الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبدو أنه حدث بينهما ما لم يكن مرغوبًا فيه، فوجه إليه الحديث في غضب وثورة مهددًا ومتوعدًا، بدأه بنصحه في تهكم بالتريث؛ ليعرف حقيقة قوم الشاعر، ثم أخذ عمرو يعرض مفاخر قومه وأمجادهم وعزتهم وإباءهم وأسلافهم السابقين من ذوي الشهرة والحسب، ثم وجه الحديث إلى بني بكر خصوم قومه محذرًا، واستمر في فخره القبلي إلى آخر القصيدة.
وأما الحارث بن حلزة فقد بدأ بأن الحبيبة أعلمته بالارتحال، وأنها أصبحت بعيدة عنه، ولن يجديه البكاء شيئًا، فتسلى بناقته التي يسلى بها الهموم، ولكن يبدو أن همًّا ثقيلًا عنيفًا قد استحوذ عليه، فأثار حفيظته، فانطلق ينفس عن ثورته، فقد أسيء إلى قومه ظلمًا وعدوانًا، ووشى الوشاة ضدهم بالنميمة حقدًا وضغنًا، وأخذ يعرض أمجاد قومه، ثم انتقل إلى تحقير خصومهم، فسرد مخازيهم، وما حاق بهم من الهوان في تهكم وسخرية، ثم ذكر مواقف معينة عظيمة لقومه تدل على علو شأنهم.
من هذا ترى أن الوحدة الموضوعية متحققة في كل المعلقات، فكان الشاعر ينتقل من جزئية إلى أخرى لمناسبة تقتضيها، وبمجرد أن يبدأ تتوالى عليه الأفكار، فيسير في عرضها متتابعة حتى ينتهي مما يريد.
الشعور العام في المعلقات:
في كل معلقة شعور عام يسيطر عليها من أولها إلى آخرها:
فمعلقة امرئ القيس تصوير لنفسية شاب يعشق الجمال فيقبل على الحياة، باحثًا عن نواحي الجمال فيها، ويحاول بكل ما يستطيع أن يستمتع بكل مظهر من مظاهر الجمال، ويؤلمه أن يعترضه ما يعكر صفو حياته، أو يقلل من سروره ومتعته، حتى ولو كان من مظاهر الفطرة التي لا دخل للإنسان فيها فيحاول التخلص منه، ويبحث عن المتعة والسرور في كل اتجاه.
ومعلقة طرفة يسرد فيها شعور الطموح وحب الظهور، فالأطلال تلمع فهي ظاهرة واضحة، وموكب الارتحال ضخم عظيم، والحبيبة من طبقة مترفة تتحلى بالجواهر الثمينة، ووجهها يشع نورًا ودفئًا وحياة، وناقته ضخمة عظيمة، وشخصيته ذائعة الشهرة والصيت.
وفي معلقة زهير، يشيع نقاء السريرة وحب الخير، فهي تصوير لنفسية رجل حلب الدهر أشطره، فعرف خيره وشره، وحلوه ومره، وثبت لديه أن الحياة لا قيمة لها بدون سلام.
فجدير بالعاقل أن يبحث عنه، ويتمسك به، ويدعو به، حتى للجماد.
وفي معلقة لبيد، نرى الرغبة في الوصول إلى الأهداف والغايات على أساس الحقيقة والواقع لا جريًا وراء الأوهام، ولا تعلقًا بالأماني والأحلام البعيدة المنال، مع اتخاذ الحيطة والحذر، ومعالجة الأمور بالعقل والتدبر، فالأطلال قد درست، والمكان تبدل بأنسه وبهجته الوحوش والوحشية، وأصبحت الأطلال لا خير له فيها، فلا جدوى من الوقوف بها والاستخبار عن أهلها، وكان ارتحال الحبيبة مثيرًا للشوق، ولكن ما فائدة تذكرها وقد بعدت وقطعت الصلة، فخير ما يجب أن يقطع صلة من قطعه، فالجزاء من جنس العمل، وليترك المكان بالسفر على ناقة دائمة النشاط والسرعة، مهما بلغ منها الإعياء، في سبيل الوصول إلى الغاية المنشودة، ولتكن في جريها كأتان حامل تهرب من حمار يطاردها بعنف فتجري، وتسلك مسالك وعرة، وتتحمل ما تتحمل من العناء والتعب في سبيل المحافظة على سلامتها وسلامة جنينها، أو لتكن الناقة في جريها كبقرة وحشية حزينة غفلت عن ولدها فافترسته الذئاب، وفاجأها الصيادون فولت هاربة في عنف وسرعة فائقة، حتى إذا أحست الخطر دخلت معركة عنيفة مع أعدائها فصرعتهم ونجت بحياتها، وناقته التي تلك سرعتها تعينه على إبعاد ما ينغص حياته أو يسبب اللوم أو المؤاخدة؛ لأنه هو وقومه يعرفون قيمة الحياة الكريمة، فيحافظون على ما يحمي شرفهم ويعلي مكانتهم مهما كلفهم من مشقات وتضحيات، فالكل يكافح ويقاسي في سبيل حب البقاء.
أما معلقة عنترة ففيها الشهامة بمثلها العليا ومبادئها النبيلة، فيها الوفاء بالعهد للديار وإن أصبحت أطلالًا، فلها التحية والمهابة والاحترام، والوفاء بالعهد لمن سكنتها وإن باعدت بينهما الظروف، فلها كل محبة واحترام، وهو يدخل الحروب ويجابه الأخطار لأغراض سامية، لا طمعًا في كسب، ولا جريًا وراء نزوة، فيقاتل وينتصر فيتعفف عن الغنائم ولا ينظر إليها، ويقتل حليل الغانية الصنديد ولا يمسها بسوء، ويحافظ على شرف المرأة ولو كانت من الأعداء، ويدعو لحبيبته ألا تكون لأحد إلا عن طريق الحلال، وأمنيته أن تكون هي الحلال له، ويعرض بطولاته وأمجاده أمام حبيبته، ليؤكد لها أنه قادر على حمايتها والمحافظة عليها معززة مكرمة في وقت كانت النساء فيه نهبًا لمن استطاع أخذهن بالقوة حيث لا قانون إلا القهر والغلبة، وهو في أوقات الشدة وساعات الخطر محط الآمال وموطن الرجاء، وموضع الثناء والإعجاب.
ومعلقة عمرو بن كلثوم، تصور الرغبة في التعالي وحب العظمة في النفس البشرية، لا في