الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فُجِعَ بولده ويخاف أن يضعف صبرُه
المجيب خالد بن حسين بن عبد الرحمن
باحث شرعي.
التصنيف الفهرسة/ الاستشارات/ استشارات دعوية وإيمانية/ قضايا إيمانية/الصبر
التاريخ 19/11/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
توفي لي ولد، وكنت أحبه حباً جما، فتصبرت طمعاً في الأجر من الله، والله لا يخلف الميعاد، لكن بعد مرور ثلاثة أو أربعة أشهر على وفاته أخذت تنتابني موجات من الحزن العميق كلما ذكرته، وأمور لا أستطيع وصفها حتى إنني أتمنى الموت حتى أراه، وغالباً ما ألوم نفسي على ذلك، وأخاف أن يذهب أجر الصبر، ولا أعلم إن كان ذلك من الجزع أم هي مجرد عاطفة الأبوة؟ أتحرج كثيرا من الشكوى للمقربين؛ خوفاً من أن يدخل ذلك في الجزع والتذمر من قدر الله. أرجو منكم توجيهي لما يجب عمله.
وفقكم الله لكل خير.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فبداية أقول لك:"إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب" جزء من حديث متفق عليه عند البخاري (6602) ، ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وعن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتقي الله واصبري" فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال:"إنما الصبر عند الصدمة الأولى" متفق عليه عند البخاري (1283) ، ومسلم (926) .
فيا أخي الكريم: اصبر واحتسب ابنك عند الله، فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، قال تعالى:"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"[البقرة:155-157] .
واعلم - وفقني الله وإياك- أنك إذا احتسبت ابنك فسوف يجزيك الله الجزاء الأوفى، أتدري ما هو الجزاء الأوفى؟ إنها الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله - تعالى - ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" أخرجه البخاري (6424) .
أما ما أنت فيه من حزنك على ابنك، وما يعتريك من ألوان الأسى والحزن كلما هبت عليك رياح ذكراه فهذا من الرحمة التي أودعها الله قلوب عباده، فلقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم انظر ما رواه البخاري (1303) ، ومسلم (2315) من حديث أنس رضي الله عنه وعند وفاة بعض بناته، بل عندما رأى ابن ابنة له يجود بنفسه دمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ولما عوتب في ذلك قال صلى الله عليه وسلم "هذه رحمة جعلها الله - تعالى - في قلوب عباده"، وفي رواية "هذه رحمة جعلها الله - تعالى - في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" متفق عليه عند البخاري (1284) ، ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
ولقد بكت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها لما رأت ما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم من سكرات الموت وشدته.
فعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه فقال: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها:"يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب" أخرجه البخاري (4462) .
واعلم كذلك أن في صبرك على وفاة ابنك خير عظيم، عن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" أخرجه مسلم (2999) .
أما كونك تتمنى الموت من أجل أن ترى ابنك، فهذا لا يجوز لك بحال من الأحوال، فقد ورد النهي عن ذلك.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضرِّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي" متفق عليه عند البخاري (5671) ، ومسلم (2680) .
واعلم أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يصب منه" أخرجه البخاري (5645) .
فعليك أخي الحبيب أن تتحلى بالصبر والتسليم لقضاء الله وقدره، فإن في ذلك الخير العظيم والجزاء الكبير لك في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" أخرجه الترمذي (2396) عن أنس رضي الله عنه وقال: حديث حسن.
ولكن إذا اشتد عليك الوجد، وأقبل عليك الحزن، وضاقت عليك الأرض بما رحبت، فعليك بالآتي:
(1)
الجأ إلى الرب - جل وعلا- واسأله أن يرزقك الصبر على ما ابتلاك به، وأن يثبت قلبك ويخلفك خيراً مما فقدت.
