ
لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بَالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْطِرُ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ يَضْعُفُ بِهَا وَتَزْدَادُ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ الضَّعْفُ يَبْلُغُ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِفْطَارِ وَلَا يُكْرَهُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَا يَضْعُفُ بِهَا
وَعَلَى
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَأَمَّا عَائِشَة فَرَوَى عَطَاء وَعِيَاض بْن عُرْوَة عَنْهَا أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم ذَكَره النَّسَائِيّ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ رُوِيَتْ الرُّخْصَة عَنْهَا
وَذَهَبَ إِلَى الْفِطْر مِنْ التَّابِعِينَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالْحَسَن وبن سِيرِينَ وَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيٍّ وَالْأَوْزاَعِيّ وَالْإِمَام أَحْمَد وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَأَبُو بَكْر بْن الْمُنْذَر وَمُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة
وَأَجَابَ الْمُرَخِّصُونَ عَنْ أَحَادِيث الْفِطْر بأجوبة أحدهما القدح فيها تعليلها
الثَّانِي دَعْوَى النَّسْخ فِيهَا
الثَّالِث أَنَّ الْفِطْر فِيهَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْحِجَامَة بَلْ لِأَجَلِ الْغِيبَة وَذَكَر الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم لِلتَّعْرِيفِ لَا لِلتَّعْلِيلِ
الرَّابِع تَأْوِيلهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَدْ تَعْرِض لِأَنَّ يُفْطِر لِمَا يَلْحَقهُ مِنْ الضَّعْف فِي أَفْطَرَ بِمَعْنَى يُفْطِر
كُلِّ حَالٍ تَجَنُّبُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ أَوْلَى فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ عَلَى الْمَجَازِ لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
(إِلَّا كَرَاهِيَةَ الْجَهْدِ) أَيِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ شَبَابَةُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْخَامِس أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَته وَأَنَّهُمَا قَدْ أَفْطَرَا حقيقة ومرور النبي بِهِمَا كَانَ مَسَاء فِي وَقْت الْفِطْر فَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا قَدْ أَفْطَرَا وَدَخَلَا فِي وَقْت الْفِطْر يَعْنِي فَلْيَصْنَعَا مَا أَحَبَّا
السَّادِس أَنَّ هَذَا تَغْلِيظ وَدُعَاء عَلَيْهِمَا لَا أَنَّهُ خَبَر عَنْ حُكْم شَرْعِيّ بِفِطْرِهِمَا
السَّابِع أَنَّ إِفْطَارهمَا بِمَعْنَى إبطال ثواب صومهما كما جاء خمس يفطرون الصَّائِم الْكَذِب وَالْغِيبَة وَالنَّمِيمَة وَالنَّظْرَة السُّوء وَالْيَمِين الْكَاذِبَة وَكَمَا جَاءَ الْحَدَث حَدَثَانِ حَدَث اللِّسَان وَهُوَ أَشَدّهمَا
الثَّامِن أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ تَعَارُض الْأَخْبَار جُمْلَة لَكَانَ الْأَخْذ بِأَحَادِيث الرُّخْصَة أَوْلَى لِتَأَيُّدِهَا بِالْقِيَاسِ وَشَوَاهِد أُصُول الشَّرِيعَة لَهَا إِذْ الْفِطْر إِنَّمَا قِيَاسه أَنْ يَكُون بِمَا يَدْخُل الْجَوْف لَا بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالْفِصَادِ وَالتَّشْرِيط وَنَحْوه
قَالَ الْمُفْطِرُونَ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَة شَيْءٌ يَصِحّ
أَمَّا جَوَاب الْمُعَلِّلِينَ فَبَاطِلٌ وَإِنَّ الْأَئِمَّة الْعَارِفِينَ بِهَذَا الشَّأْن قَدْ تَظَاهَرَتْ أَقْوَالهمْ بِتَصْحِيحِ بَعْضهَا كَمَا تَقَدَّمَ
وَالْبَاقِي إِمَّا حَسَنٌ يَصْلُح لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ وَحْده وَإِمَّا ضَعِيف فَهُوَ يَصْلُح لِلشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَات وَلَيْسَ الْعُمْدَة عَلَيْهِ وَمِمَّنْ صَحَّحَ ذَلِكَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَعَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ وَإِبْرَاهِيم الحربي وعثمان بن سعيد الدارمي والبخاري وبن الْمُنْذِر وَكُلّ مَنْ لَهُ عِلْم بِالْحَدِيثِ يَشْهَد بأن هذا الأصل محفوظ عن النبي لِتَعَدُّدِ طُرُقه وَثِقَة رُوَاته وَاشْتِهَارهمْ بِالْعَدَالَةِ
قَالُوا وَالْعَجَب مِمَّنْ يَذْهَب إِلَى أَحَادِيث الْجَهْر بِالْبَسْمَلَةِ وَهِيَ دُون هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي الشُّهْرَة وَالصِّحَّة وَيَتْرُك هَذِهِ الْأَحَادِيث وَكَذَلِكَ أَحَادِيث الْفِطْر بِالْقَيْءِ مَعَ ضَعْفهَا وَقِلَّتهَا وَأَيْنَ تَقَع مِنْ أَحَادِيث الْفِطْر بِالْحِجَامَةِ وَكَذَلِكَ أَحَادِيث الْإِتْمَام فِي السَّفَر وَأَحَادِيث أَقَلّ الْحَيْض وَأَكْثَره وَأَحَادِيث تَقْدِير الْمَهْر بِعَشْرَةِ دَرَاهِم وَأَحَادِيث الْوُضُوء بِنَبِيذِ التَّمْر وَأَحَادِيث الشَّهَادَة فِي النِّكَاح وَأَحَادِيث التَّيَمُّم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
