المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تدوين الأدب الجاهلي - في تاريخ الأدب الجاهلي

[علي الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الجاهليون

- ‌معنى الجاهلية

- ‌بلاد العرب الجاهليين

- ‌العرب القدامى

- ‌مدخل

- ‌العرب العاربة:

- ‌العرب المتعربة:

- ‌العرب المستعربة:

- ‌أنساب العرب

- ‌مدخل

-

- ‌أنساب القحطانيين:

- ‌بنو كهلان:

- ‌قضاعة:

-

- ‌أنساب العدنانين:

- ‌مضر

- ‌قيس عيلان بن مضر:

- ‌ربيعة

- ‌إياد:

- ‌منازل القبائل العربية

- ‌حياتهم ومعيشتهم

- ‌حالتهم السياسية

- ‌حالتهم الإجتماعية

- ‌مدخل

- ‌الكهانة والعرافة:

- ‌ زجر الطير وضرب الحصى وخط الرمل:

- ‌ الاستقسام بالأزلام:

- ‌ الميسر:

- ‌عبادة الأصنام والأوثان:

- ‌ البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي

- ‌حالتهم الدينية

- ‌اتصالاتهم

- ‌معارفهم

- ‌حول الأدب الجاهلي

- ‌حقائق عامة

- ‌لغة الأدب الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌ الناحية الدينية:

- ‌ الناحية الاقتصادية:

-

- ‌ الناحية الاجتماعية:

- ‌ عنعنة تميم:

- ‌ قلقلة بهراء:

- ‌ كسكسة تميم:

- ‌كشكة أسد أو ربيعة

- ‌ فحفحة هذيل:

- ‌ وكم ربيعة:

- ‌ وهم بني كلب:

- ‌ جمجمة قضاعة:

- ‌ وتم أهل اليمن:

- ‌ الاستنطاء:

- ‌ شنشنة اليمن:

- ‌ لخلخانية الشحر:

- ‌ طمطمانية حمير:

- ‌ غمغمة قضاعة:

- ‌رواية الأدب الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌محمد بن السائب الكلبي:

- ‌ عوانة بن الحكم بن عياض:

- ‌ محمد بن إسحاق:

- ‌4- أبو عمرو بن العلاء:

- ‌ حماد الرواية:

- ‌ المفضل الضبي:

- ‌ خلف الأحمر:

- ‌ هشام بن الكلبي:

- ‌ الهيثم بن عدي:

- ‌ أبو عبيدة:

- ‌ أبو عمرو الشيباني:

- ‌ أبو زيد الأنصاري:

- ‌ الأصمعي:

- ‌ ابن الأعرابي:

- ‌ ابن سلام الجمحي:

- ‌ ابن السكيت:

- ‌أبو حاتم السجستائي

- ‌ ابن قتيبة:

- ‌ السكري:

- ‌المبرد:

- ‌ ثعلب:

- ‌ الطبري:

- ‌ أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري:

- ‌الأصبهاني:

- ‌ المرزباني:

- ‌تدوين الأدب الجاهلي

- ‌مصادر الأدب الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌ المعلقات:

- ‌ المفضليات:

- ‌ الأصمعيات:

- ‌ جمهرة أشعار العرب:

- ‌ مختارات ابن الشجري:

-

- ‌ دواوين الحماسة:

- ‌ ديوان الحماسة لأبي تمام:

- ‌ حماسة البحتري:

- ‌ حماسة الخالديين:

- ‌ حماسة ابن الشجرى:

- ‌ الحماسة المغربية:

- ‌ الحماسة البصرية:

- ‌قضية الانتحال في الأدب الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌ نوع مقطوع بصحته وأصالته:

- ‌ نوع مقطوع بانتحاله:

- ‌ نوع جاء عن طريق غير موثوق بها:

- ‌ نوع جاء عن طريق رواة موثوق بهم:

- ‌ نوع منسوب إلى جاهلي بدون سند:

- ‌النثر والشعر في العصر الجاهلي

- ‌تمهيد

- ‌النثر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌دواعي النثر الجاهلي:

- ‌الحكم والأمثال:

- ‌المفاخرات والمنافرات:

- ‌الخطابة:

- ‌الوصايا:

- ‌سجع الكهان:

- ‌تعليق عام عن النثر الجاهلي:

-

- ‌الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نوع الشعر الجاهلي:

- ‌كثرة الشعراء في العصر الجاهلي:

- ‌عدد الشعراء

- ‌الشعراء الأمراء:

- ‌ الشعراء الفرسان:

- ‌ الشعراء الحكماء:

- ‌ومن العشاق:

- ‌ومن أشهر المتيمين:

- ‌ الشعراء الصعاليك:

