الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
معلقة طرفة بن العبد
مجموع أبياتها 105 موزعة فيما يلي:
2: في الأطلال
3: في موكب الارتحال
5: في وصف الحبيبة
33: في الناقة
39: في الفخر الشخصي.
4: في المسرف والممسك.
7: في الموت والأيام.
12: في موقف ابن عمه منه.
ومن بين هذا حكم تنتثر هنا وهناك في مناسباتها.
بدأ طرفة معلقته بذكر الأطلال ووقوفه بها هو أصحابه، فظهر عليه الأسى، حتى كاد يهلك:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
…
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفًا بها صحبي عليّ مطيهم
…
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ثم عاد بذكرياته إلى الماضي، فاسترجع ساعة الفراق وعرض موكب الارتحال وضخامته وسيره السريع يشق الوديان والجبال غير مبالٍ بما يصادفه من عوائق أو عقبات:
كأن حدوج المالكية غدوة
…
خلايا سفين بالنواصف من دد
وكانت فيه حبيبته الرشيقة، ذات الشعر المنسدل والشفاه الشديدة الحمرة، وقد نشأت في نعمة ورعاية، وبسمتها تفتر عن لثات ناضرات، وأسنان ناصعة البياض شديدة البريق واللمعان، ووجهها ناضر صافٍ نقي، يشع جمالًا ودفئًا، ويخطف البصر كأنه قرص الشمس:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن
…
مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
خذول تراعي ربربًا بخميلة
…
تناول أطراف البرير وترتدي
وتبسم عن ألمى كأن منورًا
…
تخلل حر الرمل دعص له ند
سقته إياة الشمس إلا لثاته
…
أسف -ولم تكدم عليه- بإثمد
ووجه كأن الشمس حلت رداءها
…
عليه نقي اللون لم يتخدد
وهنا يحس أن الهم قد تملكه، وأظلم عليه المكان، وضاق الأفق حوله، فلم يجد بدًّا من اللجوء إلى مسلية همومه، تلك هي ناقته، فأخذ يصورها، وكأنما يريد أن يجسمها فتتبعها جزئية جزئية بكل صغيرة وكبيرة من رأسها إلى أرجلها، حتى ذنبها، والشعرات التي تحت لحييها، فتبدو في تصويره: ناقة ضخمة، جسمها قوي محكم البنيان، مفتول العضلات وجمجمتها صلبة شديدة الالتئام، وعنقها طويل مشرف يرتفع إذا سارت، وخدها أبيض مشرق خال من الشعر نقي، ومشفرها طويل جميل الشكل، وعيناها صافيتان لامعتان حادتا النظر نقيتان، وأذناها فيهما حسن ونقاء، تدلان على العتق والكرم، حادتا السمع حتى للصوت الخفي، ومشفرها الأعلى لين مشقوق مما يلي الأنف الذي إذا أومأت به إلى الأرض ازدادت سيرًا، وما تحت لحييها من الشعر أبيض مشوب بحمرة، وظهرها متين محكم، وفقاره قوية متراصة متدانٍ بعضها من بعض، وباطن عنقها شديد محكم، وأطراف أظلافها مقوسة، ويداها مفتولتان بعيدتان عن كركرتها، وفخذاها قد اكتنز لحمهما وفيهما طول ونعومة، وأميلت عضدها نحو جنبين، كأنهما سقف أحكم وضع لبناته، وقلبها حديد، شديد الارتياع، قوي النبض، خفيف، ومجتمع كأنه كتلة من صخر، وذنبها قوي فيه شعر غليظ متين، تدافع به عن نفسها وتحركه دائمًا في نشاط وقوة، فتارة تضرب به خلف الزميل، وتارة تضرب به ضرعها البالي الخالي من اللبن، ولا تترك حبال الرحل في جسمها آثارًا إلا كما يترك وراد الماء آثار سيرهم في صخرة ملساء.
كما تحدث الشاعر عن غذائها وسيرها وجريها ونشاطها وذكائها: فقد ربيت على أحسن الغذاء، وهي معتادة الغدو والرواح. وسريعة السير وراكبها آمن، فإذا ما سلكت طريقًا فيه آثار السير، انطلقت كأنها في سباق مع إبل بيض كرام سراع، وكتفاها تتبعان يديها في سهولة ويسر، وحينما تجري تميل على أحد شقيها في تدفق لفرط نشاطها وهي طوع إرادة صاحبها إن
شاء أسرعت وإن شاء لم تسرع، وتلبي صوت راعيها، وأحيانا تتبختر في مشيها تبختر الأمة أمام سيدها، حين تجر أذيالها وتهز أعطافها.
ثم ختم حديثه عن الناقة بأنه عليها يخترق المسالك الوعرة ويجوب المغاور المهلكة لأنه هو الفتى المرجى عند الشدائد، فكان ذلك افتتاحية للحديث عن نفسه في فخر شخصي:
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي
…
ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
وجاشت إليه النفس خوفًا وخاله
…
مصابًا ولو أمسى على غير مرصد
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
…
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وهنا تحدث عن نفسه بما يصوره شخصًا كريم الأخلاق، ذا مكانة اجتماعية ممتازة، وبطلًا شهمًا ذائع الصيت: فهو لا يحل في بيت متوارٍ من الناس حتى لا يعرفه ابن السبيل ولا الضيف، وهو من بين ذوي الرأي في المجتمعات، وبين الشاربين في الحوانيت، وإن افتخر الناس فهو في ذروة المجد، نداماه من علية القوم، يسرف في الإنفاق والإتلاف حتى غضبت منه العشيرة، ويقصده الفقراء والأغنياء؛ الأولون لأنه يعطيهم، والأغنياء لمكانته وجلالته.