ضَرْبَتَانِ وَأَحَادِيث الْمَنْع مِنْ فَسْخ الْحَجّ إِلَى التَّمَتُّع وَأَحَادِيث تَحْرِيم الْقِرَاءَة عَلَى الْجُنُب وَالْحَائِض وَأَحَادِيث تَقْدِير الْمَاء الَّذِي يَحْمِل النَّجَاسَة بِالْقُلَّتَيْنِ
قَالُوا وَأَحَادِيث الْفِطْر بِالْحِجَامَةِ أَقْوَى وَأَشْهَر وَأُعْرَف مِنْ هَذَا بَلْ لَيْسَتْ دُون أَحَادِيث نَقْضِ الْوُضُوء بِمَسِّ الذَّكَر
وَأَمَّا قَوْل بَعْض أَهْل الْحَدِيث لَا يَصِحّ فِي الْفِطْر بِالْحِجَامَةِ حَدِيث فَمُجَازَفَةٌ بَاطِلَةٌ أَنْكَرَهَا أَئِمَّة الْحَدِيث كَالْإِمَامِ أَحْمَد لما حكى له قول بن مَعِين أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ
ثُمَّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَة عَنْهُ
أَنَّهُ لَا يَصِحّ فِي مَسِّ الذَّكَر حَدِيث وَلَا فِي النِّكَاح بِلَا وَلِيٍّ وَلَمْ يَلْتَفِت الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ إِلَى قَوْله
وَأَمَّا تَطَرُّق التعليل إليها فَمِنْ نَظَرَ فِي عِلَلهَا وَاخْتِلَاف طُرُقهَا أَفَادَهُ ذَلِكَ عِلْمًا لَا يُشَكُّ فِيهِ بِأَنَّ الْحَدِيث مَحْفُوظ وَعَلَى قَوْل جُمْهُور الْفُقَهَاء وَالْأُصُولِيِّينَ لَا يُلْتَفَت إِلَى شَيْء مِنْ تِلْكَ الْعِلَل وَإِنَّهَا مَا بَيْن تَعْلِيل بِوَقْفِ بَعْض الرُّوَاة
وَقَدْ رَفَعَهَا آخَرُونَ أَوْ إِرْسَالهَا وَقَدْ وَصَلَهَا آخَرُونَ وَهُمْ ثِقَات وَالزِّيَادَة مِنْ الثِّقَة مَقْبُولَة
قَالُوا فَعَلَى قَوْل مُنَازِعِينَا هَذِهِ الْعِلَل بَاطِلَة لَا يُلْتَفَت إِلَى شَيْء مِنْهَا
وَقَدْ ذَكَرْت عِلَلهَا وَالْأَجْوِبَة عَنْهُ فِي مُصَنَّف مُفْرَد فِي الْمَسْأَلَة
قَالُوا وَأَمَّا دَعْوَى النَّسْخ فَلَا سَبِيل إِلَى صِحَّتهَا
وَنَحْنُ نَذْكُر مَا اِحْتَجُّوا بِهِ عَلَى النَّسْخ
ثُمَّ نُبَيِّن مَا فِيهِ
قَالُوا قَدْ صح عن بن عباس أن النبي اِحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم مُحْرِم قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَسَمَاع بن عباس من النبي عَام الْفَتْح وَلَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ مُحْرِمًا وَلَمْ يصحبه محرما قبل حجة الإسلام
فذكر بن عباس حجامة النبي عَام حَجَّة الْإِسْلَام سَنَة عَشْر وَحَدِيث أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم سَنَة ثَمَان فَإِنْ كَانَا ثَابِتَيْنِ فحديث بن عَبَّاس نَاسِخ
قَالُوا وَيَدُلّ عَلَى النَّسْخ حَدِيث أَنَس فِي قِصَّة جَعْفَر وَقَدْ تَقَدَّمَ
قَالُوا وَيَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث أَبِي سَعِيد فِي الرُّخْصَة فِيهَا وَالرُّخْصَة لَا تَكُون إِلَّا بَعْد تَقَدُّم المنع
قال المفطرون الثابت أن النبي اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِم وَأَمَّا قَوْله وَهُوَ صَائِم فَإِنَّ الْإِمَام أَحْمَد قَالَ لَا تَصِحّ هَذِهِ اللَّفْظَة وَبَيَّنَ أَنَّهَا وَهْم وَوَافَقَهُ غَيْره عَلَى ذلك وقالوا الصواب اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِم وَمِمَّنْ ذَكَر ذَلِكَ عَنْهُ الحلال فِي كِتَاب الْعِلَل
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُه أَحَدهَا اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِم فَقَطْ
وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الثَّانِي اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِم وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم
انفرد به البخاري
الثالث احتجم وهو محرم صائم ذكره الترمذي وصححه والنسائي وبن مَاجَةَ
الرَّابِع اِحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم فَقَطْ
ذَكَره أَبُو دَاوُدَ
وَأَمَّا حَدِيث اِحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم فهو مختصر من حديث بن عباس في البخاري احتجم رسول الله وَهُوَ مُحْرِم وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم
وَأَمَّا حَدِيث اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِم صَائِم فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَمَسّك بِهِ مَنْ اِدَّعَى النَّسْخ
وَأَمَّا لَفْظ اِحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم فَلَا يَدُلّ عَلَى النَّسْخ
وَلَا تَصِحّ الْمُعَارَضَة بِهِ لِوُجُوهٍ أَحَدهَا أَنَّهُ لَا يَعْلَم تَارِيخه وَدَعْوَى النَّسْخ لَا تَثْبُت بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَال
الثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الصَّوْم كَانَ فَرْضًا
وَلَعَلَّهُ كَانَ صَوْم نَفْل خَرَجَ مِنْهُ
الثَّالِث حَتَّى لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَوْم فَرْض فَالظَّاهِر أَنَّ الْحِجَامَة إِنَّمَا تَكُون لِلْعُذْرِ وَيَجُوز الْخُرُوج مِنْ صَوْم الْفَرْض بِعُذْرِ الْمَرَض
وَالْوَاقِعَة حِكَايَة فِعْل لَا عُمُوم لَهَا
وَلَا يُقَال قَوْله وَهُوَ صَائِم جُمْلَة حَال مُقَارِنَة لِلْعَامِلِ فِيهَا
