الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّالِث: التبصرة والتذكرة، لماذا؟
برز إلى ساحة التأليف تيار جديد في الشعر العربي يدعى "الشعر التعليمي" وَهُوَ نمط من أنماط الشعر يفتقر في معانيه إلى مادة الشعر الأصيلة من الصور والأحاسيس والأخيلة؛ لذا فَهُوَ لا يملك من الشعر إلا اسمه والأوزان والقوافي وقواعد علم العروض، غَيْر أنه في المقابل غني في الجوانب العلمية التي يتناولها، ويمتاز بأن هدفه إيصال فكرة مكثفة بعبارة قصيرة.
ولعل هذِهِ الميزات هِيَ التي دفعت بهذا النمط إلى أرض الوجود، ومن ثَمَّ انتشاره عَلَى ميدان واسع في مجال العلوم، وَهُوَ الغرض نَفْسه الذي دفع بالحافظ العراقي إلى نظم كِتَاب ابن الصَّلاح بهذه الأرجوزة، تسهيلاً لطلاب هَذَا العِلْم في حفظ مباحثه والتعرف عَلَى مَا قِيلَ فِيْهَا.
ولربما كَانَ هناك دافع آخر حدا بالحافظ العراقي لأنْ يضمن مباحث كِتَاب ابن الصَّلاح في أرجوزته، هُوَ مَا وقع فِيهِ ابن الصَّلاح من وهم نتيجة تقليده للحاكم أبي عَبْد الله، وما كَانَ لَهُ من استدراكات عَلَى ابن الصَّلاح كمَّلت جوانب المواضيع، ثُمَّ الجواب عَنِ الاعتراضات التي وجهها بعضهم لابن الصَّلاح، لا سيَّما أن الحافظ العراقي سبق لَهُ أن كتب نكتاً عَلَى كِتَاب ابن الصَّلاح وَهِيَ المشهورة باسم "التقييد والإيضاح "؛ لذا إننا نجد غالب المادة العلمية التي أضافها عَلَى ابن الصَّلاح قَدْ ضمَّنها أرجوزته، فهي حلقة في سبيل تكميل عرض لمباحث هَذَا العِلْم، خالياً -عَلَى قدر الطاقة - من الإخلال والنقص.
المبحث الرابع: اهتمام العُلَمَاء بِهَا
نظراً لما تمتعت به ألفية العراقي من جزالة الأسلوب، وثراء المعاني، وسلاسة الألفاظ، وترتيب الأفكار والموضوعات، فقد أصبحت ديدن طلاب هذا العلم والمشتغلين فيه، لاسيما وقد كان وكْدُ الناظم الأول تلخيص كتابٍ هو العمدة في هذا الباب، ألا وهو كتاب ابن الصلاح.
فلم يكن بدعاً من الأمر أن يتوالى عليها الشراح، ويضعون عصارة أفكارهم، درراً نفيسة تحلي جيدَ الألفية، وتلبسها ثوباً قشيباً تقرُّ به عين ناظمها، ومن ثمَّ عيون
المحبين لهذا العلم الشريف.
ولا غرو هناك أن تختلف طبائع هذه الشروح تبعاً لتمرس الشارح في هذا العلم، وتذوقه لحلاوة النقد والتعليل، والتخريج والتأصيل، وإفادته في المجال العلمي الذي يبرع فِيْهِ، ولعلنا لا نغادر أرض الواقع والحقيقة إذا قلنا: إنَّ شرح الحافظ العراقي من أكثر الشروح أصالة في مادته العلمية، وأوفرها إغناءً لجوانب البحث العلمي، سواء أكان في مجاله الأصيل، أم في المجالات الطارئة الأخرى، لغوية كانت أم نحوية، وسواء أكان توضيحه لتلك المباحث بشكل مطول أم مختزل؟
ثمَّ إن تلك الشروح تختلف طولاً واختصاراً حسب إشباع الشارح للمادة العلمية، وتبعاً لِمَقْدِرَتِهِ، ونحن في صدد عرضنا لأهم شروح الألفية نود التنبيه على أن تحقيقنا لهذا الشرح ليس الأخير في بابه، بل ستصدر قريباً شروح محققة على غرار هذا الشرح - إن شاء الله تعالى -.
وأهم هذه الشروح:
1 -
الشرح الكبير، للناظم الحافظ أبي الفضل زين الدين عبد الرحيم ابن الحسين العراقي (806 هـ)(1).
2 -
الشرح المتوسط، وَهُوَ كِتَاب " شرح التبصرة والتذكرة "(2).
3 -
النكت الوفية بما في شرح الألفية، للبقاعي: إبراهيم بن عمر بن حسن (885هـ)(3).
3 -
شرح ألفية العراقي، لابن العيني زين الدين أبي محمد عبد الرحمان ابن أبي بكر بن محمد الحنفي (893 هـ)(4).
5 -
فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، للحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمان بن محمد السخاوي (902 هـ)(5).