ولا يستمع لمن يلومه على دخوله الحرب والتمتع باللذات لأنه لا ضمان للخلود، وهنا يذكر رأيه في الحياة وهو رأي جاهلي لا يؤمن بالحياة الآخرة، فيرى أن الحياة تنتهي بالموت وخير للإنسان أن يغتنم فرصة حياته ليمتع نفسه بما يستطيع منها ولا يحرص على المال فلن يفيده شيئًا، ولن يتميز قبر الممسك عن قبر المتلف، فكلاهما كومة من تراب وحجارة، فمما يقوله:
ولست بحلال التلاع مخافة
…
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وإن تبغني في حلقة القوم تلقني
…
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني
…
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
…
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
…
وأفردت إفراد البعير المعبد
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
…
ولا أهل هذاك الطراف الممد
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
…
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
فذرني أروي هامتي في حياتها
…
مخافة شرب في الحياة مصرد
كريم يروي نفسه في حياته
…
ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدي
أرى قبر نحام بخيل بماله
…
كقبر غوي في البطالة مفسد
ترى جثوتين من تراب عليهما
…
صفائح صم من صفيح منضد
وهنا يتحدث عن الموت والإنسان وعمره، فيقول:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى الدهر كنزًا ناقصًا كل ليلة
…
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى
…
بعيدًا غدًا ما أقرب اليوم من غد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لكالطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يومًا يقده لحتفه
…
ومن يك في حبل المنية ينقد
ثم يذكر أمانيه في الحياة ومتعته منها، كأنه يرى من صفاته التي يخلعها على نفسه أنه شخص كريم سمح الأخلاق يريد أن يعيش أيامه في سلام وأمن ومتعة، يحب الناس ويحبونه، ويألفهم ويألفونه، وهنا يتعجب من سلوك الظالمين والمعتدين والوشاة والمفسدين، وبخاصة إذا كانوا من الأقارب الذين يجب أن يكونوا عونًا وسندًا، وملجأ وأمنًا، فسلوكهم المعيب بعضهم مع بعض مؤلم أشد الألم، واعتداء أحدهم على الآخر شديد المرارة وأنكى من ضرب السيوف، ولهذا يحز في نفسه أن يكون له ابن عم يسير إليه، ويعتدي عليه مع أنه لا يستحق ذلك فيقول:
فمالي أراني وابن عمي مالكًا
…
متى أدن منه ينأَ عني ويبعد
يلوم وما أدري علام يلومني
…
كما لامني في الحي قرط بن أعبد
وأيأسني من كل خير طلبته
…
كأنا وضعناه إلى رمس ملحد
على غير ذنب قلته غير أنني
…
نشدت فلم أغفل حمولة معبد
وقربت بالقربى وجدك إنني
…
متى يك أمر للنكيثة أشهد
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
…
وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد
وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم
…
بكأس حياض الموت قبل التهدد
فلو كان مولاي امرأً هو غيره
…
لفرج كربي أو لأنظرني غدى
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي
…
على الشكر والتسآل أو أنا مفتدي
بلا حدث أحدثته وكمحدث
…
هجائي وقذفي بالشكاة ومطردي
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
…
على المرء من وقع الحسام المهند
وهنا استشاط غضبًا، وثارت حميته لهذا السلوك الذي يتنافى مع ما يستحقه من التكريم والتعظيم، فانطلق ثانية مفتخرًا بنفسه، فصفاته تجعله في مصاف العظماء، فهو وإن كان فقيرًا فإنه شديد نشيط، يتوقد ذكاء وفطنة، ولا يفارق كشحه السيف الذي لا يثني ضربته، وقعه أسرع من الصوت، وهو كريم ترهبه الإبل إذا دخل عليها بسيفه لأنها تعلم أنه لا بد قاتلها وموته خسارة لا تعوض، فلن يملأ فراغه إنسان، وهو كريم طموح، سريع إلى العظائم، بطيء عن الدنايا، نابه الذكر، ذائع الصيت، ويرهبه الجميع، أفرادًا وجماعات، لا يغمه ولا يطول عليه ليل، فلا تستعصي عليه مشكلة يحبس نفسه على الشدائد، وفي الحروب ومواطن الهلاك، ويدخل الميسر بدون انتظار مغنم ومن قوله في هذا:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه
…
خشاش كرأس الحية المتوقد
فآليت لا ينفك كشحي بطانة
…
لعضب رقيق الشفرتين مهند
حسام إذا ما قمت منتصرًا به
…
كفى العود منه البدء ليس بمعضد
أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة
…
إذا قيل مهلا قال حاجزه قدي
فإن مت فانعيني بما أنا أهله
…
وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد
ولا تجعليني كامرئ ليس همه
…
كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا
…
ذلول بإجماع الرجال ملهد
لعمرك ما أمري علي بغمة
…
نهاري ولا ليلي علي بسرمد
ثم يختم قصيدته بأن الحياة كثيرة العجائب، والأيام تظهر الخفي، وتسوق إليك من ينبئك بدون أن تكلفه أو تطلب منه.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له
…
بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد
بهذا ترى أن هذه المعلقة تصوير لشخصية فيها طموح، وتنظر إلى الحياة نظرة خاصة، ولها أمنيات تسعى لتحقيقها ولكن مع مرور الأيام يظهر لها ما ليس في الحسبان.