- ‌ الشعراء اليهود:

- ‌ النساء الشواعر:

- ‌ الشعراء الهجائين:

- ‌ الشعراء الوصافين للخيل:

- ‌ الشعراء الموالي:

- ‌ سائر الشعراء الجاهليين:

- ‌بناء القصيدة الجاهلية والوحدة فيها:

- ‌ معلقة امرئ القيس

- ‌ معلقة طرفة بن العبد

- ‌ معلقة زهير بن أبي سلمى

- ‌ معلقة لبيد بن ربيعة

- ‌ معلقة عنترة العبسي

- ‌معلقة عمرو بن كلثوم

- ‌معلقة الحارث بن حلزة

- ‌التعليق على تحليل المعلقات:

- ‌الشعور العام في المعلقات:

- ‌بدء المعلقات:

- ‌العرض الشعري في المعلقات وقيمتها:

- ‌أغراض الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌الوصف:

- ‌الفخر:

- ‌الهجاء والوعيد والإنذار:

- ‌المدح:

- ‌الرثاء:

- ‌الاعتذار:

- ‌الغزل:

- ‌في الحياة والناس:

- ‌المنصفات

- ‌من مُثلُهم العليا:

- ‌الصعاليك:

- ‌الشعر ديوان العرب:

- ‌الظواهر العامة في الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌المادية والحسية:

- ‌البساطة في التفكير:

- ‌الصلة بالبيئة:

- ‌وحدة المعاني وتنوع الصور:

- ‌الصدق والدقة:

- ‌الحياة والحركة:

- ‌الفن القصصي:

- ‌الروح الجماعية:

- ‌المحافظة على التقاليد الشعرية:

- ‌العناية بالألفاظ والعبارات

- ‌المحسنات البلاغية:

- ‌المراجع

- ‌جداول الأنساب

- ‌محتويات الكتاب

الفصل: ‌تدوين الأدب الجاهلي

‌تدوين الأدب الجاهلي

يقصد بالتدوين الكتابة، وكانت الكتابة معروفة للعرب في العصر الجاهلي، بدليل وجود إشارات إليها في الأدب الجاهلي، كقول طرفة1:

كسطور الرق رقشه

بالضحى مرقش يشمه

وقول المرقش الأكبر:

الدار وحش والرسوم كما

رقش في ظهر الأديم قلم2

وقول امرئ القيس3:

لمن طلل أبصرته فشجاني

كخط زبور في عسيب يمان

وقوله4:

أتت حجج بعدي عليها فأصبحت

كخط زبور في مصاحف رهبان

وفي هذه الأمثلة نجد الإشارة إلى الأقلام وبعض ما كان يكتب عليها كالأديم، والعسيب، والصحف.

وقد وجدت نقوش للعرب الجنوبيين تدل على وجود الكتابة عند أهل اليمن منذ ألف عام على الأقل قبل الميلاد، كما عثر في آثار الشماليين على نقش النمارة الذي يرجع تاريخه إلى سنة 328م وهو مكتوب بخط مشتق من الآرامي5.

وكانت العهود والمواثيق في غالب الأحيان تدون، تسجيلًا لها، لتكون أقوى ارتباطًا، وأشد إلزامًا، ومن ذلك صحيفة قريش التي علقوها في جوف الكعبة6.

1 ديوان طرفة نشر الدكتور علي الجندي، بيت رقم 407. والرق: الصحيفة، رقشه: زينه وحسنه، وشبه رسوم الدار بسطور الكتاب. بالضحى: أي رقشه بالضحى، وذلك أحكم لصنعة الترقيش. يشمه: ينقشه ويزينه ويجعله كالوشم في المعصم.

2 الأغاني. دار الكتب جـ6 ص127.

3 ديوان امرئ القيس، ص85، ب1.

4 ديوان امرئ القيس، ص89، ب2.

5 بروكلمان، جـ1، ص63.

6 سيرة ابن هشام، جـ1ص375.

ص: 139

كما كانت الرسائل، على وجه العموم، تبعث مكتوبة، كالصحيفة التي وجهها عمرو بن هند ملك الحيرة إلى عامله بالبحرين في شأن طرفة والمتلمس7. ومن ذلك أيضًا القصيدة التي أرسلها لقيط بن يعمر الإيادي8 الذي كان كاتبًا في ديوان كسرى، حين علم أن كسرى مجمع على غزو إياد، فكتب إليهم هذه القصيدة ينذرهم بما يتهددهم من خطر، وهي قصيدة طويلة، وفي آخرها يقول:

هذا كتابي إليكم والنذير لكم

لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا

وأكبر دليل على وجود الكتابة في الجاهلية بين العرب، هذه الكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام، ثم كتاب الوحي الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرهم بكتابة آي القرآن الكريم كلما نزل عليه الوحي، كل هذه الأمثلة تدل دلالة قاطعة على أنه كان بين العرب الجاهليين من يعرفون القراءة والكتابة بالعربية.

