الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجاهليون
معنى الجاهلية
…
معنى الجاهلية
الجاهلية: الزمان الذي كثر فيه الجهال، ويقول ابن خالويه: إن هذا الاسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم1.
وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في أربعة مواضع:
1-
قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} 2.
2-
قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 3.
3-
قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 4.
4-
قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 5.
ويبدو من تفسير هذه الآيات، أن المقصود بهذه اللفظة ما كان قبل مجيء الإسلام، ففي تفسير الآية الأولى، يقول الطبري:"ظن الجاهلية" من أهل الشرك بالله، شكًّا في أمر الله، وتكذيبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومحسبة منهم أن الله خاذل نبيه، ومعمل عليه أهل الكفر به. ويقول في الثانية يعني أحكام عبدة الأوثان، من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم، وأنه الحق الذي لا يجوز خلافه. وفي الآية الثانية يتعرض لبيان المقصود بالجاهلية الأولى، ويذكر فيها أقوالا كثيرة؛ منها: أنها الزمن بين آدم ونوح؛ ومنها أنها ما بين نوح وإدريس، ومنها أنها ما بين نوح وإبراهيم، ومنها أنها ما بين موسى وعيسى، ومنها أنها ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم مبيِّنًا ما كان في كل فترة من هذه الفترات من المنهيات المقصودة في الآية الكريمة وفي الرابعة، يقول: "حمية الجاهلية حين
1 بلوغ الأرب "ج1" ص16.
2 سورة آل عمران، الآية 154.
3 سورة المائدة الآية 50.
4 سورة الأحزاب: الآية 33.
5 سورة الفتح، الآية 26.
جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب له: محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامه ذلك: وقال: حمية الجاهلية، لأن الذي فعلوا من ذلك كان جميعه من أخلاق أهل الكفر، ولم يكن شيء منه مما أذن الله لهم به ولا أحد من رسله.
وفي السنة ورد لفظ الجاهلية كثيرًا، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، لأبى ذر حين عير رجلًا بأمه:"إنك امرؤ فيك جاهلية". ومما ورد فيه من الأقوال المأثورة، قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة" وقول عائشة رضي الله عنها: "كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء"، وقولهم:"يا رسول الله كنا في جاهلية وشر"، فالمقصود في هذا كله، حال جاهلية، أو طريقة جاهلية، أو عادة جاهلية ونحو ذلك.
ولفظ الجاهلية وإن كان في الأصل صفة، فقد غلب عليه الاستعمال حتى صار اسمًا، ومعناه قريب من المصدر.
والجاهلية، من حيث الاشتقاق اللغوى: مصدر صناعي، مأخوذ من "الجاهلي" نسبة إلى "الجاهل" المشتق من "الجهل". والجهل، في اللغة نقيض العلم. ويقول الألوسي: هو عدم العلم، أو عدم اتباع العلم.. فمن قال خلاف الحق، عالمًا أو غير عالم، فهو جاهل، ويقول: قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كل من عمل سوءًا فهو جاهل، وإن علم أنه مخالف للحق. وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب بمقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم، فتصير جهلًا بهذا الاعتبار6. وعلى ذلك "فالناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في حال جاهلية، جهلًا منسوبًا إلى الجاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل"7. ويستدل على ذلك بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إذا سرك أن تعلم جهل
6 بلوغ الأرب جـ1 ص16.
7 المرجع السابق، ص17.
العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 8.
فالجاهلية من حيث كونها اسمًا لزمن تطلق على الفترة التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولا تطلق على زمن بعد هذه البعثة. أما من حيث كونها صفة فقد يوصف بها بلد غير إسلامي، وقد يوصف بها الشخص قبل أن يسلم، وقد يوصف بها شخص مسلم توجد فيه صفات الجاهليين، فهو جاهلي وإن كان من أهل الإسلام، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن. الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقوله عليه الصلاة والسلام لأبى ذر لما عير رجلًا بأمه: "إنك امرؤ فيك جاهلية".
