المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: سيرته الذاتية - فتح الباقي بشرح ألفية العراقي - جـ ١

[زكريا الأنصاري]

فهرس الكتاب

- ‌القِسْم الأول: [الدراسة]

- ‌الباب الأول: العراقي، ونظمه "التبصرة والتذكرة

- ‌الفصل الأول: سيرته الذاتية

- ‌المبحث الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، وولادته:

- ‌المبحث الثاني: أسرته:

- ‌المبحث الثالث: نشأته

- ‌المبحث الرابع: مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه

- ‌المبحث الخامس: شيوخه

- ‌المبحث السادس: تلامذته

- ‌المبحث السابع: آثاره العلمية

- ‌المطلب الأول: مؤلفاته فيما عدا الحديث وعلومه

- ‌المطلب الثاني: مؤلفاته في الحديث وعلومه

- ‌المبحث الثامن: وفاته

- ‌الفصل الثَّانِي: " التبصرة والتذكرة

- ‌المبحث الأول: اسمها

- ‌المبحث الثَّانِي: أصلها

- ‌المبحث الرابع: اهتمام العُلَمَاء بِهَا

- ‌الباب الثَّانِي: الأنصاري، وكتابه " فتح الباقي

- ‌الفصل الأول: القَاضِي زكريا الأنصاري

- ‌المبحث الأول: سيرته الذاتية

- ‌المبحث الثاني: سيرته العلمية

- ‌الفصل الثانِي: كتاب " فتح الباقي

- ‌المبحث الأول: منهجه

- ‌المبحث الثانِي: مُميزات الشرح

- ‌الباب الثَّالِث: التحقيق

- ‌الفصل الأول: التعريف بالكتاب

- ‌المبحث الأول: اسم الكتاب

- ‌المبحث الثانِي: توثيق نسبة الكِتَاب إِلَى مؤلفه

- ‌المبحث الثَّالِث: تاريخ إكماله

- ‌الفصل الثانِي: وصف النسخ المعتمدة في التحقيق

- ‌المبحث الأول: النسخ الخطية للشرح

- ‌المبحث الثَّانِي: النسخ الْمطبوعة

- ‌المبحث الثَّالِث: النسخ الخطية لـ" التبصرة والتذكرة

- ‌الفصل الثَّالِث: منهج التحقيق

- ‌صور مخطوطات

- ‌أَقْسَامُ الْحَدِيْثِ

- ‌أَصَحُّ كُتُبِ الْحَدِيْثِ

- ‌الصَّحِيْحُ الزَّائِدُ عَلَى الصَّحِيْحَيْنِ

- ‌الْمُسْتَخْرَجَاتُ

- ‌مَرَاتِبُ الصَّحِيْحِ

- ‌حُكْمُ الصَّحِيْحَيْنِ والتَّعْلِيْق

- ‌نَقْلُ الْحَدِيْثِ مِنَ الكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ

- ‌ الْحَسَنُ

- ‌ الضَّعِيْفُ

- ‌الْمَرْفُوْعُ

- ‌الْمُسْنَدُ

- ‌الْمُتَّصِلُ وَالْمَوْصُوْلُ

- ‌(الموقوفُ

- ‌الْمَقْطُوْعُ

- ‌فُرُوْعٌ

- ‌الْمُرْسَلُ

- ‌الْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ

- ‌الْعَنْعَنَةُ

- ‌تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالإِرْسَالِ، أَو الرَّفْعِ وَالوَقْفِ

- ‌التَّدْلِيْسُ

- ‌الشَّاذُّ

- ‌الْمُنْكَرُ

- ‌ الاعتبار والمتابعات والشواهد:

- ‌زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ

- ‌الأَفْرَادُ

- ‌المُعَلَّلُ

- ‌الْمُضْطَرِبُ

- ‌الْمُدْرَجُ

- ‌الْمَوْضُوْعُ

- ‌الْمَقْلُوْبُ

- ‌تَنْبِيْهَاتٌ

- ‌مَعْرِفَةُ مَنْ تُقْبَلُ رُوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ

- ‌مَرَاتِبُ التَّعْدِيْلِ

- ‌مَرَاتِبُ التَّجْرِيْحِ

- ‌مَتَى يَصحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيْثِ أوْ يُسْتَحَبُّ

- ‌أَقْسَامُ التَّحَمُّلِ

- ‌الثَّاْنِي: القِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ

- ‌تَفْرِيْعَاتٌ

- ‌الثَّالِثُ: الإجَاْزَةُ

الفصل: ‌المبحث الأول: سيرته الذاتية

يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ الوَاصِلِ أو

مُسْنَدِهِ عَلَى الأَصَحِّ، وَرَأوا

أَنَّ الأصَحَّ: الْحُكْمُ للرَّفْعِ وَلَوْ

..