ولكن وجود الكتابة في زمان أو مكان، ليس بلازم أن يكون معناه شيوعها، وانتشارها، شأنها شأن كل شيء في الوجود، فقد تكون موجودة، ولكنها قليلة أو نادرة، وذلك هو ما كان في العصر الجاهلي، كانت الكتابة موجودة ومعروفة لديهم ولكنها كانت بنسبة قليلة قد تصل إلى حد الندرة أحيانًا، فكانت غالبية الشعب لا تعرف القراءة والكتابة بخاصة بين البدو سكان الصحراء؛ وذلك لأن ضرورات الحياة، ومشاغلها، والسعي لطلب الرزق والقوت كانت تستغرق كل أوقاتهم أو جلها، فلم يكن لديهم فراغ يجلسون فيه منذ الطفولة ليتعلموا القراءة والكتابة، ثم إن وسائلها من الجلود والعظام وسعف النخل، وقطع الخشب وأمثالها كانت غير ميسرة، ولا تحبب في استعمالها والاهتمام بها لكي يسجلوا بها كل آثارهم، ومن ثم كان هناك نفر يسير من بينهم يعرفون القراءة والكتابة، وكان السواد الأعظم من السكان يجهلها، وطبيعي أن تكون الحال كذلك بين الأدباء: كثرة منهم أميون، وقلة منهم يقرءون ويكتبون، ومن هؤلاء: عدي بن زيد العبادي ولقيط بن يعمر الإيادي، وسويد بن صامت الأوسي، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك والربيع بن زياد، ولبيد

7 ديوان طرفة، ص13.

8 شعر الحرب، ص285.

ص: 140

بن ربيعة. وقد وردت الأخبار القاطعة بأن كثيرًا منهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة، وأظهر مثل لذلك طرفة والمتلمس فقد حمل كل منها صحيفة فيها الأمر بإعدامه ولقى طرفة حتفه بسبب ذلك. وربما كان بعض الأدباء -وبخاصة الشعراء الذين اشتهروا بالحوليات، وأخذهم وقتًا طويلًا في إعداد آثارهم الأدبية، وتحويرها، وتنميقها لتكون في أروع ما يستطيعون، ربما كان هؤلاء- ممن يعرفون القراءة والكتابة، على أنه ليس هناك ما يمنع من أن يقوم الأمي بالتنميق والتحسين في إطار ذاكرته، أو حيز حافظته، لا على قرطاس أو صحيفة فذلك يحدث كثيرًا، حتى بين الذين يحسنون القراءة والكتابة. ولكن على العموم لم نسمع أن وجد بين الأدباء في الجاهلية من كان يلقي نصه الأدبي من صحيفة، بل كان الجميع، حتى من يعرفون القراءة والكتابة. يلقون نتاجهم مشافهة، ومن الذاكرة. ولا شك أن ذلك أدعى للإعجاب والإكبار، فهو يوحي بأن كلامه من فيض الخاطر حين إلقائه، وذلك مشاهد بين ظهرانينا اليوم، فكثير من الخطباء والأدباء يعدون كلماتهم قبل إلقائها، ومعظمهم يسجلها، ويكرر إلقاءها بينه وبين نفسه، لتثبت في ذاكرته، فإذا ما وقف بين الناس، خطيبًا، أو متحدثًا، أو منشدًا، تتابعت العبارات على لسانه في دقة وإحكام، كأنما تنثال عليه البلاغة انثيالًا بالطبيعة والسليقة، هؤلاء الأدباء الذين كانوا يقرءون ويكتبون يحتمل جدًّا أنهم قد قاموا بتدوين آثارهم الأدبية أو بعضها على الأقل. ولكن مما لا شك فيه أن بعض القبائل قد قامت بجمع آثار أدبائهم وتدوينها، بدليل ذكر كتب يحمل كل منها اسم قبيلة معينة يضم أخباره وآثارها، مثل كتاب قريش وكتاب ثقيف9 وكتاب تميم، وغير أولئك، جاء في المفضليات.

وجدنا في كتاب بني تميم

أحق الخيل بالركض المعار10.

ويبدو أن فكرة تدوين الآثار الأدبية قديمة عند العرب، يقول حماد الراوية: "إن ملك الحيرة النعمان بن المنذر المتوفى سنة 602 أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج -وهي الكراريس- ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيدة الثقفي، قيل له: إن

9 الأغاني جـ6 ص94.