فَدَلَّ عَلَى مُقَارَنَة الصَّوْم لِلْحِجَامَةِ لِأَنَّ الرَّاوِي لَمْ يَذْكُر أَنَّ النَّبِيّ قَالَ إِنِّي بَاقٍ عَلَى صَوْمِي وَإِنَّمَا رَآهُ يَحْتَجِم وَهُوَ صَائِم فَأَخْبَرَهُ بِمَا شَاهَدَهُ وَرَآهُ ولا علم له بنية النبي وَلَا بِمَا فَعَلَ بَعْد الْحِجَامَة مَعَ أَنَّ قَوْله وَهُوَ صَائِم حَال مِنْ الشُّرُوع فِي الْحِجَامَة وَابْتِدَائِهَا فَكَانَ اِبْتِدَاؤُهَا مَعَ الصَّوْم وَكَأَنَّهُ قَالَ اِحْتَجَمَ فِي الْيَوْم الَّذِي كَانَ صَائِمًا فِيهِ وَلَا يَدُلّ ذَلِكَ عَلَى اِسْتِمْرَار الصَّوْم أَصْلًا
وَلِهَذَا نَظَائِر مِنْهَا حَدِيث الَّذِي وَقَعَ عَلَى اِمْرَأَته وَهُوَ صَائِم وَقَوْله فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَعْت عَلَى اِمْرَأَتِي وَأَنَا صَائِم وَالْفُقَهَاء وَغَيْرهمْ يَقُولُونَ وَإِنْ جَامِع وَهُوَ مُحْرِم وَإِنْ جَامِع وَهُوَ صَائِم
وَلَا يَكُون ذَلِكَ فَاسِدًا مِنْ الْكَلَام فَلَا تُعَطَّل نُصُوص الْفِطْر بِالْحِجَامَةِ بِهَذَا اللَّفْظ الْمُحْتَمَل
وَأَمَّا قَوْله اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِم صَائِم فَلَوْ ثَبَتَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّة لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَا دَلِيل فِيهَا أَيْضًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْد قَوْله أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم فَإِنَّ هَذَا الْقَوْل مِنْهُ كَانَ فِي رَمَضَان سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة عَام الْفَتْح كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث شَدَّاد والنبي أَحْرَمَ بِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَة سَنَة سِتٍّ وَأَحْرَمَ مِنْ الْعَام الْقَابِل بِعُمْرَةِ الْقَضِيَّة وَكِلَا الْعُمْرَتَيْنِ قَبْل ذَلِكَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّة عَام الْفَتْح وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ثُمَّ حَجّ حَجَّة الْوَدَاع فَاحْتِجَامه وَهُوَ صَائِم مُحْرِم لَمْ يُبَيِّن فِي أَيّ إِحْرَامَاتِهِ كَانَ وَإِنَّمَا تُمْكِن دَعْوَى النَّسْخ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ فِي حَجَّة الْوَدَاع أَوْ فِي عُمْرَة الْجِعْرَانَة حَتَّى يَتَأَخَّر ذَلِكَ عَنْ عَام الْفَتْح قَالَ فِيهِ أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم وَلَا سَبِيل إِلَى بَيَان ذَلِكَ
وَأَمَّا رواية بن عباس له وهو ممن صحب النبي بَعْد الْفَتْح فَلَا نُثِير ظَنًّا فَضْلًا عَنْ النسخ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
به فإن بن عباس لم يقل شهدت رسول الله وَلَا رَأَيْته فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا رَوَى ذَلِكَ رِوَايَة مُطْلَقَة وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّ أَكْثَر رِوَايَات بن عَبَّاس إِنَّمَا أَخَذَهَا مِنْ الصَّحَابَة وَاَلَّذِي فِيهِ سماعه من النبي لَا يَبْلُغ عِشْرِينَ قِصَّة كَمَا قَالَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ الْحُفَّاظ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ بن عَبَّاس لَمْ يَرْوِ هَذَا عَنْ صَحَابِيّ آخَر كأكثر رواياته وقد روى بن عَبَّاس أَحَادِيث كَثِيرَة مَقْطُوع بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعهَا من النبي وَلَا شَهِدَهَا وَنَحْنُ نَقُول إِنَّهَا حُجَّة لَكِنْ لَا نُثْبِت بِذَلِكَ تَأَخُّرهَا وَنَسْخهَا لِغَيْرِهَا مَا لَمْ يُعْلَم التَّارِيخ
وَبِالْجُمْلَةِ فَدَعْوَى النَّسْخ إِنَّمَا تَثْبُت بِشَرْطَيْنِ أَحَدهمَا تَعَارُض الْمُفَسَّر وَالثَّانِي الْعِلْم بِتَأَخُّرِ أَحَدهمَا
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَسْأَلَتِنَا بَلْ مِنْ الْمَقْطُوع بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة لَمْ تَكُنْ فِي رَمَضَان فَإِنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحْرِم فِي رَمِضَانِ فَإِنَّ عُمَرَهُ كُلَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَة وَفَتْح مَكَّة كَانَ فِي رَمَضَان وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فَغَايَتهَا فِي صَوْم تَطَوُّع فِي السَّفَر وَقَدْ كَانَ آخر الأمرين من رسول الله الْفِطْر فِي السَّفَر وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَة عَام الْفَتْح صَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيد ثُمَّ أَفْطَرَ وَالنَّاس يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُحْفَظ عَنْهُ أَنَّهُ صَامَ بَعْد هَذَا فِي سَفَر قَطُّ وَلَمَّا شَكَّ الصَّحَابَة فِي صِيَامه يَوْم عَرَفَة أَرْسَلُوا أُمّ الْفَضْل إِلَيْهِ بِقَدَحٍ فَشَرِبَهُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فَقِصَّة الِاحْتِجَام وَهُوَ صَائِم مُحْرِم إِمَّا غَلَط كَمَا قَالَ الْإِمَام أَحْمَد وَغَيْره وَإِمَّا قَبْل الْفَتْح قَطْعًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُعَارَض بِهَا قَوْله عَام الْفَتْح أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم
وَعَلَى هَذَا فَحَدِيث بن عَبَّاس إِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحِجَامَة لَا تفطر أَوْ لَا يَدُلّ
