الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهم في اتصالاتهم بعضهم ببعض، ومع غيرهم كانوا يتحدثون عن خبراتهم وتجاربهم في مختلف الاتجاهات، أو يتبارون في السيادة والشرف، أو في القوة والهيبة، أو في المكانة والاحترام، أو يتناقشون ويتبادلون الآراء لحل المشكلات وفض المنازعات، أو يتآلفون بالمحالفات أو المصاهرات، أو يزجون أوقات فراغهم بما يسر آذانهم ويمتع أفئدتهم، كل هذا هيأ فرصًا كثيرة لمن لديهم موهبة أدبية، وليست فيهم مقدرة شعرية لكي يمارسوا فنونًا أدبية نثرية متعددة. ومن ثم وردت لهم في كتب الأدب والتاريخ أنواع من النثر الأدبي، نجد منها: الحكم، والأمثال، والقصص، والمفاخرات، والمنافرات، والخطب، والوصايا، وسجع الكهان.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن النثر الجاهلي لم يلق من العناية والاهتمام مثل ما لقي الشعر، فما بقي منه ما زال مبعثرًا في بطون الكتب، وعند قراءته تبين أنه كان يوجد في جميع المناسبات ومختلف الظروف، ولكن إلى الآن لم نجد من اهتم بجمع هذا النثر وتحقيقه وتصنيفه ودراسته.
ولا شك أن هذا يحتاج إلى رغبة صادقة، وأناة، ومقدرة على البحث والدارسة، والقيام بذلك عمل عظيم يستحق أسمى التقدير. وفيما يلي عرض موجز لأهم ما ورد في كتب الأدب عن أنواع النثر الجاهلي بحسب طبيعة الكلام ومقصده.
الحكم والأمثال:
والحكمة قول رائع يتضمن حكمًا صحيحًا مسلَّمًا به، أما المثل فهو قول يشبه مضربه بمورده فهو يقصد به تشبيه الحال التي حكي فيها بالحال التي قيل بسببها، ولذلك يحكى المثل بلفظه كما هو بدون تغيير مهما كان نوع الخطاب أو نسق الكلام.
وكل من الحكمة والمثل، عبارة قصيرة بليغة، ولكنها غاية في تأدية المعنى المقصود. وكل منهما يكون شعرًا، ويكون نثرًا، لكنهما في النثر أكثر دورانًا، ولذلك يعدان في النثر. وهما ثمار ناضجة من ثمرات الاختبار الطويل، والتجربة الصادقة، والعقل الراجح، والرأي السديد.
وكثيرًا ما تقتبس الحكم والأمثال، وتوضع في الأقوال والأشعار، فتضفي على الكلام زينة؛ فوق ما تؤديه من إصابة المعنى وحسن التشبيه، ولذلك كان من الأدباء من نظم
قصائد، كلها حكم وأمثال كأرجوزة أبي العتاهية التي سماها "الأمثال"1.
وممن اشتهر بالحكمة من العرب: أكثم بن صيفي التميمي، وعامر بن الظرب العداوني، وهما من المعمرين، وكانت العرب تحتكم إليهما، ويقال إن عامر بن الظرب لما كبر واعتراه النسيان أمر ابنته أن تقرع بالعصا إذا جار عن القصد وكانت ابنته من حكيمات العرب مثل هند بنت الخس.
ومن أقوال أكثم2: "ويل للشجي من الخلي، لم يذهب من مالك ما وعظك، رب عجلة تهب ريثًا، ادرعوا الليل فإنه أخفى للويل، إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، ليس من العدل سرعة العذل، لا تطمع في كل ما تسمع، رب قول أنقذ من صول، حافظ على الصديق ولو في الحريق".
ومن أقوال عامر بن الظرب3: "رب زارع لنفسه حاصد سواه، من طلب شيئًا وجده، وإن لم يجده أوشك أن يقع قريبا منه".