10 المفضليات، ص344، والبيت ينسب إلى بشر بن أبي خازم.

ص: 141

تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة11.

وبعض الباحثين يشك في هذه الدعوى، بسبب أن راويها حماد، وأنه ربما افتعلها ليفضل أهل الكوفة على أهل البصرة في الخلافات التي نشبت بين البلدين12. ولكني أعتقد أن مضمون هذه القصة يغلب عليه أن يكون صحيحًا، فمن الطبيعي أن يعتز الملوك والسادة الكبار بما قيل فيهم من مدائح، وما لهم من آثار، فيعملوا على تسجيلها وتدوينها لتظل خالدة. وفي ذلك يقول ابن سلام في كلامه عن الشعر العربي القديم: "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان"13 وقد ورد أنه في زمن الوليد بن عبد الملك تولى الخطاط خالد بن أبي الهياج كتابة المصاحف والشعر والأخبار للخليفة المذكور، كما أن الخليفة الوليد بن يزيد المولود سنة 90-708 والمتوفى سنة 127-744 أمر بجمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها، وأنسابها ولغاتها14.

وكما كان في الأدباء من يقرأ ويكتب، كان من الرواة من يعرفون القراءة والكتابة: فيروى عن أبي عمرو بن العلاء أن كتبه ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه15.

وجاء في الأغاني16 أن حمادًا الراوية قال: "أرسل الوليد بن يزيد إليَّ بمائتي دينار، وأمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد. قال: فقلت: لا يسألنى إلا عن طرفيه: قريش وثقيف، فنظرت في كتابي قريش وثقيف". ويقول صاحب الأغاني في موضع آخر. كان حماد الراوية في أول الأمر يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه17.

11 المزهر جـ1 ص148-149.

12 راجع الأدب العربي لبلاشير ص105.

13 طبقات الشعراء، ص10.

14 الفهرست، ص91.

15 البيان والتبيين جـ1 ص321.

16 أغاني، دار الكتب 6-94.

17 المرجع السابق، ص87.

ص: 142

كما يروى أن ابن الأعرابي لما بعث إليه أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع غلامًا من غلمانه يسأله المجيء إليه، عاد إليه الغلام، فقال: قد سألته ذلك، فقال لي: عندي قوم من الأعراب فإذا قضيت أربي معهم أتيت. قال الغلام: وما رأيت عنده أحدًا إلا أني رأيت بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرة، وفي هذا مرة18.

وقال ابن السكيت عن أبي عمرو الشيباني: مات أبو عمرو الشيباني وله مائة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلي أن مات، وكان ربما استعار مني الكتاب وأنا إذ ذلك صبي آخذ عنه وأكتب من كتبه19.

ويقولون عن اختيار أبي تمام لديوان الحماسة إن الثلج عاقه عن السفر وكان في العراق، فاستضافه أبو الوفاء بن سلمة، وأحضره خزانة كتبه فطالعها واشتغل بها، وصنف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة، والوحشيات20.

ثم إن التصحيف نفسه يدل على وجود الكتب المؤلفة في الأدب، كما أن الأخبار قد وردت بوقوع بعض أئمة الرواة في التصحيف، هذا معناه أنهم كانوا بجانب الأخذ مشافهة كانوا يأخذون كذلك من الكتب، رغبة في ازدياد المعرفة، وسعة أفق الرواية، ومما يروى في هذا الشأن ما حدث من الأصمعي إذ يقول أبو حاتم السجستاني: "قرأ الأصمعي على أبي عمرو بن العلاء الحطيئة، فقرأ قوله:

وغررتنى وزعمت أنّـ

ـك لابنٌ بالصيف تامر

أي كثير اللبن والتمر، فقرأها. "لا تنى بالضيف تأمر" أي لا تتوانى عن ضيفك تأمر بتعجيل القِرى له. فقال له أبو عمرو: أنت والله في تصحيفك هذا أشعر من الحطيئة21.

وأخبار التصحيف كثيرة، وقد ألفت فيه كتب، منها: التصحيف والتحريف للعسكري، والتنبيه على أغاليط الرواة للبصري.

ولعل الخوف من الوقوع في التصحيف هو الذي جعل الرواة يعتمدون اعتمادًا كليًّا على الأخذ مشافهة، ويتحاشون الأخذ مباشرة من الكتب لأنه عرضة للتحريف، خصوصًا قبل

18 المزهر 10 ص160.

19 الفهرست ص107.

20 التبريزي: شرح الحماسة ص4.

21 المزهر 2-355.