وهكذا تنقّل الحافظ العراقي في أبيات نظمه على وفق ما يتيحه له هذا البحر من أشكال في تفعيلاته، وما يجوّزه له من الزحافات والعلل، زيادة على الضرورات التي غطّت مساحة واسعة من نظمه، مما أعطاه رونقاً وجمالاً خاصّاً وسهولةً وعذوبة وفّرت الجوَّ الملائم تسهيلاً وإفادة لمبتغي هذا العلم.

‌الباب الثَّانِي: الأنصاري، وكتابه " فتح الباقي

"

‌الفصل الأول: القَاضِي زكريا الأنصاري

‌المبحث الأول: سيرته الذاتية

أولاً: اسمه ونسبه

هُوَ زين الدين أبو يَحْيَى زكريا بن مُحَمَّد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الخزرجي السنيكي، ثُمَّ القاهري الأزهري الشَّافِعيّ (1).

والأنصاري: نِسْبَة إلى الأنصار، وهم أهل المدينة من الأوس والخزرج (2).

والخزرجي: نِسْبَة إلى الخزرج، أحد شطري الأنصار، وهم بطون عدة (3).

والسنيكي: نِسْبَة إلى " سُنَيْكَة " - بضم السين المُهْمَلَة، وفتح النون، وإسكان الياء المثناة من تَحْتُ، وآخرها تاء التأنيث (4).

(1) الضوء اللامع 3/ 234، ونظم العقيان: 113، والكواكب السائرة 1/ 196، والنور السافر: 114، وشذرات الذهب 8/ 134، والبدر الطالع 1/ 252، والأعلام 3/ 46، ومعجم المؤلفين 4/ 182.

(2)

الأنساب1/ 228. والذي يظهر أنه مِنْهُمْ صليبة. انظر: حاشية الجمل عَلَى شرح المنهج 1/ 5.

(3)

الأنساب 2/ 412. وانظر: حاشية الجمل عَلَى شرح المنهج 1/ 5.

(4)

الكواكب السائرة 1/ 196.

ص: 36

وَهِيَ قَرْيَة بمصر من أعمال الشرقية، بَيْن بلبيس والعباسية (1)، والأكثر عَلَى نسبته هكذا - بإثبات الياء -، وَهُوَ مخالف لقواعد الصرف إذ الصَّوَاب في النسبة:((السُّنَكِي)). قَالَ ابن عقيل: ((ويقال في النسب إلى فُعَيْلَة: فُعَلِيّ -بحذف الياء- إن لَمْ يَكُنْ مضاعفاً، فتقول في جُهَيْنَةَ: جُهَنِيّ)) (2). وذُكِرَ عَنْ الْقَاضِي أنه كَانَ يكره النسبة إلى تِلْكَ البلدة (3).

القاهري: نِسْبَة إلى مدينة القاهرة (4).

الأزهري: نِسْبَة إلى الجامع الأزهر (5).

ثانياً: ولادته

لَمْ تكن ولادة الْقَاضِي زكريا محل اتفاق بَيْن المؤرخين، وإنما تطرق إليها الخلاف كَمَا تطرق لغيرها، فالسيوطي - عصريه وصديقه - يؤرخ ولادته في سنة (824 هـ)، عَلَى سبيل الظن والتقريب، فَقَالَ:((ولد سنة أربع وعشرين تقريباً)) (6).

وأما السخاوي والعيدروسي فيجزمان أن ولادته كَانَتْ في سنة (826 هـ)(7)، وتابعهما في هَذَا: ابن العماد الحنبلي (8)، والشوكاني (9)، والزبيدي (10)، وعمر رضا كحالة (11).

في حِيْنَ أن الغزي يتردد في تحديد ولادته بَيْن سنة (823هـ) وسنة (824 هـ)، وإن كَانَ صدَّر كلامه بالأولى ونقله من خطِّ والده الذي كَانَ أحد تلامذة الْقَاضِي زكريا (12).

(1) معجم البلدان 3/ 270، ومراصد الاطلاع 2/ 749.