ولا بد للأمثال من أصل تكون قد جاءت بسببه، وقد يكون ذلك الأصل حقيقيًّا، وقد يكون فرضيًّا، وذلك إن قيل عن حيوان أو نبات أو جماد وتسمى أمثال النوع الأول حقيقة والأخرى فرضية.
ومن الأمثال الحقيقة: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها" يضرب في صيانة الشخص نفسه عن خسيس الكسب، وهو للحارث بن سليل الأسدي، "وسبق السيف العذل". ويضرب للفائت يستحيل تداركه، وقائله ضبة بن أد بن طابخة. وكتب الأمثال في العادة تذكر المثل وقائله وتشرح السبب الذي قيل من أجله.
ومن الأمثال الفرضية: "كيف أعاهدك وهذا أثر فأسك" يضرب لمن لا يجاب إلى عهد لظهور آثار غدره. ويأتي هذا في خرافة الحية والفأس التي تقول4: "إن أخوين كانا فيما مضى في إبل لهما فأجدبت بلادهما، وكان قريبًا منها واد فيه حية، قد حمته من كل أحد، فقال أحدهما للآخر: يا فلان لو أني أتيت هذا الوادي المكلئ فرعيت فيه إبلي وأصلحتها.
1 الأغاني: جـ3 ص143.
2 المزهر للسيوطي جـ1 ص501.
3 البيان والتبيين جـ1 ص1 ص401، 2/199.
4 أمثال العرب للمفضل الضبي. ص81.
فقال له أخوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحدًا لم يهبط ذلك الوادي إلا أهلكته. قال: فوالله لأهبطن، فهبط ذلك الوادي. فرعى إبله زمانًا، ثم إن الحية لدغته، فقتلته. فقال أخوه: ما في الحياة بعد أخي خير، ولأطلبن الحية فأقتلها، أو لأتبعن أخي، فهبط ذلك الوادي، فطلب الحية لقتلها، فقالت: ألست ترى أني قتلت أخاك، فهل لك في الصلح، فأدعك بهذا الوادي، فتكون به، وأعطيك ما بقيت دينارًا كل يوم، قال: أفاعلة أنت؟ قالت: نعم. قال: فإني أفعل. فحلف لها وأعطاها المواثيق: لا يضيرها. وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا، فكثر ماله ونمت إبله، حتى كان من أحسن الناس حالًا، ثم إنه ذكر أخاه، فقال: كيف ينفعني العيش، وأنا أنظر إلى قاتل أخي فلان؟ فعمد إلى فأس، فأخذها، ثم قعد لها، فمرت به، فتبعها، فضربها فأخطأها، ودخلت الجحر. فرمى الفأس بالجبل فوقع فوق جحرها، فأثر فيه. فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار الذي كانت تعطيه، ولما رأى ذلك تخوف شرها وندم، فقال: هل لك أن نتوافق، ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاهدك وهذا أثر فأسك".
وقد تتضمن القصة الواحدة أكثر من مثل، سواء كانت حقيقية أو فرضية كما في حادثة الزباء وقصير5، فقد ذكروا فيها أقوالًا كثيرة ذهبت أمثالها، منها، "لأمر ما جدع قصير أنفه" و "بيدي لا بيد عمرو" ومن ذلك ما تزعمه العرب من أن أرنبًا التقطت تمرة، فاختلسها ثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب، فقالت الأرنب: يا أبا الحسل. قال: سميعًا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك. قال: عادلًا حكمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحكم، قالت: إني وجدت تمرة. قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب. قال: لنفسه بغى الخير. قالت: فلطمته. قال: بحقك أخذت. قالت: فلطمني. قال: حر انتصف. قالت: فاقض بيننا، قال: قد قضيت، فذهبت أقواله كلها أمثالًا.
وقد عني العرب بالأمثال، فألفت فيها كتب كثيرة، منها كتاب صحار العبدي أحد النسابين في أيام معاوية بن أبي سفيان. وكتاب آخر لمعاصره عبيد بن شرية ومنها كتاب أمثال
5 تاريخ ابن الأثير جـ1، ص149.