ص: 143

حدوث النقط والشكل. ومن ثم نجد الرواة -حتى من كانوا ينقلون عن كتب- يذكرون روايتهم بسند يوحي بأنهم أخذوها مشافهة وسماعًا، وعدوا النقل من الكتب عيبًا، قال ابن سلام في معرض حديثه عن الشعر القديم:"وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن ينقل من صحيفة ولا يروي عن صحفى"22.

هذا طرف من الأخبار التي تؤيد وجود الكتب التي دون فيها الأدب الجاهلي، وكثير من هذه الأخبار التي سقناها يدل على أن تدوين الآثار الأدبية كان موجودًا قبل الإسلام. ولكننا لا نعرف بالضبط متى بدأ، ولا أي الآثار الأدبية كان أسبق في التدوين. ولا شك أن حركة التدوين كانت تتقدم مع الزمن شيئًا فشيئًا فبعد أن كانت قليلة أو في حدود ضيقة في العصر الجاهلي، أخذت تنمو وتطرد في الازدياد بعد ظهور الإسلام، واتساع الدولة الإسلامية، واختلاط العرب بغيرهم، وشيوع القراءة والكتابة، ووقوفهم على ما لدى غيرهم من علوم ومعارف ومدنية وتقدم، فهذه الظروف كلها أوجدت ميادين فسيحة للمجال الفكري والعلمي عند العرب، فاستحدثت علوم كثيرة كالتفسير والحديث والفقه واللغة والنحو، والبلاغة. وهذه كلها تحتاج إلي الأدب، ولهذا لا يخلو كتاب ألف في أحد هذه العلوم من آثار أدبية جاهلية، إذ إن جميع هذه العلوم تعتمد في تقرير أسسها ومبادئها على كلام العرب القدامى الفصيح، وبسبب ذلك دون كثير من الأدب الجاهلي في ثنايا هذه العلوم، وكلما تقدم الزمن، اتسعت آفاق الباحثين، فزاد تبعًا لذلك التأليف في هذه النواحي، ومن ثم اهتموا بالأدب القديم اهتمامًا عظيمًا، فوق ما كان له من الأهمية العظمى في نفوس العرب جميعًا قبل الإسلام، فتخصص بعض العلماء والباحثين في جمعه وتدوينه، وقد أشرنا إلى كثير من ذلك في حديثنا عن الرواة الذين ذكرنا نبذًا يسيرة عن بعضهم فيما سبق. ومما بيناه هناك يتبين أن حركة التدوين كانت في نشاط متزايد خلال القرنين الثاني والثالث وتدل الأخبار الموثوق بها على أن كثيرًا من هؤلاء الرواة قد عنوا بجمع الأدب الجاهلي وتدوينه، كل منهم بقدر ما استطاع، وأن اللاحق منهم كان يحاول أن يزيد عن السابق في هذا الميدان. وبعضهم كانت له تعقيبات وآراء في السابقين وأعمالهم الأدبية، كأنما كانوا يتبارون في الجمع والتدوين

22 طبقات فحول الشعراء ص5.

ص: 144

والدراسة. ونظرة إلى ما ذكرناه عن الرواة ومجهود كل منهم العلمي تبين ذلك بوضوح، فهناك مثلًا أبو عمرو الشيباني المتوفى سنة 213 يروى عنه أنه جمع أشعار القبائل، وكانت نيفًا وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل قبيلة كتب مصحفًا، هذا بالإضافة إلى الدواوين التي عملها مثل دواوين: امرئ القيس، والحطيئة، ولبيد، ودريد بن الصمة، والأعشى، وهذا الأصمعي المتوفى سنة 215، يقال عنه إنه جمع الشعر المبعثر في دواوين ومجموعات، ومنها الأصمعيات المشهورة، كما عمل دواوين امرئ القيس، والنابغة، والحطيئة، ولبيد، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والمسيب بن علس، والمتلمس، وهناك ابن الأعرابي المتوفى سنة 225، وقد قال عنه أبو العباس: قد أملى على الناس ما يحمل على أجمال، ثم ابن السكيت المتوفى سنة 245 الذى يقال عنه إنه جمع دواوين امرئ القيس، والحطيئة، ولبيد، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والخنساء، وهناك السكري المتوفى سنة 275، وقد قام بعمل دواوين امرئ القيس، وزهير، والنابغتين، والحطيئة، ولبيد، ودريد بن الصمة، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والمتلمس، والمسيب وعدي بن زيد، والخنساء، وقيس بن الحطيم، وتميم بن مقبل، وأشعار اللصوص وأشعار هذيل، وهدية بن خشرم، ومزاحم العقيلي، والأخطل، وغيرهم، ثم أبو الفرج الأصبهاني، المتوفى سنة 357 قد كتب عشرات الكتب، منها كتاب التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها، وكتاب الأخبار والنوادر، وكتاب مجموع الآثار والأخبار، وكتاب أيام العرب، وكتاب الأغاني الذي طبقت شهرته الآفاق وهو كتاب يعتبر موسوعة عربية ضخمة، وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب ثلاثين جملا، من الكتب، فلما وصل إليه كتاب الأغاني استغنى به عنها، وقال عنه الصاحب بن عباد إنه "للزاهد فكاهة، وللعالم مادة وزيادة، وللكاتب والمتأدب بضاعة وتجارة، وللبطل رجلة وشجاعة، وللمتظرف رياضة وصناعة، وللملك طيبة ولذاذ، ولقد اشتملت خزانتي على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلد ما فيها سميري غيره، ولا راقني منها سواه".