فالعرب على هذا كانوا قبل الإسلام جاهليين: في زمن جاهلي، وهم كانوا جاهلين، أي غير عالمين، أو غير متبعين ما يقتضيه العلم. وهل كان العرب قبل الإسلام حقا كذلك؟ إن هذا الرأي يفسر الجهل بما يناقض العلم، ويفسر الجاهل بغير العالم، أو بمن يفعل فعل غير العالم، ومقتضى هذا أن العرب قبل الإسلام لم يكن لديهم علم البتة، أو كان لديهم علم ولكن سلوكهم كان على غير مقتضاه. والظاهر أن الاحتمال الثاني هو الأقرب للصواب، بل هو الصواب، فلم يكن العرب في ذلك الوقت جاهلين جهلًا ينافي العلم، فقد ثبت أنهم كانوا أهل ذكاء ودراية وخبرة، وكان فيهم أذهان صافية، ونظرات صادقة في الطبيعة وأحوال الإنسان بما لا يقل عن بعض نظرات الفلاسفة والباحثين والمفكرين. ويحكي لنا التاريخ كثيرًا عما كان في جزيرة العرب في ذلك الوقت، مما يدل على أنهم حينئذ لم يكونوا في جهل تام، بل كانوا على شيء من العلم والتفكير.
فما يروى لهم من الشعر يدل على صفاء نفوسهم، وصدق عواطفهم، ورقة إحساساتهم ومشاعرهم، ووصول شعرهم إلينا وهو على هذه الحال من النضج والكمال يدل على أنهم كانوا قد قطعوا أشواطًا كبيرة، واستعملوا فيها عقولهم وتفكيرهم وأذواقهم في مجال التعبير والتصوير حتى وصلوا بفنهم إلى هذه الدرجة العليا من الدقة والعذوبة والجمال. ثم إن
8 المرجع السابق، ص 17.
ما تضمنه هذا الشعر، وما نسب إليهم من نثر: من معانٍ سامية، وأفكار ناضجة، وإشارات عديدة إلى شيء من العلم، وبخاصة في الطب يدل على عقلية ميالة إلى التفكير، قوية الملاحظة، وربما تكون هذه الإشارات من الأمور البدائية التي تعتمد على المصادفة، أو تستنتج عن طريق التجربة، ولكن هذا، ولا شك، يدل على يقظتهم ووعيهم، وتنبههم إلى ما حولهم، وقدرتهم على استكشاف ما في الكائنات من أسرار، وذلك كله لا يصدر عن جاهل ولا يكون إلا عن طريق العقل الكامل والتفكير السليم.
وأسلوب القرآن الكريم وهو في أرقى درجات الفصاحة، وأقوى مراتب البيان، يدل على ما كان لهم من تقدم ورسوخ في ميادين البلاغة وروعة التعبير، فقد كانوا يفهمونه ويدركون مقاصده، وأكثروا من الجدل والمناقشة حوله، وذلك لا يتسنى لجاهل ليس لديه شيء من علم أو معرفة أو خبرة أو دراية.
ثم إن آثارهم العظيمة التي يتحدث عنها التاريخ من مدن فخمة، ومبان شاهقة، وأعمال هندسية وفنية، ونظم في المعيشة، والسياسة، والتجارة والحروب وأدوات القتال وغيرها، وما قيل عن معارفهم وتجاربهم وخبراتهم في نواحٍ متعددة تدل على تفكير عقلي سليم، وإدارك قوي صحيح.
كل هذا ينفي عن العرب قبل الإسلام الجهل الذي ينافي العلم على الإطلاق، اللهم إلا إذا خصصنا هذا الجهل بناحية معينة، وهي الناحية الدينية، ففي هذه الحالة يكون وصف العرب قبل الإسلام بالجهل الديني وصفًا معقولًا، ومطابقًا للواقع. فالعرب قبل الإسلام كان فيهم المشركون والمجوس واليهود والنصارى وغيرهم، ولكنهم على العموم كانوا، قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في ضلال ديني، وظلام دامس في العقيدة، وما كانوا يعرفون الدين الصحيح، فلما جاء الإسلام كشف لهم الحقيقة وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فأزاح عنهم جهل العقيدة، وأسبغ عليهم نور العلم بحقيقة الله، والعلم بالعقيدة الصحيحة والدين القويم.
هذا إذا فسرنا "الجاهل" الذي كان وصف العربي قبل الإسلام بغير العالم، أما إذا فسرناه بأنه من يفعل فعل غير العالم أي من يقول قولا، أو يعمل عملا يتنافي مع علمه، فإن هذا الوصف كذلك ينطبق على العربي، بوجه عام، قبل البعثة، فما أثر لهم من أقوال، وحكم، ونصائح، وأعمال، يتنافى مع ما أثر عنهم من سلوك في كثير من مظاهر الحياة،
كالعنف، والظلم، وسيادة القوة والسلاح والإسراف إلى حد الإتلاف، وتقديس ما لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا.
