الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
معلقة عنترة العبسي
عدد أبياتها: 80 منها:
5: في الأطلال.
4: في بعد الحبيبة وأثره.
3: في موكب الرحلة.
9: في وصف الحبيبة.
13: في الناقة.
46: في الفخر الشخصي.
بدأ عنترة معلقته بالسؤال عن المعنى الذي يمكن أن يأتي به ولم يسبقه به أحد الشعراء من قبل، ثم شرع في الكلام، فقال: إنه عرف الدار وتأكد منها بعد فترة من الشك والظن، فوقف فيها بناقته الضخمة؛ ليؤدي حقها -وقد رحلت عنها عبلة وصارت بعيدة عنه- فحيا الطلل الذي قدم العهد به وطال، فتخرب، وأصبحت الحبيبة في مكان يصعب عليه طلبها فيه، فقد باعدت بينهما الديار، وهي بين الأعداء، وحقيقة تمكن حبها في قلبه منذ أن وقعت عليها عينه عرضًا وهو يحارب قومها، وأضحت تحتل في قلبه مكانة المحبوب المعزز المصون وكان فراقها مفاجأة له، فقد قرروه في الخفاء، وأفزعه أن رأى الإبل تحمل الأمتعة على وشك الرحيل، وكان ركابها من أجود الإبل وأغلاها:
هل غادر الشعراء من متردم
…
أم هل عرفت الدار بعد توهم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
…
وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
فوقفت فيها ناقتي وكأنها
…
فدن لأقضي حاجة المتلوم
حييت من طلل تقادم عهده
…
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
حلت بأرض الزائرين فأصبحت
…
عسرًا عليَّ طلابك ابنة مخرم
علقتها عرضا وأقتل قومها
…
زعما لعمر أبيك ليس بمزعم
ولقد نزلت فلا تظني غيره
…
مني بمنزلة المحب المكرم
إن كنت أزمعت الفراق فإنما
…
زمت ركابكم بليل مظلم
ما راعني إلا حمولة أهلها
…
وسط الديار تسف حب الخمخم
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
…
سودًا كخافية الغراب الأسحم
ثم سرد طرفا من أسباب هيامه فقال: إنها ملكت شغاف قلبه بفم جميل، أبيض الأسنان، طيب الرائحة، يفوح العطر من عوارضه:
إذ تستبيك بذي غروب واضح
…
عذب مقبله لذيذ المطعم
وكأن فأرة تاجر بقسيمة
…
سبقت عوارضها إليك من الفم
ثم قارن بين حاله وحالها، فهي تعيش منعمة وهو يعيش محاربًا، وتمنى أن توصله إليها ناقة قوية لا تحمل ولا ترضع، وتضرب الآكام بأخفافها فتكسرها، وهي نشيطة سريعة لا ترد الماء كثيرًا، وكلما جرت ازدادت نشاطًا وسرعة، كأنما ربط بجنبها هر كبير الرأس يخدشها، وسال عرقها أسود كثيفًا:
تمسي وتصبح فوق ظهر حشية
…
وأبيت فوق سراة أدهم ملجم
وحشيتي سرج على عبل الشوى
…
نهد مراكله نبيل المحزم
هل تبلغني دارها شدنية
…
لعنت بمحروم الشراب مصرم
خطارة غب السرى زيافة
…
تطس الأكام بذات خف ميثم
وكأنما أقص الأكام عشية
…
بقريب بين المنسمين مصلم
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
…
زوراء تنفر عن حياض الديلم
وكأنما ينأى بجانب دفها الـ
…
وحشي من هزج العشيّ مؤوم
هر جنيب كلما عطفت له
…
غضبى اتقاها باليدين وبالفم
وكأن ربًّا أو كحيلًا معقدًا
…
حش الوقود به جوانب قمقم
ثم اتجه بالحديث إلى الحبيبة يسرد أخلاقه وسجاياه، قائلًا: إن ترخي قناع وجهك دوني، فإني خبير ماهر بمعاملة الفرسان اللابسين الدروع، وأنا كريم الخلق لين الجانب، إلا إذا ظلمت، فعند ذلك يكون ردي عنيفًا مرًّا، ثم قال لها: إني أستحق الثناء منك لأني سخي
إن تغدفي دوني القناع فإنني
…
طب بأخذ الفارس المستلئم