ومما سبق يتبين أن التدوين كان: إما إملاء من الأستاذ على التلاميذ أو الكتبة كما حدث من ابن الأعرابي الذي قيل عنه إنه أملى ما يحمل على أجمال، وإما كتابة بخط التلميذ بعد السماع من الأستاذ، أو النقل من الكتب، كما قال ابن السكيت عن نفسه إنه كان يأخذ من

ص: 145

أبي عمرو الشيباني ويكتب من كتبه، وإما كتابة بخط الأستاذ نفسه، كما كان من أبي عمرو الشيباني.

ويتضح كذلك أنه منذ القرن الثاني الهجري وجدت نهضة عظيمة في الجمع والتدوين للنصوص الأدبية الجاهلية، ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، ولم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا في عصر العباسيين23.

ولا شك أن مما ساعد على وجود هذه النهضة العظيمة في التدوين شيوع عادة الكتابة العربية وسهولتها في أواخر القرن الأول للهجرة24، حوالى سنة 7000م بعد أن كانت نادرة، وأدواتها صعبة غير ميسرة.

وقد كانت هناك عوامل كثيرة دفعت القوم إلى جمع الأدب الجاهلي وتدوينه، فقد كانت العصبية في الجاهلية هي التي تدفع الناس إلى حفظ آثارهم الأدبية، كل قبيلة تعنى بجمع نصوص أدبها وتعمل على نشره وإذاعته لأنه سجل مفاخرهم وأمجادهم، وضياعه فيه انهيار لمكانة القبيلة، وضياع لشرفها، وهذه العصبية وإن اختفت في عصر صدر الإسلام، إبان ظهور الدعوة الجديدة التي حرمت التباهي بالأحساب والأنساب والتحيز للأقارب والأصحاب بسبب الحمية الجاهلية، فإنها قد عادت بوضوح في أيام الدولة الأموية، بل إن الأمويين أنفسهم كثيرًا ما كانوا يعملون على إثارتها، وإلهاب نار العصيبة بين القبائل، لكي يلهو الناس بها عن التفكير في الحكم والسياسة، وكان لهذا أثره في إنشاء الأدب إذ ذاك وفي جمع الشعر القبلي القديم وتدوينه، لتتباهى كل قبيلة بما كان لها في الماضي من عوامل الزهو والافتخار التي كان الأدب أهم أسسها وأركانها.

ثم إن إنشاء الدولة، وما يتبعه من تنظيمات سياسية وإدارية واجتماعية وتخصيص رواتب وأعطيات معينة لكل فئة ممن يقومون بالأعمال، أو يتولون مناصب خاصة، كل ذلك جعل العرب يهتمون بالأنساب، ومعرفة الأصول والفروع من الآباء والجدود، والأبناء والحفدة، ومن ثم رجعوا إلى الشعر القديم الذي قلما تخلو قصيدة منه من ذكر الأنساب، ومن هنا حوت الكتب التي ألفت في الأنساب كثيرًا من القصائد والمقطوعات الشعرية والقطع

23 بروكلمان، ج1 ص63.

24 الشهاب الراصد ص302.

ص: 146

الأدبية، وأشهر من فعل ذلك في زمن معاوية دغفل وصحار العبدي، ومن تحقيقات النسابين جمعت مقطوعات شعرية كثيرة تحوي إشارات إلى منشأ محالفات القبائل والأرهاط25.

والخلافات السياسية التي حدثت في الدولة الإسلامية منذ نشب النزاع بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان، كانت سببًا في حدوث انقسام بين المسلمين، فكانوا شيعًا وأحزابًا، كل يناصر فريقًا معينًا، وحدثت من جراء ذلك معارك دامية، كل هذا دعا كل فريق إلى الحديث عن نفسه في الماضي والحاضر، مما كان له كذلك أثر في جمع الأدب القديم وتدوينه.