فَإِنْ لَمْ يَدُلّ لَمْ يَصْلُح لِلنَّسْخِ
وَإِنْ دَلَّ فَهُوَ مَنْسُوخ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيث شَدَّاد فَإِنَّهُ مُؤَرَّخ بِعَامِ الفتح فهو متأخر عن إحرام النبي صَائِمًا وَتَقْرِيره مَا تَقَدَّمَ
وَهَذَا الْقَلْب فِي دَعْوَى كَوْنه مَنْسُوخًا أَظْهَر مِنْ ثُبُوت النَّسْخ بِهِ
وَعِيَاذًا بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ مُقَلِّد عَصَبِيٍّ يَرَى الْعِلْم جَهْلًا وَالْإِنْصَاف ظُلْمًا وَتَرْجِيح الرَّاجِح عَلَى الْمَرْجُوح عُدْوَانًا
وَهَذَا الْمَضَايِق لَا يُصِيب السَّالِك فِيهَا إِلَّا مَنْ صَدَقَتْ فِي الْعِلْم نِيَّته وَعَلَتْ هِمَّته
وَأَمَّا مَنْ أَخْلَدَ إِلَى أَرْض التَّقْلِيد وَاسْتَوْعَرَ طَرِيق التَّرْجِيح فَيُقَال لَهُ مَا هَذَا عُشُّك فَادْرُجِي
قَالُوا وَأَمَّا حَدِيث أَنَس فِي قِصَّة جَعْفَر فَجَوَابنَا عَنْهُ مِنْ وُجُوه أَحَدهَا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَة خَالِد بْن مخلد عن بن الْمُثَنَّى قَالَ الْإِمَام أَحْمَد خَالِد بْن مُخَلَّد لَهُ مَنَاكِير
قَالُوا وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مِنْ مَنَاكِيره أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَد مِنْ أَهْل الْكُتُب الْمُعْتَمَدَة لَا أَصْحَاب الصَّحِيح وَلَا أَحَد مِنْ أَهْل السُّنَن مَعَ شُهْرَة إِسْنَاده وَكَوْنه فِي الظَّاهِر عَلَى شَرْط الْبُخَارِيِّ وَلَا اِحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مَعَ حَاجَته إِلَى إِثْبَات النَّسْخ حَتَّى سَلَكَ ذَلِكَ الْمَسْلَك في حديث بن عَبَّاس فَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ أَظْهَر دَلَالَة وَأَبْيَن فِي حُصُول النَّسْخ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالُوا وَأَيْضًا فَجَعْفَر إِنَّمَا قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَة عَام خَيْبَر أَوْ آخِر سَنَة سِتّ وَأَوَّل سَنَة سَبْع وَقِيلَ عَام مُؤْتَة قَبْل الْفَتْح ولم يشهد الفتح فصام مع النبي رمضانا واحدا سنة سبع وقول النبي أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم بَعْد ذَلِكَ فِي الْفَتْح سَنَة ثَمَان فَإِنْ كَانَ حَدِيث أَنَس مَحْفُوظًا فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ التَّرْخِيص وَقَعَ بَعْد عَام الْفَتْح وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ التَّرْخِيص وَقَعَ بَعْد قِصَّة جَعْفَر وَعَلَى هَذَا فَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّرْخِيص وَقَوْله فِي الْفَتْح أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم أَيّهمَا هُوَ الْمُتَأَخِّر وَلَوْ كَانَ حَدِيث أَنَس قَدْ ذَكَر فِيهِ التَّرْخِيص بَعْد الْفَتْح لَكَانَ حُجَّة وَمَعَ وُقُوع الشَّكِّ فِي التَّارِيخ لَا يَثْبُت النَّسْخ
قَالُوا وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يُبَيِّن أَنَّ هَذَا لَا يَصِحّ عَنْ أَنَس مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحه عَنْ ثَابِت قَالَ سُئِلَ أَنَس أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَة لِلصَّائِمِ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ أَجْل الضَّعْف وَفِي رِوَايَة على عهد النبي فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَنَسًا لَمْ تَكُنْ عنده رواية عن النبي أَنَّهُ فَطَّرَ بِهَا وَلَا أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهَا بَلْ الَّذِي عِنْده كَرَاهَتهَا مِنْ أَجْل الضَّعْف وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيّ رَخَّصَ فِيهَا بَعْد الْفِطْر بِهَا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُجِيب بِهَذَا مِنْ رَأْيه وَلَمْ يَكْرَه شَيْئًا رَخَّصَ فِيهِ رسول الله
وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّ أَهْل الْبَصْرَة أَشَدّ النَّاس فِي التَّفْطِير بِهَا
وَذَكَر الْإِمَام أَحْمَد وَغَيْره أَنَّ أَهْل الْبَصْرَة كَانُوا إِذَا دَخَلَ شَهْر رَمَضَان يُغَلِّقُونَ حَوَانِيت الْحَجَّامِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مذهب الحسن وبن سِيرِينَ إِمَامَيْ الْبَصْرَة أَنَّهُمَا كَانَا يُفَطِّرَانِ بِالْحِجَامَةِ مَعَ أَنَّ فَتَاوَى أَنَس نُصْب أَعْيُنهمْ وَأَنَس آخِر مِنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنْ الصَّحَابَة فَكَيْف يكون عند أنس أن النبي رَخَّصَ فِي الْحِجَامَة لِلصَّائِمِ بَعْد نَهْيه عَنْهُمَا وَالْبَصْرِيُّونَ يَأْخُذُونَ عَنْهُ وَهُمْ عَلَى خِلَاف ذَلِكَ
وَعَلَى الْقَوْل بِالْفِطْرِ بِهَا لَا سِيَّمَا وَحَدِيث أَنَس فِيهِ أَنَّ ثَابِتًا سَمِعَهُ مِنْهُ وَثَابِت مِنْ أَكْبَر مَشَايِخ أَهْل الْبَصْرَة وَمِنْ أَخَصَّ أَصْحَاب الْحَسَن فَكَيْف تَشْتَهِر بَيْن أَهْل الْبَصْرَة السُّنَّة الْمَنْسُوخَة وَلَا يَعْلَمُونَ النَّاسِخَة وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا وَلَا تُعْرَف بَيْنهمْ وَلَا يَتَنَاقَلُونَهَا بَلْ هُمْ عَلَى خِلَافهَا هَذَا مُحَال