أثني علي بما علمت فإنني
…
سهل مخالقتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل
…
مر مذاقته كطعم العلقم
وحليل غانية تركت مجدلا
…
تمكو فريصته كشدق الأعلم
سبقت يداي له بعاجل طعنة
…
ورشاش نافذة كلون العندم
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
…
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
…
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ومدجج كره الكماة نزاله
…
لا ممعن هربا ولا مستسلم
جادت يداي له بعاجل طعنة
…
بمثقف صدق الكعوب مقوم
برحيبة الفرعين يهدي جرسها
…
بالليل معتس الذئاب الضرم
ومسك سابغة هتكت فروجها
…
بالسيف عن حام الحقيقة معلم
بطل كأن ثيابه في سرحة
…
يحذى نعال السبت ليس بتوءم
عهدي به مد النهار كأنما
…
خضب البنان ورأسه بالعظلم
يا شاة ما قنص لمن حلت له
…
حرمت عليَّ وليتها لم تحرم
ثم استمر في حديثه عن نفسه، فذكر سلوكه في المعركة فقال: عند ساعة الخطر حينما يكشر الأبطال عن أنيابهم، ويشتد أوار المعركة ولا تسمع للأبطال إلا غمغمة في صدورهم بأصوات تسمعها ولا تفهمها وحينما يتحاشون الأسنة عن أنفسهم بتعريضهم إياي لها، فأتقدم وألتحم بصفوف الأعداء، وتتعالى النداءات وأصوات التحريض والإثارة ويخيم الموت تحت الألوية كنت أتقدم أكثر وأكثر، وأصوات الاستحسان لي تؤججني غيرة وحماسة فأتقدم وسط الرماح الطويلة التي تنهال من كل مكان وأدفع بحصاني أكثر وأكثر حتى صنع الدم له سربالًا، فالتفت إليّ حصاني، مسترحمًا، وانحدرت من عينه دمعة على خده، وأخرج من صدره صوتًا مقطعا ليس الصهيل، ولكن ما لقيته من التعب، وما حاق بي من السقم، لم يكن له أدنى أثر، فقد أذهبته عني صيحات الأبطال لي بالاستحسان والإعجاب:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى
…
إذ تقلص الشفتان عن وضع الفم
في حومة الموت التي لا تشتكي
…
غمراتها الأبطال غير تغمغم
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم
…
عنها ولكني تضايق مقدمي
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
…
يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها
…
أشطان بئر في لبان الأدهم
ما زلت أرميهم بغرة وجهه
…
ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه
…
وشكا إليّ بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
…
ولكان لو علم الكلام مكلمي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
…
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
ثم ختم قصيدته بأنه يعرف كيف يسوس أمره، ويصرف شئونه، فعقله لا يغرب عنه، ورأيه محكم، وعزيمته صادقة ولا يخشى الموت إلا قبل أن يقتص من غريمه:
ذلل ركابي، حيث شئت مشايعي
…
لبى، وأحفزه بأمر مبرم
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن
…
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
…
والناذرين إذا لم ألقهما دمي
إن يفعلا فلقد تركت أباهما
…
جزر السباع وكل نسر قشعم
هذه هي معلقة عنترة، وواضح أنها تصوير للفروسية الحقة التي من أبرز سماتها: البطولة في كل المواقف وخصوصًا أوقات الشدة وميادين القتال، والشهامة مع الجميع وبخاصة المرأة وذلك بحمايتها والدفاع عنها، والمحافظة على شرفها وكرامتها حتى ولو كانت من الأعداء.