(2)

شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 2/ 497. وفي كلا الحالين فهو خلاف ضبط البجاوي في تحقيقه لمراصد الاطلاع 2/ 749.

(3)

حاشية الجمل عَلَى شرح المنهج 1/ 5.

(4)

لكونه تحوّل إليها، كما سيأتي.

(5)

لأنه سكن الجامع الأزهر لما ورد القاهرة.

(6)

نظم العقيان: 113.

(7)

الضوء اللامع 3/ 234، والنور السافر:112.

(8)

شذرات الذهب 8/ 134.

(9)

البدر الطالع 1/ 252.

(10)

تاج العروس 7/ 145 (الطبعة القديمة).

(11)

معجم المؤلفين 4/ 182.

(12)

الكواكب السائرة 1/ 196.

ص: 37

وتفرد الأستاذ خير الدين الزركلي بالجزم بأنها كَانَتْ سنة (823 هـ)(1).

وهكذا نجد أن ولادة الْقَاضِي زكريا الأنصاري - في أقوال المؤرخين - كَانَتْ دُوْلَة بَيْن أعوام ثلاثة - بصرف النظر عَنْ القائلين بِهَا - وَهِيَ (823 هـ) و (824 هـ) و (826 هـ)، ولا مرجح عندنا لأحدها نجزم بِهِ أو نرجحه، والعلم عِنْدَ الله تَعَالَى.

ثالثاً: أسرته

لَمْ تسعفنا المصادر بالكثير عَنْ أسرته، وإنما كَانَتْ نتفاً وإشارات استطعنا أن نستشف مِنْها شيئاً قليلاً، يساعدنا في تكوين فكرة واضحة عَنْ أسرة المترجم.

أمَّا والده فكل مَا نعرفه عَنْهُ أنه مات والمترجم لا يزال طفلاً (2)، وَلَمْ يترك إلَاّ امرأة أرملة وولداً يتيماً، يقاسيان مشاق الحياة التي لَمْ يَكُنْ لَهُمَا دور في تحريك دفة أحداثها.

وأما أمُّه فيمكننا القَوْل إنَّ مَا حازه المترجم من المجد والفخار إنما كَانَ

- بَعْدَ رعاية الله - بحسن تصرفها، فَقَدْ حكى الغزي عَنْ الشَّيْخ الصالح ربيع ابن عَبْد الله السلمي الشنباري أنه كَانَ يوماً بسنيكة - مسقط رأس المترجم - وإذا بامرأة تستجير بِهِ وتستغيث أن ولدها مات أبوه، وعامل البلد النصراني قبض عَلَيْهِ يروم أن يكتبه مَوْضِع أبيه في صيد الصقور، فخلَّصه الشَّيْخ مِنْهُ، وَقَالَ لها: إن أردت خلاصه فافرغي عَنْهُ يشتغل ويقرأ بجامع الأزهر وعليَّ كلفته، فسلمت إليه المترجم (3). وهذا غاية مَا استطعنا الوقوف عَلَيْهِ من خبرها.

ومما مضى يُعْلَم أن المترجم كَانَ الوحيد لأبويه، فَلا إخوة ولا أخوات عِنْدَه، وكذا زوجته التي غمرت في بحر الجهالة، فَلا ذكر لها البتة فِيْمَا بَيْن أيادينا من مراجع.

أما ذريته، فوقفنا عَلَى ذكر لبعض أولاده، مِنْهُمْ:

جمال الدين يوسف، قَالَ عَنْهُ الغزي:((الشَّيْخ العلامة الصالح)) (4).

(1) الأعلام 3/ 46.

(2)

الكواكب السائرة 1/ 196.

(3)

الكواكب السائرة 1/ 196.

(4)

الكواكب السائرة 1/ 199.

ص: 38

وذكر حاجي خليفة أن ولده هَذَا شرح مختصراً لبعض الشافعية لكتاب " التحرير في أصول الفقه " لابن همام (1). وَلَمْ نقف عَلَى تاريخ وفاته.

والذي يظهر أن لَهُ ولداً آخر يدعى: ((زكريا))، وإن لزكريا الأخير ابناً يدعى:

((زكريا)) أيضاً، ترجمه الغزي في الكواكب السائرة (2) فَقَالَ:((زكريا ابن زكريا الشَّيْخ العلَاّمة زين الدين المصري، حفيد شيخ الإسلام قاضي القضاة زكريا الأنصاري))، وكانت وفاته في شوال سنة (959 هـ)(3). وَكَانَ جده يحبه محبة عظيمة (4).