واتساع الدولة الإسلامية، وامتداد حكم العرب إلى أقاليم كثيرة خارج شبه الجزيرة العربية في مصر وسورية والعراق وفارس، واختلاطهم بسكان هذه البلاد، كل هذا كان له أثر في الاهتمام بالأدب القديم، ذلك أن العرب الغالبين، كانوا بحكم عربيتهم الخالصة، يعدونه سجل مفاخرتهم وأمجادهم، يتغنون بها أمام هذه الشعوب المختلفة، كأنما كانوا يريدون أن تعلم هذه الشعوب ما كان لأسلاف حاكميهم من أمجاد خالدة في شتى الميادين، بجانب ما يجدون في إنشاده وترديده من متعة ولذة. ولما رأى أهل هذه البلاد حب السادة الحاكمين للأدب القديم، وأنهم "أي الموالي" في حاجة إلى تعلم اللغة العربية، والتفوق فيها، أقبلوا هم كذلك على الأدب العربي يحفظونه، ويتدارسونه، ويروونه حتى برعوا فيه، وقد مر بنا عدد كبير من هؤلاء الموالي الذين كانوا من الرواة الأفذاذ، وكأنهم بعملهم هذا يرمون إلى إتقان اللغة العربية وآدابها، حفظًا، وفهمًا، ودراسة، فكان منهم العلماء الثقات، الذين يُرجَع إليهم كلما أشكل أمر كما كانوا يتمنون أن يكونوا محدثين ممتازين، فكان منهم الحفظة الأذكياء.

ومما كان له أثر كبير في رواج جمع الأدب الجاهلي وتدوينه، ما كان من الخلفاء والولاة والحكام من ميول أدبية ممتازة، فقد كان فيهم حب شديد للأدب ملك عليهم أفئدتهم، فكان الخليفة كثيرًا ما يتوق إلى سماع قصيدة معينة، أو قطعة أدبية، فيسأل عنها. وقد فعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشرنا إلى ذلك سابقًا، وكذلك كان الخلفاء الراشدون وبخاصة عمر بن الخطاب، وفي عصر الدولة الأموية اشتد اهتمام الخلفاء بالأدب، فكثيرًا ما كانوا

25 تاريخ الأدب العربي لبلاشير، ص102.

ص: 147

يرسلون في طلب عالم أو راوية لسؤاله عن خبر أو قصيدة شعرية. وكتب الأدب والتاريخ مملوءة بذكر الأمثلة الكثيرة في هذا الشأن. وقد كانت الفرحة تعم نفوسهم، والبشر يعلو وجوهم حينما يجدون الجواب الشافي عند من يسألونه فتنفرج أساريرهم، وتنبسط أيديهم عن واسع السخاء وكريم العطاء. ومن هنا تسابق الرواة في الحفظ والجمع والتدوين، حبًّا في الشهرة، وطمعًا في الغنى والثراء. وهذا ولا شك كان له أكبر الأثر في شحذ الهمم للبحث والتحصيل، فجمع بذلك شيء كثير من الأدب الجاهلي، وربما كانت الرغبة في حسن الصيت وكثرة الغنى، سببًا في دفع بعض الرواة إلى الاختلاق كما رأينا في سيرة بعضهم، ولكن المتنافسين والعلماء والنقاد كانوا لأمثال هؤلاء بالمرصاد، وقد أوردنا أمثلة لذلك فيما سبق.

وتدوين النصوص الأدبية بالصورة التي وصلت إلينا بها الآثار الجاهلية تبدو فيها ظواهر كثيرة ترجع إلى عوامل شخصية أو نفسية أو عقلية أو وجهات نظر مختلفة لدى الأدباء أنفسهم، أو الرواة أو القائمين بالتدوين.

فمما لا شك فيه أن كل عملية من الحفظ والجمع والتدوين تخضع خضوعًا كبيرًا للذوق الشخصي، فكل فرد له ميول خاصة، وأهواء معينة، فهذا يميل إلى نوع، وذاك إلى آخر وهكذا، بحكم اختلاف الأشخاص في الشخصيات، والميول، والرغبات، ومن ثم نجد الرواة قد يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا في الكم والكيف، فقد يميل بعضهم إلى حفظ شيء معين، وبعضهم يميل إلى شيء آخر، وإن اتحدوا في النوع فقد يختلفون في الكم، فهذا يحب حفظ القطع الطويلة وذاك يحب المقطوعات القصيرة. ومع أن العرب كانوا يحرصون على الآثار الأدبية حرصهم على أعز الأشياء؛ لأنهم كانوا يعدونها من أهم الأشياء الضرورية لهم، فإننا مع ذلك نرى بعض القصائد فيها اختلاف بين الروايات بعضها وبعض، مما يدل على أن الرواة لم يكونوا يتفقون في حفظ القصائد، فنجد مثلًا قصيدة تروى طويلة في بعض الروايات وهي نفسها تروى في رواية أخرى قصيرة، وقد تجيء في رواية ثالثة أقصر من الأوليين، ويعلل بعضهم ذلك بأن النفس يبقى فيها ما ترى أنه أوثق اتصالًا بحالتها القائمة، وأصدق تعبيرًا عنها، أما بقية القصيدة مما لا يمت إلى نفس الذي يحفظها بسبب، فليست في حاجة إليه، ولذلك يكون مثل هذا الجزء أقرب إلى أن يضيع ويذهب أو ينسى من الذاكرة.