هذا هو ما يمكن أن يقال عن الجهل الذي وصم به العرب قبل الإسلام إذا فسر الجهل بأنه ضد العلم. ولكن إذا فسر هذا الجهل بأنه ضد الحلم كان كذلك تفسيرًا سليمًا صحيحًا مطابقًا تمامًا لحال العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحلم سيد الأخلاق، وتندرج تحته جميع الخصال الحميدة، وأرقى درجات السلوك الإنساني الحكيم. والجهل الذى ينافي الحلم معناه: السفه والحمق والتهور وعدم القدرة على ضبط النفس، وسرعة الانفعال، واشتداد ثورة الغضب، والاندفاع في غير تريث ولا تفكير، وهذه كلها كانت صفات منتشرة بين العرب قبل الإسلام، فكان العربي يثور لأتفه الأسباب ويشعل نار الحرب إذا توهم إساءة، أو ظن ظنًّا، ولو خطأ، دون أن يتريث، أو يتحرى الحقيقة. وقد ورد استعمال لفظة "الجهل" ومشتقاتها في هذا المعنى كثيرًا. فمن ذلك قوله تعالى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 9. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل". وقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالجهل هنا يقصد به السفه والحمق والتهور وعدم ضبط النفس وفقدان سيطرة العقل، وعدم السلوك الحكيم.
ولكن لا ينبغي أن يغيب عن البال أن ذلك كان حال القوم في مجموعهم، لأنه لم يكن كل واحد منهم موصوفًا بهذه الصفات التي تتنافى مع العقل والحكمة والاتزان والروية، فقد كان هناك أفراد اشتهروا بالعقل السديد والرأي الصائب، وبعد النظر، وحسن السلوك والسيرة، وكانت سمتهم الظاهرة الحكمة، حتى إن العرب اتخذوهم حكامًا، يستشيرونهم في شئونهم ويحكمونهم في أمورهم، ومن هؤلاء، الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني مرار في ميراثهم، وأكثم بن صيفي حكيم تميم وعالمها بالأنساب، وحاجب بن زرارة التميمي كذلك، وكان على معرفة تامة بأخبار العرب وأحوالها وأنسابها، وهو من مشاهير الفصحاء والبلغاء، وكذلك الأقرع بن حابس التميمي، وهاشم بن عبد مناف القرشي،
9 سورة الفرقان 3 الآية: 63
وعبد المطلب بن هاشم، وضمرة بن ضمرة النهشلي، وكان ذكيا فطنًا قوي العقل والتفكير، خبيرًا بأحوال العرب وأنسابهم، وذو الإصبع العدواني، وعامر بن الظرب العدواني، وعيلان بن سلمة الثقفي، وهرم بن قطبة الفزاري وسنان بن أبي حارثة المري، وربيعة بن حذار الأسدي، ويعمر بن الشداخ الكناني، والقلمس10 الكناني ومالك بن جبير العامري، وعمرو بن حممة الدوسي، والحارث بن عباد البكري.
ولم يقتصر الأمر على الرجال، بل كان من نساء الجاهلية من اشتهرن بالحكمة وحدة الذكاء وقوة العقل وسداد الرأي، ومنهن: ابنة الخُسّ الإيادية، وأختها جُمْعة، وصُحَر بنت لقمان، وخُصَيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، وحذام بنت الريان، وهى التى قيل فيها:
إذا قالت حذام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام11
وكان هؤلاء وأمثالهم يعرفون بين العرب بأنهم الحكام أو الحكماء.
وبهذا يكون الجهل الذي وصم به الجاهليون على وجه العموم، الجهل الديني، أو ما يتنافى مع صفات العالم الرشيد، أو ما ليس من سلوك الحليم ذي الرأي السديد.
10 القلمس: ليس اسم علم، وإنما هي درجة واختصاص، عرف بها من كان ينشئ الشهور. وأول من عرف بها أبو ثمامة جنادة بن أمية الكناني. ومن معانيها السيد العظيم، والرجل الخير المعطاء، والمفكر البعيد الغور، والداهية من الرجال، وذلك من معانٍ تشير إلى صفات عالية في الرجل الذى أطلقت عليه. وقال المرزباني القلمس الأكبر هو عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة
…
جاهلي قديم وهو أول من نسأ الشهور في الجاهلية. "الموشح ص 83".
11 راجع بلوغ الأرب للألوسي، وتاريخ اليعقوبي جـ1 ص 258 ويقول المرزباني: إنها زوجة لجيم بن صعب، وهو القائل هذا البيت، ويروى لغيره. ويقول عن لجيم شاعر وأبو شاعر وعمه بلغاء بن قيس شاعر. "الموشح ص 253".