(1) لم يتم المصنِّف هذا الشرح، قال البقاعي في نكته (3 / ب):((لم يوجد منه إلا قطعة يسيرة وصل فيها إلى الضعيف)).
(2)
حققناه في ثلاث مجلدات، وَهُوَ قيد النشر.
(3)
حققت من قبل خبير خليل عبد الكريم-رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
(4)
منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية بالقاهرة (قسم حماية التراث)، برقم (402).
(5)
طبع عدة طبعات، لا تخلو من مقال. وقد أعددناه للطبع على غرار هذا الشرح.
6 -
شرح ألفية الحديث، للحافظ جلال الدين أبي الفضل عبد الرحمان ابن أبي بكر السيوطي (911 هـ)(1).
7 -
فتح الباقي على ألفية العراقي، لقاضي القضاة زين الدين أبي يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنكي ثم القاهري (926 هـ)(2)
8 -
شرح ألفية العراقي، لأمير بادشاه: شمس الدين محمد أمين بن محمود البخاري الحسيني (972 هـ)(3).
9 -
شرح ألفية العراقي، للمناوي: زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين (1031 هـ)(4).
10 -
شرح ألفية العراقي، للأجهوري: نور الدين أبي الإرشاد عَلِيّ بن مُحَمَّد ابن عبد الرحمان بن علي المالكي (1066 هـ)(5).
11 -
نهاية التعريف بأقسام الحديث الضعيف، للدمنهوري: أحمد بن عبد المنعم ابن يوسف بن صيام (1192 هـ)(6).
12 -
شرح ألفية العراقي لابن كيران أبي عبد الله محمد الطيب بن
عبد المجيد بن عبد السلام الفاسي (1227 هـ)(7).
13 -
معراج الراقي لألفية العراقي، للبطاوري: المكي بن محمد بن علي الرباطي (1354 هـ)(8).
(1) حقق من قبل الطالبين عبد الله كريم، وحسن علي لرسالتي ماجستير في جامعة بغداد، وهو قيد الطبع.
(2)
وهو كتابنا هذا وسيأتي الكلام عنه مفصلاً.
(3)
منه نسختان خطيتان في إستانبول، الأولى في مكتبة شهيد علي باشا برقم (340)، والثانية في مكتبة محمد مراد (مراد ملا) برقم (329).
(4)
منه نسخة خطية في مكتبة رشيد الدحداح في برلين برقم (6 1. 83896 Z).
(5)
توجد في إستانبول نسختان خطيتان منه، الأولى في مكتبة حسن حسني برقم (267)، والثانية في مكتبة عاطف أفندي برقم (372).
(6)
شرح فيه مؤلفه أربعة أبيات فقط من الألفية تختص بالضعيف وتقسيماته، ومن الكِتَاب ثلاث نسخ خطية في دار الكتب المصرية بالقاهرة، وأرقامها:(166 تيمور) و (22 م) و (304).
(7)
في مكتبة الخزانة العامة بالرباط (الجلاوي) نسخة خطية منه تحت الرقم (559).
(8)
توجد في الخزانة العامة في الرباط نسختان خطيتان منه، الأولى برقم 3/ 1 / 65 (1821 د) والثانية برقم 3/ 1 / 65 (1851).
المبحث الخامس: الدراسة العروضية لـ" التبصرة "
نظم الحافظ العراقي ألفيته هذه على بحر الرجز ووزنه:
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
…
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
وهو بحرٌ كثيرةٌ أوزانُهُ، متعددةٌ ضروبُهُ، واسعةٌ زحافاتُهُ وهو عَذبُ الوزن واضحه؛ إذ هُوَ من البحور ذات التفعيلة الواحدة مكرَّرُها، كَمَا أن في كثرة زحافاته مجالاً لإرادة التصرف في الكلام، وسعةً في إقامة الجمل؛ إذ ليس بمستطاعٍ لشاعر الإتيان بثلاثة مقاطع قصيرة متتابعة في غير (مُتَعِلُنْ ب ب ب-) إحدى أشكال تفعيلة الرجز (مستفعلن - - ب -)، فضلاً عن أشكال (مُسْتَفْعِلُنْ) الأخرى مثل:(متفعلن ب - ب -) و (مُسْتَعِلنْ - ب ب -) و (مُسْتَفْعِلْ - - -). . . الخ.