رابعاً: نشأته

كَانَ مولد المترجم في بلده الأول ((سُنَيكة)) فنشأ بِهَا، وابتدأ بحفظ القُرْآن الكريم - عَلَى العادة في بدء التعليم - ودَرَسَ مبادئ الفقه العامة، فقرأ " عمدة الأحكام " وبعض " مختصر التبريزي " في الفقه (5)، وما كاد يدخل النصف الثَّانِي من عقد عمره الثَّانِي حَتَّى شدَّ رحاله نَحْو عاصمة العِلْم والعلماء التي كَانَتْ تعج بمظاهره: القاهرة، وسواء كَانَ قَدْ رحل بنفسه إلى القاهرة، أو أن الشَّيْخ ربيع بن عَبْد الله هُوَ الذي سافر بِهِ - كَمَا تقدم -، فَقَدْ ورد المترجم القاهرة (6)، ونزل الجامع الأزهر مستوطناً، وهناك أكمل حفظ المختصر الذي بدأ بِهِ في مقتبل عمره (7)، ومن ثَمَّ بَدَأَ بحفظ الكُتُب التي وفَّرت لَهُ مبادئ العلوم التي كَانَتْ تدرَّس آنذاك، فحفظ " المنهاج " الفرعي

و" الألفية " النحوية و " الشاطبية " و " الرائية " وبعض " المنهاج " الأصلي ونحو النصف من " ألفية الحَدِيْث " و " التسهيل " إلى باب ((كاد)) (8).

(1) كشف الظنون 1/ 308.

(2)

2/ 145.

(3)

الكواكب السائرة 2/ 145، وشذرات الذهب 8/ 323.

(4)

شذرات الذهب 8/ 323.

(5)

النور السافر: 112.

(6)

البدر الطالع 1/ 252.

(7)

الضوء اللامع 3/ 234.

(8)

شذرات الذهب 8/ 134.

ص: 39

وكانتْ تِلْكَ قدمته الأولى إلى القاهرة، وَلَمْ يطل المكث فِيْهَا، وعاد أدراجه إلى بلده ملازماً هناك الجدَّ والاشتغال (1).

وبعد مدة من الزمن - نجهل تحديدها - عاود المجيء إلى القاهرة (2)، يروم استخراج العِلْم من معادنه، فَدَرَسَ في الفقه:" شرح البهجة "

وغيرها (3)، وقرأ في أصول الفقه:" العضد " و " شرح العبري "(4)، وقرأ في النحو والصرف، ومما قرأه فِيْهِمَا:" شرح تصريف العزي "(5)، وأخذ المعاني والبيان والبديع فقرأ فِيْهَا " المطول "(6)، وأخذ المنطق عَنْ عدة مشايخ وقرأ فِيهِ شرح القطب عَلَى "الشمسية" وأكثر حاشية الشريف الجرجاني عَلَيْهِ، وكذا حاشية التقي الحصني عَلَيْهِ (7).

كَمَا أخذ اللغة، والتفسير، وعلم الهيأة، والهندسة، والميقات، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، والطب، والعروض، وعلم الحروف، والتصوف، وتلا بالسبع والثلاثة الزائدة عَلَيْهَا، وقرأ مصنفات ابن الجزري كـ" النشر " و "التقريب"

و" الطيبة "، وأخذ رسوم الخطِّ، وآداب البحث، والحديث (8).

وهكذا دأب وانهمك في الطلب والتحصيل، فأجازه مشايخه، وكتب لَهُ بِذَلِكَ كَثِيْر مِنْهُمْ مَعَ الإطناب في المدح والثناء، يزيدون عَلَى مئة وخمسين (9)، ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني إذْ كتب لَهُ في بَعْض إجازاته:((وأذنت لَهُ أن يقرأ القُرْآن عَلَى الوجه الذي تلقَّاه، ويقدر الفقه عَلَى النمط الذي نص عَلَيْهِ الإمام وارتضاه، والله المسؤول أن يجعلني وإياه، ممن يرجوه ويخشاه إلى أن نلقاه)) (10).

(1) شذرات الذهب 8/ 134.

(2)

المصدر نَفْسه.

(3)

النور السافر: 112.

(4)

المصدر السابق.

(5)

المصدر نَفْسه.

(6)

النور السافر: 112.

(7)

المصدر السابق.

(8)

شذرات الذهب 8/ 135، والبدر الطالع 1/ 252.