قَالُوا وَأَيْضًا فَأَبُو قِلَابَة مِنْ أَخَصَّ أَصْحَاب أَنَس وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي قَوْله أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم مِنْ طَرِيق أَبِي أَسْمَاء عَنْ ثَوْبَان وَمِنْ طَرِيق أَبِي الْأَشْعَث عَنْ شَدَّاد
وَعَلَى حَدِيثه اِعْتَمَدَهُ أَئِمَّة الْحَدِيث وَصَحَّحُوهُ وَشَهِدُوا أَنَّهُ أَصَحّ أَحَادِيث الْبَاب
فَلَوْ كَانَ عِنْد أَنَس عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تَنْسَخ ذَلِكَ لَكَانَ أَصْحَابه أَعْلَم بِهَا وَأَحْرَص عَلَى رِوَايَتهَا مِنْ أَحَادِيث الْفِطْر بِهَا
وَاَللَّه أَعْلَم
قَالُوا وَأَمَّا حَدِيث أَبِي سَعِيد فَجَوَابه مِنْ وُجُوه أَحَدهَا أَنَّهُ حَدِيث قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَيْهِ فَرَوَاهُ أَبُو الْمُتَوَكِّل عَنْهُ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَرَفَعَهُ الْمُعْتَمِر عَنْ حُمَيْد عَنْ أَبِي المتوكل ووقفه بشر وإسماعيل وبن أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْد وَوَقَفَهُ أَبُو نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد وَأَبُو نضرة مِنْ أَرْوَى النَّاس عَنْهُ وَأَعْلَمهُمْ بِحَدِيثِهِ
وَوَقَفَهُ قَتَادَة عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّل فَالْوَاقِفُونَ لَهُ أَكْثَر وَأَشْهَر فَالْحُكْم لَهُمْ عِنْد الْمُحَدِّثِينَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الثَّانِي أَنَّ ذِكْر الْحِجَامَة فِيهِ لَيْسَ مِنْ كلام النبي
قال بن خُزَيْمَة الصَّحِيح أَنَّ ذِكْرَ الْحِجَامَة فِيهِ مِنْ كَلَام أَبِي سَعِيد وَلَكِنَّ بَعْض الرُّوَاة أَدْرَجَهُ فِيهِ
الثَّالِث أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَان لِلتَّارِيخِ وَلَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْخِيص كَانَ بَعْد الْفَتْح وَقَوْلكُمْ إِنَّ الرُّخْصَة لَا تَكُون إِلَّا بَعْد النَّهْي بَاطِل بِنَفْسِ الْحَدِيث فَإِنَّ فيه رخص رسول الله فِي الْقُبْلَة لِلصَّائِمِ وَلَمْ يَتَقَدَّم مِنْهُ نَهْيٌ عَنْهَا
وَلَا قَالَ أَحَد إِنَّ هَذَا التَّرْخِيص فِيهَا نَاسِخ لِمَنْعٍ تَقَدَّمَ
وَفِي الْحَدِيث إِنَّ الْمَاء مِنْ الْمَاء
كَانَتْ رُخْصَة فِي أَوَّل الْإِسْلَام فَسَمَّى الْحُكْم الْمَنْسُوخ رُخْصَة مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّم حَظْره بَلْ الْمَنْع مِنْهُ مُتَأَخِّر
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَآخِذ لَا تُعَدّ مُقَاوِمَة لِأَحَادِيث الْفِطْر وَلَا تَأَخَّرَتْ عَنْهَا فَكَيْف تُنْسَخ بِهَا قَالُوا وَأَمَّا جَوَابكُمْ الثَّالِث بِأَنَّ الْفِطْر فِيهَا لَمْ يَكُنْ لِلْحِجَامَةِ وَذِكْرُ الْحَاجِم لِلتَّعْرِيفِ الْمَحْض كَزَيْدٍ وَعُمَر فِي غَايَة الْبُطْلَان مِنْ وُجُوه أَحَدهَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّن الْإِبْهَام وَالتَّلْبِيس بِأَنْ يَذْكُر وَصْفًا يُرَتِّب عَلَيْهِ الْحُكْم وَلَا يَكُون لَهُ فِيهِ تَأْثِير الْبَتَّة
الثَّانِي أَنَّ هَذَا يُبْطِل عَامَّة أَحْكَام الشَّرْع الَّتِي رَتَّبَهَا عَلَى الْأَوْصَاف إِذَا تَطَرَّقَ إِلَيْهَا هَذَا الْخَيَال وَالْوَهْم الْفَاسِد كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا} {وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَة} وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَيْسَ بِأَيْدِينَا إِلَّا أوصاف رتبت عليها الأحكام
فإن جار أَنْ تَكُون تِلْكَ الْأَوْصَاف لِلتَّعْرِيفِ لَا لِلتَّعْلِيلِ بَطَلَتْ الْأَحْكَام
الثَّالِث أَنَّهُ لَا يَفْهَم قَطّ أَحَد لَا مِنْ الْخَاصَّة وَالْعَامَّة مِنْ قَوْل القائل القاتل لا يرث والعبد لا يرث والكافر لا يرث والقاذف لا تقبل شهادته والمحدث لَا تَصِحّ صَلَاته وَأَمْثَال ذَلِكَ إِلَّا تَعَلُّق الأحكام تلك الْأَوْصَاف وَلِهَذَا لَا يَحْسُن ذِكْرُ وَصْفٍ لَا تَأْثِير لَهُ فِي الْحُكْم كَمَا لَوْ قَالَ أَفْطَرَ الْخَيَّاط وَالْمَخِيط لَهُ وَأَفْطَرَ الْحَامِل وَالْمَحْمُول لَهُ وَأَفْطَرَ الشَّاهِد وَالْمَشْهُود لَهُ وَمَنْ قَالَ هَذَا عُدَّ كَلَامُهُ سُخْفًا وَتَعَجَّبَ النَّاس مِنْ قَوْله فَكَيْف يُضَاف ذَلِكَ إِلَى الشَّارِع سُبْحَانك هَذَا بُهْتَان عَظِيم
الرَّابِع أَنَّ هَذَا قَدْحٌ فِي أَفْهَام الصَّحَابَة الَّذِينَ هُمْ أَعْرَف النَّاس وَأَفْهَم النَّاس بِمُرَادِ نَبِيّهمْ صلى الله عليه وسلم وَبِمَقْصُودِهِ مِنْ كَلَامه وَقَدْ قَالَ أَبُو مُوسَى لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ أَلَا تَحْتَجِم نَهَارًا أَتَأْمُرُنِي أَنْ أُهْرِيقَ دَمِي وَأَنَا صَائِم وَقَدْ سمعت رسول الله يَقُول أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم وَاَلَّذِينَ فَطَّرُوا بِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَة كَعَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرهمْ إِنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ وَكَانَ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة لَا يَحْتَجِمُونَ فِي الصِّيَام إِلَّا لَيْلًا مِنْهُمْ عَبْد الله بن عمرو وبن عَبَّاس وَأَبُو مُوسَى وَأَنَس وَيَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْخَامِس أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّن تَعْلِيق الْحُكْم وَهُوَ الْفِطْر بِوَصْفٍ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْحَدِيث أَصْلًا وَإِبْطَال تَعْلِيقه بِالْوَصْفِ الَّذِي عَلَّقَهُ بِهِ الشَّارِع وَهَذَا مِنْ أَبْطَلَ الْبَاطِل