وهذا من غَيْر شكّ تارك للناظم الفرصة واسعة في النَّظْم والتصرف في التعبير بحسب متطلبات المَعْنَى، ولَمَّا كَانَ النظم في المتون العلمية في مسيس الحاجة لهكذا سعة في الجوازات، رُئِي أكثرها منظوماً عَلَى هَذَا البحر، هَذَا الأمر الذي أفاد مِنْهُ الحافظ العراقي في نظمه للتبصرة فجاءت عَلَى هَذَا البحر بكل أشكاله وتفعيلاته، بل لا يكاد بيت يشبه سابقاً له أو لاحقاً في وزن أو ضرب لكثرة ما أفاده من هذا التعدد في أشكال البحر، فقد جاء ضرب البيت الأول (مُسْتَعِلُنْ - ب ب -)، والثاني (مَفْعُوْلُنْ - - -)، والثالث (مُتَفْعِلُنْ ب - ب -)، والرابع (فعولن ب - -)، والخامس (مُسْتَفْعِلُنْ - - ب -) وهكذا دواليك، هذه الإفادة من الحافظ تركت له الفرصة واسعة للتعبير على حساب الجمال الصوتي والتناسب بين الأبيات، فقد جاءت بعض الانتقالات بين هذا الشكل أو ذاك قوية ثقيلة تركت تبايناً صوتياً واضحاً في أذن المستمع، وإن كان مثل هذا مغتفراً في المتون العلمية، إذ ليس من وَكْدِ الناظم فيها جمال الإيقاع بقدر تحقيق الدقة العلمية في وزن صحيح مقبول.
وعوداً إلى بحر الرجز وما يحققه من سعة في التصرف ضمن القالب الشعري، فإنّ التقفية الداخلية المستعملة في المتون العلمية تعدّ شكلاً آخر من أشكال الحرية في صياغة العبارة العلمية في قالب شعري، فالقافية التي طالما كانت شكلاً لازماً في القصيدة العربية
تفرض نفسها نمطاً صوتياً يتحكم في صياغة البيت الشعري كلّه، الأمر الذي يفرض على الشاعر نهاية صوتية واجبة التحقيق، فضلاً عن الشكل الشعري الواجب أيضاً، لذلك كان في التقفية الداخلية التي استعملها الحافظ العراقي مجالاً للتخلص من هذا القيد-والذي لا تنكر قيمته الصوتية - لأن الدقة في التعبير العلمي مقدمة على الإبداع الصوتي وهذه التقفية التي حقّقت التوافق ما بين عروض البيت وضربه سهَّلت كثيراً حفظ البيت الشعري.
على أن الحافظ العراقي لم يكتفِ بكل ما أتاحه له بحر الرجز من جوازات ليفيد من مبدأ الضرورة الشعرية بشكل واسع جداً، حتى أصبحت الضرورة شيئاً ثابتاً في أبيات
" التبصرة "، وهذا يدلّل بشكل واضح على تمكن الحافظ وقدرته على الإفادة مما تتيحه اللغة من ضرورات وإن كان في تكرار بعضها في البيت الواحد ثقل كان يمكن تجاوزه، ومن أبرز الضرورات في نظم الحافظ:
1 -
إدراج الهمزة، كقوله (78) (1):
في البابِ غيرهُ فذَاكَ عِنْدَهْ
…
مِنْ رأيٍ اقْوَى قَالَهُ ابنُ مَنْدَهْ
وقوله (139):
مَعْرِفَةُ الرَّاوي بالاخْذِ عَنْهُ
…
وَقِيْلَ: كُلُّ مَا أتانا مِنْهُ
وقوله (153):
تَدْلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ
…
حَدَّثَهُ، وَيَرْتَقِي بِـ (عَنْ) وَ (أنْ)
2 -
تسكين بعض الحروف المتحركة:
كقوله (82):
كَمُسْنَدِ الطَّيَالِسيْ وَأَحْمَدَا
وقوله (162):
وَلِلْخَلِيْلِيْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَطْ
3 -
قصر الممدود:
كقوله (136):
مِنْ دُلْسَةٍ رَاويْهِ، واللِّقَا عُلِمْ
(1) هذا الرقم يمثل تسلسل البيت في المتن.
وقوله (170):
خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلا وَوَضْعِهْ
4 -
صرف الممنوع من الصرف،
كقوله (809):
أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
وقوله (816):
وَقِيْلَ: إِفْرِيْقِيَّةٍ وَسَلَمَهْ
وقد يجمع الحافظ بين ضرورتين في موضع واحد، كقوله (864):
وَاعْنِ بِالاسْمَا والكُنَى وَقَدْ قَسَمْ
والأصل (بالأسماء) فقصر الممدود وأدرج الهمزة.
وقوله (867):
النُّوْنُ فِي أبي قَطَنْ نُسَيْرُ
فقد سكّن النون من (قطنْ) وأدغمها في نون (نسير).
وقد تتوالى الضرورات في شطر واحد مما يولد ثقلاً في قراءة البيت، كقوله:
أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
فقد أدرج الهمزة في موضعين في (أو) الثانية والثالثة مما يجعل البيت مستثقلاً عند قراءته.
وقد يُعَلّق الحافظ رحمه الله معنى البيت بالبيت الذي يليه، وهذه ما يسمى بالتضمين، وهو عيب عند العروضيين، كقوله (7، 8):
فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّمِيْرُ
…
لِوَاحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُوْرُ
كَـ (قَالَ) أو أطْلَقْتُ
…
وقوله (51، 52):