(9)

الكواكب السائرة 1/ 198.

(10)

الضوء اللامع 3/ 236.

ص: 40

وأذن لَهُ في إقراء " شرح النخبة " وغيرها من مصنفاته في حياته، وكذا فعل غَيْر ابن حجر حَتَّى قَالَ العيدروسي:((وتصدّى للتدريس في حياة غَيْر واحد من شيوخه)) (1).

وهكذا أصبح المترجم من المؤهلين للانضمام إلى ركب العُلَمَاء، وأن يشقَّ طريقه وسطهم.

خامساً: صفاته وأخلاقه

لقد كَانَ الْقَاضِي زكريا بن مُحَمَّد الأنصاري مضرب المثل في وقته في حَسَن الخلق، والتحلي بمكارم الأخلاق وفضائلها، لا يدع باباً إليها إلَاّ دخله، قَالَ العلائي (2):((قَدْ جمع من أنواع العلوم والمعارف والمؤلفات المقبولة ومكارم الأخلاق وحسن السمت والتؤدة والأخذ عَنْ الأكابر مَا لَمْ يجمعه غيره)) (3).

ولعل أبرز صفاته التي كَانَ يتحلَّى بِهَا أنه كَانَ حافظاً للجميل شاكراً لصنيع المحسنين إليه، ويدل عَلَى ذَلِكَ -كَمَا مَرَّ- أن الشَّيْخ ربيع بن عَبْد الله كَانَ صاحب الفضل عَلَيْهِ في توجهه إلى طلب العِلْم وسفره إلى القاهرة، فكان ردّ المترجم عَلَى ذَلِكَ أنه:((إذا ورد عَلَيْهِ الشَّيْخ ربيع أو زوجته أو أحد من أقاربه يجعله في زمن صمدته ومنصبه، وَكَانَ يقضي حوائجهم ويعترف بالفضل لَهُمْ، وربما مازحته زوجة الشَّيْخ ربيع التي ربَّتْهُ)) (4).

وَكَانَ في النهاية من الانهماك في طلب العِلْم، لا يجعل لنفسه متنفساً سواه، حَتَّى أشغله عَنْ مأكله ومشربه، فحكى عَنْ نَفْسه، قَالَ:((جئت من البلاد وأنا شابٌّ فلم أعكف عَلى الاشتغال بشيء من أمور الدنيا وَلَمْ أعلّق قلبي بأحد من الخلق، قَالَ: وكنت أجوع في الجامع كثيراً، فأخرج في الليل إلى الميضأة وغيرها، فأغسل مَا أجده من قشيرات البطيخ حوالي الميضأة وآكلها، وأقنع بِهَا عَنْ الخبز)) (5).

(1) النور السافر: 113، وانظر: الكواكب السائرة 1/ 199، وشذرات الذهب 8/ 135.

(2)

هو متأخر، غير الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي الشهير.

(3)

الكواكب السائرة 1/ 200.

(4)

الكواكب السائرة 1/ 196.

(5)

المصدر السابق.

ص: 41

وَكَانَ عَلَى دَرَجَة من اليقين بالله وتفويض الأمور إليه، فروى من حاله أنه قَالَ:

((فلما أتممت شرحها - يعني: " البهجة " - غار بَعْض الأقران، فكتب عَلَى بَعْض نسخ الشرح: كِتَاب الأعمى والبصير؛ تعريضاً بأني لا أقدر أشرح البهجة وحدي، وإنما ساعدني فِيهِ رفيق أعمى كنت أطالع أنا وإياه، قَالَ: فاحتسبت بالله تَعَالَى، وَلَمْ ألتفت إلى مِثْل ذَلِكَ)) (1).

وَكَانَ من أخلاقه أنه كَانَ صداعاً بالحق، لَمْ يثنه الخوف عَلَى المنصب أو هيبة سلطان عَنْ زجر الظالم أو إنذار العاصي، حَتَّى أن الغزي يذكر أن سبب عزله عَنْ القضاء:((بسبب خطه عَلَى السلطان بالظلم، وزجره عَنْهُ تصريحاً وتعريضاً)) (2).

((ومتع بالقول عَلَى ملازمة العِلْم والعمل ليلاً ونهاراً، مَعَ مقارنة مئة سنة من عمره من غَيْر كلل ولا ملل، مَعَ عروض الانكفاف لَهُ، بحيث شرح البُخَارِيّ جامعاً فِيهِ ملخص عشرة شروح، وحشَّى تفسير البيضاوي في هذِهِ الحالة)) (3).