السَّادِس أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ وَحَاشَا لِلَّهِ فِي قَوْله أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم فَكَيْف يَصِحّ ذَلِكَ فِي حَدِيث أَنَس الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ عُمْدَتكُمْ فِي الْبَاب وَهُوَ قَوْله لِجَعْفَرٍ وَقَدْ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَحْتَجِم أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْحِجَامَة بَعْد وَفِي قَوْله نَهَى عَنْ الْحِجَامَة وَلَمْ يُحَرِّمهَا
السَّابِع أَنَّهُ كَيْف يَتَّفِق بِضْعَة عَشَر صَحَابِيًّا عَلَى رِوَايَة أَحَادِيث كُلّهَا مُتَّفِقَة بِلَفْظِ واحد ويكون النبي قَدْ ذَكَر الْحِجَامَة فِيهَا وَلَا تَأْثِير لَهَا فِي الْفِطْر وَكُلّهمْ يَقُول أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم الثَّامِن أَنَّهُ كَيْف يَجُوز لِلصَّحَابَةِ أَنَّ يُفْتُوا بِذَلِكَ وَيَقُولُوا أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم أَفَتَرَى اِسْتَمَرَّ التَّعْرِيف بِذَلِكَ دَائِمًا وَدَفَعَ الْأَحَادِيث مَتَى وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدّ سَاءَ وَقَبُحَ جِدًّا التَّاسِع أَنَّا نَقُول نَعَمْ هُوَ لِلتَّعْرِيفِ بِلَا شَكٍّ فَإِنَّ أَحْكَام الشَّارِع إِنَّمَا تُعْرَف بِالْأَوْصَافِ وَتُرْبَط بِهَا وَتَعُمّ الْأُمَّة لِأَجْلِهَا فَالْوَصْف فِي الْحَدِيث الْمَذْكُور لِتَعْرِيفِ حُكْمه وَأَنَّهُ مُرْتَبِط بِهَذَا الْوَصْف مَنُوط بِهِ
الْعَاشِر أَنَّ صَاحِب الْقِصَّة الَّتِي جرت له قال مر على النبي وَأَنَا أَحْتَجِم فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم فَلَوْ كَانَ فِطْره بِغَيْرِ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ لَهُ الشَّارِع لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَخْفَ عُلَى الصَّحَابِيّ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَذِكْره الْحِجَامَة مَعْنَى
وَتَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت الْحَاجَة لَا يَجُوز فَكَيْف يَتْرُك الشَّارِع بَيَان الْوَصْف الْمُفْطِر فَلَا يُبَيِّنُهُ لِلْمُكَلَّفِ وَيَذْكُر لَهُ وَصْفًا لَا يُفْطِر بِحَالٍ وَأَمَّا قَوْلهمْ إِنَّ الْفِطْر بِالْغِيبَةِ
فَهَذَا بَاطِل مِنْ وُجُوه أَحَدهَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُت وَإِنَّمَا جَاءَ فِي حَدِيث وَاحِد مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيث وَهُمَا يَغْتَابَانِ النَّاس مَعَ أَنَّهَا زِيَادَة بَاطِلَة
الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ الْأَخْذ لِعُمُومِ اللَّفْظ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْحُكْم دُون الْغِيبَة الَّتِي لَمْ يُعَلِّق بِهَا الْحُكْم
الثَّالِث أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ صَحِيحًا لَكَانَ مُوجِب الْبَيَان أَنْ يَقُول أَفْطَر الْمُغْتَابَانِ عَلَى عَادَتِهِ وَعَرَّفَهُ مِنْ ذِكْر الْأَوْصَاف الْمُؤَثِّرَة دُون غَيْرهَا فَكَيْف يَعْدِل عَنْ الْغِيبَة الْمُؤَثِّرَة إِلَى الْحِجَامَة الْمُهْدَرَة الرَّابِع أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّن حَمْل الْحَدِيث عَلَى خِلَاف الْإِجْمَاع وَتَعْطِيله فَإِنَّ الْمُنَازِع لَا يَقُول بِأَنَّ الْغِيبَة تُفْطِر فَكَيْف نَحْمِل الْحَدِيث عَلَى مَا نَعْتَقِد بُطْلَانه الْخَامِس أَنَّ سِيَاق الْأَحَادِيث يُبْطِل هَذَا التَّأْوِيل كَمَا تَقَدَّمَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
السَّادِس أَنَّ مَعْقِل بْن سِنَان قَالَ مَرَّ بي رسول الله وَأَنَا أَحْتَجِم فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم وَلَمْ يَكُنْ يَغْتَاب أَحَدًا وَلَا جَرَى لِلْغِيبَةِ ذِكْرٌ أَصْلًا
قَالُوا وَأَمَّا الْجَوَاب الْوَاقِع بِأَنَّ أَفْطَر بِمَعْنَى سَيُفْطِرُ فَفَاسِد أَيْضًا لِتَضَمُّنِهِ الْإِيهَام بِخِلَافِ الْمُرَاد وَلِفَهْمِ الصَّحَابَة خِلَافه وَلِاضْطِرَاد هَذَا اللَّفْظ دُون مَجِيئُهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ وَلِشِدَّةِ مُخَالَفَته لِلْوَضْعِ وَلِذِكْرِ الْمَحْجُوم فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَرَّضَ الْمَحْجُوم لِلْفِطْرِ بِالضَّعْفِ فَأَيّ ضَعْف لَحِقَ الْحَاجِم وَكَوْن الْحَاجِم مُتَعَرِّضًا لِابْتِلَاعِ الدَّم وَالْمَحْجُوم مُتَعَرِّضًا لِلضَّعْفِ هَذَا التَّعْلِيل لَا يُبْطِل الْفِطْر بِالْحِجَامَةِ بَلْ هو مقرر للفطر بِهَا وَإِلَّا فَلَا يَجُوز اِسْتِنْبَاط وَصْف مِنْ النَّصّ يَعُود عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ بَلْ هَذَا الْوَصْف إِنْ كَانَ لَهُ تَأْثِير فِي الْفِطْر وَإِلَّا فَالتَّعْلِيل بِهِ بَاطِل