(2)
إذا اشتد حزنك لفقد ابنك، فتذكر مصابك بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وصدق من قال:
وهل عدلت يوماً رزية هالك *** رزية يوم مات فيه محمد
وما فقد الماضون مثل محمد *** ولا مثله حتى القيامة يفقد
ولقد أصيب جميع أمته به *** من كان مولوداً ومن لم يولد
والناس كلهم بما قد عالهم*** يرجو شفاعته بذاك المشهد
يا رب فاجمعنا معاً بنبينا *** في جنة تثني عيون الحسد
(3)
إذا تذكرت ابنك وما آل إليه، اعلم بأنك إلى هذا المصير صائر، وإلى تلك النهاية تذهب، وقد صدق الله حيث يقول:"كل نفس ذائقة الموت" الآية [الأنبياء:35] نعم كل نفس ذائقة الموت لا فرق بين صغير وكبير، وعظيم وحقير، ورئيس ومرؤوس، فالكل ذاهب، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، ولقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شيء مما ترى يبقى بشاشته *** يبقى الله ويود المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه *** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له *** والإنس والجن إليه من كل وافد يفد
حوض هناك مورود بلا كذب *** لا بد من ورده يوماً كما وردوا
(4)
عليك دائماً أن تستشعر عظمة الصبر، وما أعده الله للصابرين من الجنة ونعيمها، وهذا مما يهون عليك كثيراً، واعلم أنه من كمال العبودية لله -جل وعلا- الرضا بالقضاء والصبر على البلاء والتسليم لكل ما يجري عليك من الله - جل وعلا- يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى-:(إن للرب على العبد عبوديتان عبودية في الرخاء، وعبودية في الشدة، أما عبودية الرخاء فالشكر، وعبودية الشدة الصبر) ، اهـ.
والصبر هو حبس النفس عن الجزع واللسان عن التسخط، والجوارح عن فعل المحرم من لطم الخدود وشق الجيوب.
(5)
عليك بقراءة سيرة السلف الصالح، وكيف كان حالهم إذا حلَّت بساحتهم المصائب، واعترتهم النكبات.
فقد ثبت في الصحيحين البخاري (5470) ، ومسلم (2144) من حديث أنس رضي الله عنه أنه كان لأبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه ابناً من أم سليم رضي الله عنها،ومرض الغلام مرضاً شديداً، وكان أبو طلحة يتعاهده رضي الله عنه بالسؤال كلما دخل البيت وخرج، وفي يوم من الأيام مات الصبي وأبو طلحة رضي الله عنه خارج البيت، فقالت أم سليم رضي الله عنها: لا تخبروا أبا طلحة رضي الله عنه حتى أكون أول من يخبر به، وجاء أبو طلحة وسأل عن ابنه كعادته، فقالت أم سليم بعد أن دفنت ابنها: هو أهدأ أو أسكن ما يكون، فظن أبو طلحة رضي الله عنه أن الغلام قد عوفي ولم يرد أن يقلقه، وتهيأت أم سليم لزوجها أحسن ما تكون تصنع من قبل، وقربت إليه طعامه، وأصاب منها ما يصيب الرجل من أهله، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب قالت: يا أبا طلحة: أرأيت لو أن قوماً أعار عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، فقالت: إن ابنك كان عارية من الله وقد استرد الله عاريته، فاحتسب ابنك عند الله يا أبا طلحة، فغضب عليها، وقال لها: تركتيني حتى تلطخت ثم تخبريني بأمر ابني؟ وما زالت به رضي الله عنها حتى هدأ وذهب عنه الغضب واسترجع، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، وأخبره بما كان من شأنه وشأن أم سليم رضي الله عنهما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بارك الله لكما في ليلتكما" فحملت أم سليم رضي الله عنها بعد ذلك بولد سموه عبد الله، يقول أحد رواة الحديث: فلقد رأيت من صلب هذا الغلام سبعة أو تسعة كلهم حفظوا القرآن.
هذا الحديث ذكرته بالمعنى لتتضح الصورة، فيا أخي الكريم: احتسب ابنك عند الله، فقد استرد الله عاريته.
(6)
عليك بقراءة كتاب برد الأكباد عند فقد الأولاد، وكذلك كتاب لفتة الكبد عند فقد الولد، للإمام ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -، وكذلك كتاب عندئذ بكى النبي صلى الله عليه وسلم وهو من تأليفي، وقد جمعت فيه معظم المواقف التي أبكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصوصاً عند فقد الأحبة كأولاده، وجده وعمه، وأصحابه رضي الله عنهم، وكذلك عند تذكر الأحبة كأمه، وغير ذلك مما تجده مبسوطاً في الكتاب، وكذلك عليك بسماع شريط: كشف الكربة عند فقد الأحبة، لفضيلة الشيخ: علي القرني - حفظه الله تعالى-.
وأخيراً أسأل المولى جلت قدرته أن يرزقك الصبر على فقد ابنك، وأن يجعله لك ولأمه وجاءً من النار، وأن يأخذ بأيديكما إلى الجنة، وأن يكون فرطاً لك ولأمه على الحوض، وأن يرزقكما خيراً منه زكاة وأقرب رحما..إن ربي لطيف مجيب الدعاء. هذا والله أعلم. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.