والمترجم ممن قاسى مرارة الحرمان وعاش مصاعبها؛ لذا كَانَ يعرف لوعة المحرومين وضيق ذات يد المعدمين، فكان كَثِيْر البرِّ بطلبته وتفقد أحوالهم (4)، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من كثرة الصدقة والمبالغة في إخفائها، وَكَانَ لَهُ جَمَاعَة يرتب لَهُمْ من صدقته مَا يكفيهم إلى يوم وإلى أسبوع وإلى شهر، وإذا جاءه سائل - بَعْدَ أن أصيب بالعمى - يَقُول لِمَنْ عنده من جماعته: هَلْ هنا أحد؟ فإن قَالَ لَهُ: لا، أعطاه، وإن قَالَ لَهُ: نعم، قَالَ لَهُ: قل لَهُ: يأتينا في غَيْر هَذَا الوقت (5).

وَقَدْ أورد الغزي كلمة جامعة في بيان أخلاقه، فَقَالَ: ((وَكَانَ صاحب الترجمة مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الاجتهاد في العِلْم اشتغالاً واستعمالاً وإفتاءً وتصنيفاً ومع مَا كَانَ عَلَيْهِ

(1) الكواكب السائرة 1/ 198.

(2)

الكواكب السائرة 1/ 199.

(3)

الكواكب السائرة 1/ 199.

(4)

الكواكب السائرة 1/ 199.

(5)

المصدر السابق 1/ 202.

ص: 42

من مباشرة القضاء ومهمات الأمور، وكثرة إقبال الدنيا، لا يكاد يفتر عَنْ الطاعة ليلاً ونهاراً، ولا يشتغل بما لا يعنيه، وقوراً مهيباً مؤانساً ملاطفاً، يُصَلِّي النوافل من قيام مَعَ كبر سنه وبلوغه مئة سنة وأكثر، ويقول: لا أعوّد نفسي الكسل. حَتَّى في حال مرضه كَانَ يُصَلِّي النوافل قائماً، وَهُوَ يميل يميناً وشمالاً لا يتمالك أن يقف بغير ميل للكبر والمرض، فقيل لَهُ في ذَلِكَ، فَقَالَ: يا ولدي، النفس من شأنها الكسل، وأخاف أن تغلبني وأختم عمري بِذَلِكَ.

وَكَانَ إذا أطال عَلَيْهِ أحد في الكلام يَقُول لَهُ: عجِّل قَدْ ضيَّعتَ عَلَيْنَا الزمان، وَكَانَ إذا أصلح القارئ بَيْن يديه كلمة في الكِتَاب الذي يقرأ ونحوه، يشتغل بالذكر بصوت خفي قائلاً: الله الله، لا يفتر عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يفرغ، وَكَانَ قليل الأكل لا يزيد عَلَى ثلث رغيف، ولا يأكل إلا من خبز خانقاه سعيد السعداء، ويقول: إنما أخص خبزها بالأكل لأن صاحبها كَانَ من الملوك الصالحين)) (1).

سادساً: وفاته

بَعْدَ عُمر بَلَغَ أو جاز بقليل المئة عام، كَانَتْ مملوءة بالعلم والتعليم، والتربية والإرشاد، اختار الباري - عزوجل - الْقَاضِي زكريا الأنصاري إلى جواره الكريم، بَعْدَ أن ابتلي بفقد نعمة البصر.

وَقَدْ حصل خُلْفٌ بين المؤرخين في تحديد سنة وفاته، بَعْدَ أن اتفقت كلمة جمهورهم عَلَى تحديد اليوم والشهر، وَهُوَ الرابع من ذي الحجة (2).

فالجمهور عَلَى أن وفاته كَانَتْ سنة (926 هـ)(3)، في حين ذهب العيدروسي (4)، وتابعه ابن العماد الحنبلي (5)، إلى أنها كَانَتْ سنة (925 هـ).

(1) الكواكب السائرة 1/ 202.

(2)

وقال الغزي: ((يوم الأربعاء ثالث شهر ذي القعدة)). الكواكب السائرة 1/ 206.

(3)

الكواكب السائرة1/ 206، والبدر الطالع1/ 253، والأعلام3/ 46، ومعجم المؤلفين 4/ 182.

(4)

النور السافر: 111.

(5)

شذرات الذهب 8/ 135.

ص: 43