قَالُوا وَأَمَّا الْجَوَاب الْخَامِس أن النبي مَرَّ بِهِمَا مَسَاء
فَقَالَ ذَلِكَ فَمِمَّا لَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل الْحَدِيث عَلَيْهِ وَأَيّ تَأْثِير لِلْحِجَامَةِ بَلْ كُلّ النَّاس قَدْ أَفْطَرُوا أَيْضًا فَهَذَا كَذِبٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا فَقَائِله مُخْبِر بِالْكَذِبِ
وَأَيْضًا فَأَيّ حَاجَة إِلَى قَوْل أَنْسَ ثُمَّ رَخَّصَ بَعْدُ فِي الْحِجَامَة وَأَيْضًا فَأَيّ حَاجَة بِالصَّحَابَةِ أَنْ يُؤَخِّرُوا اِحْتِجَامهمْ إِلَى اللَّيْل وَكَيْف يُفْتُونَ الْأُمَّة بِفِطْرِهِمْ بِأَمْرٍ قَدْ فُعِلَ مَسَاء لَا تَأْثِير لَهُ فِي الْفِطْر وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى الْمُعَافَاة مِنْ رَدِّ الْأَحَادِيث بِمِثْلِ هَذَا الْخَيَالَات وَأَمَّا جَوَابكُمْ السَّادِس أَنَّ هَذَا تَغْلِيظ وَدُعَاء عَلَيْهِمَا لَا أَنَّهُ حُكْم شَرْعِيٌّ فَالْمُجِيب بِهِ كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاء بِالنَّارِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْعَلَا مُحَرَّمًا عِنْدكُمْ وَلَا مُفْطِرًا بَلْ فَعَلَا مَا أَبَاحَهُ لَهُمَا الشَّارِع عِنْدكُمْ فَكَيْف يُغَلِّظ عَلَيْهِمَا وَيَدْعُو عَلَيْهِمَا وَمَتَى عُهِدَ فِي عُرْف الشَّارِع الدُّعَاء عَلَى الْمُكَلَّف بِالْفِطْرِ وَفَسَاد الْعِبَادَة وَسَائِر الْوُجُوه الْمُتَقَدِّمَة تُبْطِل هَذَا أَيْضًا
وَأَمَّا جَوَابكُمْ السَّابِع بِأَنَّ الْمُرَاد إِبْطَال أَجْر صَوْمهمَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّكُمْ لَا تُبْطِلُونَ أَجْرهمَا بِذَلِكَ وَلَا تُحَرِّمُونَ الْحِجَامَة ثُمَّ لَوْ كَانَ الْمُرَاد إِبْطَال الْأَجْر لَكَانَ ذَلِكَ مُقَرِّرًا لِفَسَادِ الصَّوْم لَا لِصِحَّتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْر يَتَضَمَّن بُطْلَان أَجْرهمَا لُزُومًا وَاسْتِنْبَاطًا وَبُطْلَان صَوْمهمَا صَرِيحًا وَنَصًّا فَكَيْف يُعَطَّل مَا دَلَّ عَلَيْهِ صريحه ويعتبر ما استنبطه منه مع أنه لَا مُنَافَاة بَيْنه وَبَيْن الصَّرِيح بَلْ الْمَعْنَيَانِ حَقّ قَدْ بَطَل صَوْمهمَا وَأَجْرهمَا إِذَا كَانَتْ الْحِجَامَة لِغَيْرِ مَرَضٍ
وَأَمَّا جَوَابكُمْ الثَّامِن أَنَّ الْأَحَادِيث لَوْ قُدِّرَ تَعَارُضهَا لَكَانَ الْأَخْذ بِأَحَادِيث الرُّخْصَة أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهَا الْقِيَاس فَجَوَابه أَوَّلًا أَنَّ الْأَحَادِيث بِحَمْدِ اللَّه لَيْسَتْ مُتَعَارِضَة وَقَدْ بَيَّنَا أَنَّهُ لَا مُعَارِض لِأَحَادِيث الْمَنْع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَيُقَال ثَانِيًا لَوْ قُدِّرَ تَعَارُضهَا فَالْأَخْذ بِأَحَادِيث الْفِطْر مُتَعَيَّن لِأَنَّهَا نَاقِلَة عَنْ الْأَصْل وَأَحَادِيث الْإِبَاحَة مُوَافِقَة لِمَا كَانَ الْأَمْر عَلَيْهِ قَبْل جَعْلهَا مُفْطِرَة وَالنَّاقِل مُقَدَّم عَلَى الْمُبْقِي
وَيُقَال ثَالِثًا لَيْسَ فِي أَحَادِيث الرُّخْصَة لَفْظ صَرِيح وَإِنَّمَا غَايَتهَا أَنْ تَكُون فِعْلًا مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فَكَيْف تُقَدَّم عَلَى الْقَوْل الصَّرِيح وَيُقَال رَابِعًا أَحَادِيث الْفِطْر صَرِيحَة مُتَعَدِّدَة الطُّرُق رواها عن النبي أَرْبَعَة عَشْر نَفْسًا وَسَاقَ الْإِمَام أَحْمَد أَحَادِيثهمْ كُلّهَا وَهُمْ رَافِع بْن خَدِيج وَثَوْبَان وَشَدَّاد بْن أَوْس وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَبِلَال وَأُسَامَة بْن زَيْد وَمَعْقِل بْن سِنَان وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَأَبُو زيد الأنصاري وأبو موسى الأشعري وبن عباس وبن عُمَر فَكَيْف يُقَدَّم عَلَيْهَا أَحَادِيث هِيَ بَيْن أَمْرَيْنِ صَحِيح لَا دَلَالَة فِيهِ أَوْ مَا فِيهِ دَلَالَة وَلَكِنْ هُوَ غَيْر صَحِيح وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَام عَلَى الْأَحَادِيث وَبَيَّنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَدِيث وَاحِد يَصْلُح لِلْمُعَارَضَةِ
وَعَلَى هَذَا فَالْقِيَاس الَّذِي أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ فَاسِد الِاعْتِبَار
ثُمَّ نَقُول بَلْ الْقِيَاس مِنْ جَانِبنَا لِأَنَّ الشَّارِع عَلَّقَ الْفِطْر بِإِدْخَالِ مَا فِيهِ قِوَام الْبَدَن مِنْ الطَّعَام وَالشَّرَاب وَبِإِخْرَاجِهِ
مِنْ الْقَيْء وَاسْتِفْرَاغ الْمَنِيّ وَجَعَلَ الْحَيْض مَانِعًا مِنْ الصَّوْم لِمَا فِيهِ مِنْ خُرُوج الدَّم الْمُضْعِف لِلْبَدَنِ
قَالُوا فَالشَّارِع قَدْ نَهَى الصَّائِم عَنْ أَخْذ مَا يُعِينهُ وَعَنْ إِخْرَاج مَا يُضْعِفهُ وَكِلَاهُمَا مَقْصُود لَهُ لِأَنَّ الشَّارِع أَمَرَ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَات وَلَا سِيَّمَا فِي الصَّوْم وَلِهَذَا أَمَرَ بِتَعْجِيلِ الْفُطُور وَتَأْخِير السُّحُور فَلَهُ قَصْد فِي حِفْظ قُوَّة الصَّائِم عَلَيْهِ كَمَا لَهُ قَصْد فِي مَنْعه مِنْ إِدْخَال الْمُفْطِرَات وَشَاهِده الْفِطْر بِالْقَيْءِ وَالْحَيْض وَالِاسْتِمْنَاء فَالْحِجَامَة كَذَلِكَ أو أَوْلَى وَلَيْسَ مَعَنَا فِي الْقَيْء مَا يُمَاثِل أَحَادِيث الْحِجَامَة فَيَكْفِ يُفْطِر بِهِ دُون الْحِجَامَة مَعَ أَنَّ الْفِطْر بِهَا أَوْلَى مِنْهُ نَصًّا وَقِيَاسًا وَاعْتِبَارًا
قَالُوا وَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْن الْغَالِب مِنْهُمَا وَالْمُسْتَدْعَى فَلَا يُفْطِر إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْء كَمَا لَا يُفْطِر بِالرُّعَافِ وَخُرُوج الدَّم مِنْ الدمل والجرح وكما يفطر الاستقاء عَمْدًا كَذَلِكَ يُفْطِر بِإِخْرَاجِ الدَّم عَمْدًا بِالْحِجَامَةِ
قَالُوا وَشَاهِده أَنَّ دَم الْحَيْض لَمَّا كَانَ يَجْرِي فِي وَقْت وَيَنْقَطِع فِي وَقْت جَعَلَ الشَّارِع صَوْمهَا فِي وَقْت الطُّهْر مُغْنِيًا عَنْ صَوْمهَا وَقْت الدَّم وَلَمَّا كَانَ دَم الِاسْتِحَاضَة لَا ضَابِط لَهُ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَمِرّ جَوَّزَ لَهَا الصَّوْم مَعَ جَرَيَانه كَصَاحِبِ الرُّعَاف وَنَحْوه فَلَيْسَ الْقِيَاس إِلَّا مَعَ النُّصُوص يَدُور مَعَهَا حَيْثُ دَارَتْ
وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ ذَلِكَ عَلَى الْفِصَاد ونحوه
فتقول
كُلِّ حَالٍ تَجَنُّبُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ أَوْلَى فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ عَلَى الْمَجَازِ لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
(إِلَّا كَرَاهِيَةَ الْجَهْدِ) أَيِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ شَبَابَةُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحِجَامَة تُفْطِر لَهُمْ فِيهَا أَرْبَعَة أَقْوَال أَحَدهَا أَنَّ الْمُحْتَجِم يُفْطِر وَحْده دُون الْحَاجِم وَهَذَا ظَاهِر كَلَام الْخِرَقِيّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُفْطِرَات لَوْ اِحْتَجَمَ وَلَمْ يَقُلْ أَوْ حُجِمَ
الثَّانِي وَهُوَ مَنْصُوص الْإِمَام أَحْمَد أَنَّهُ يفطر كُلّ مِنْهُمَا وَهَذَا قَوْل جُمْهُور أَصْحَابه الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ
ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي التَّشْرِيط وَالْفِصَاد عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال أَحَدهَا أَنَّهُ لَا يُفْطِر بِهِمَا
الثَّانِي يُفْطِر بِهِمَا
الثَّالِث يُفْطِر بِالتَّشْرِيطِ دُون الْفِصَاد لِأَنَّ التَّشْرِيط عِنْدهمْ كَالْحِجَامَةِ
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّشْرِيط وَالْفِصَاد
أَيّهمَا أَوْلَى بِالْفِطْرِ وَالصَّوَاب الْفِطْر بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَاد وَالتَّشْرِيط وَهُوَ اِخْتِيَار شَيْخنَا أَبِي الْعَبَّاس بْن تَيْمِيَّةَ وَاخْتِيَار صَاحِب الْإِفْصَاح لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَوْجُود فِي الْحِجَامَة مَوْجُود فِي الْفِصَاد طَبْعًا وَشَرْعًا وَكَذَلِكَ فِي التَّشْرِيط وَقَدْ بَيَّنَا أَنَّ الْفِطْر بِالْحِجَامَةِ هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاس وَلَا فَرْق فِي ذَلِكَ بَيْن الْفِصَاد وَالتَّشْرِيط فَبِأَيِّ وَجْه أَخْرَجَ الدَّم أَفْطَرَ بِهِ كَمَا يُفْطِر بِالِاسْتِقَاءِ بِأَيِّ وَجْه اسْتَقَاء إِمَّا بِإِدْخَالِ يَده فِي فِيهِ أَوْ بِشَمِّهِ مَا يَقِيئهُ أَوْ بِوَضْعِ يَده عَلَى بَطْنه وَتَطَامُنِه وَغَيْر ذَلِكَ فَالْعِبْرَة بِخُرُوجِ الدَّم عَمْدًا لَا بِكَيْفِيَّةِ الْإِخْرَاج كَمَا اِسْتَوَى خُرُوج الدَّم بِذَلِكَ فِي إِفْسَاد الصَّلَاة وَنَقْضِ الطَّهَارَة عِنْد الْقَائِلِينَ بِهِ
وَبِهَذَا يَتَبَيَّن تَوَافُق النُّصُوص وَالْقِيَاس وَشَهَادَة أُصُول الشَّرْع وَقَوَاعِده وَتَصْدِيق بَعْضهَا بَعْضًا
فَإِنْ قِيلَ فهب أن هذا يتأتى لكم في الهجوم فَمَا الْمُوجِب لِفِطْرِ الْحَاجِم قُلْنَا لَمَّا كَانَ الْحَاجِم يَجْتَذِب الْهَوَاء الَّذِي فِي الْقَارُورَة بِامْتِصَاصِهِ الْهَوَاء يَجْتَذِب مَا فِيهَا مِنْ الدَّم فَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَ الْهَوَاء شَيْء مِنْ الدَّم وَدَخَلَ فِي حَلْقه وَهُوَ لَا يَشْعُر وَالْحِكْمَة إِذَا كَانَتْ خَفِيَّة عُلِّقَ الْحُكْم بِمَظِنَّتِهَا كَمَا أَنَّ النَّائِم لَمَّا كَانَ قَدْ يَخْرُج مِنْهُ الرِّيح وَلَا يَشْعُر بِهَا عُلِّقَ الْحُكْم بِالْمَظِنَّةِ وَهُوَ النَّوْم وَإِنْ لَمْ يَخْرُج مِنْهُ رِيح
فَإِنْ قِيلَ فَطَرْد هَذَا أَنْ لَا يُفْطِر الشَّارِط
قُلْنَا نَعَمْ وَلَا الْحَاجِم الَّذِي يَشْرِط وَلَا يَمُصّ أَوْ يَمُصّهُ مُفْطِر غَيْره وَلَيْسَ فِي هذا مخالفة للنص فإن كلام النبي خَرَجَ عَلَى الْحَاجِم الْمُعْتَاد وَهُوَ الَّذِي يَمُصّ الدَّم وَكَلَامه إِنَّمَا يَعُمّ الْمُعْتَاد فَاسْتِعْمَال اللَّفْظ فِيهِ بِقَصْرِهِ عَلَى الْحَاجِم الْمُعْتَاد لَا يَكُون تَعْطِيلًا لِلنَّصِّ وَاَللَّه أَعْلَم