وإن النفوس تتباين، والبواعث على قراءة الأدب وحفظه وتدوينه مثل البواعث على

ص: 148

إنشائه وقوله، وتختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف الأحوال للشخص الواحد، ومعنى هذا أن المحفوظ من قصيدة مثلًا قد يختلف باختلاف حالات النفوس، وباختلاف الأفراد، وهذا قد يؤدي إلى أن يتفرق النص الأدبي في عدد من الناس، وقد يذهب من القصيدة أكثرها، ولذلك لا تبقى كلها مجتمعة متصلة الأجزاء، وإنما هي أشلاء متناثرة، تتلقفها أفواه حافظة، ويذهب كل بنصيبه حيث يحلو له، فإذا جاء بعد ذلك دور الجمع والدراسة، كان في لم شتاتها، وترتيب أجزائها ما لا يخفى من عسر، فضلًا عما قد يصيبها به ذلك التفرق من نقص واضطراب واختلاط وتداخل مع غيرها من القصائد التي تتفق معها في الوزن والقافية، وقد تكون القصيدة أو القصائد الأخرى لصاحب القصيدة نفسه، وقد تكون لغيره.

ولا شك أن تدوين ما لم يكن مدونًا من النصوص كان يتوقف على ما في ذواكر الحفاظ والرواة منه، والاعتماد على الذاكرة، مع مرور الزمن، وكثرة المحفوظ، يؤدي أحيانًا إلى حدوث اختلاف بين الرواة في ألفاظ النص الأدبي الواحد. والباحثون يرجعون ذلك إلى أحد الاحتمالات الآتية:

أن الراوي قد يعمد إلى البيت نطق به الشاعر على لغته، فيغير منه الكلمة إلى ما يوافق لغته هو، ما دام ذلك لا يغير من جوهر المعنى شيئًا.

أو أن الراوي قد تسقط منه بعض الكلمات على وجه النسيان، فيحاول أن يضع مكانها بديلًا عنها، وما كانوا يرون في ذلك من بأس ما دام الغرض الذي يرمي إليه الشاعر قائمًا، والمعنى الذي يقصده لم يتغير، والراوي عندما يقدم على ذلك إنما كان يستعمل ألفاظًا فصيحة مستعملة في التعبير الأدبي، ويبدو أن ذلك كان شائعًا ومعروفًا بين الشعراء والرواة، ولذلك نجد بعض الشعراء يطلب كتابة شعره، ولا يتركه للحفظ فقط، كما يروى عن ذي الرمة إذ قال لموسى بن عمرو:"اكتب شعري، فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ؛ لأن الأعرابي قد ينسى الكلمة التي تعبت في طلبها ليلة، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى، ولا يبدل كلامًا بكلام"26.

أو أن الشاعر، أو الأديب نفسه قد يكون ألقى نصه الأدبي على وجهين أو وجوه مختلفة في أوقات عدة، وقد يبدو له أن كلمة أليق، أو أحسن، أو تسقط من حافظته الكلمة التي أنشأ

26 العمدة: 1-250.

ص: 149

عليها النص في بادئ الأمر، ثم يتصادف أن يحملها عنه في كل مرة راوٍ أو رواة مختلفون، فيحمل كل منهم عنه ما سمعه منه، ويدعي صادقًا أن ذلك سمعه مشافهة من الأديب نفسه.

ويدعي بعض العلماء أن الرواة كانوا أحيانًا يقومون بتغيير بعض الألفاظ إذا رأوا فيما ورد عن الأديب خطأ كما يروى في بيت امرئ القيس:

فاليوم أشربْ غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل

فقالوا: حذف الإعراب، وليس بالحسن، وذهبوا إلى أنه يريد "أشرب" فحذف الضمة، ولذلك غيروه، فجعله بعضهم، "فاليوم فاشرب"، بصيغة الأمر27.

وفي قول عدي بن زيد:

ففاجأها وقد جمعت جموعاً

على أبواب حصن مُصْلتينا

فقددت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبًا ومَيْنا

فقالوا إن في قوله "مينا" سناد، ولذلك أراد المفضل الضبي أن يفر من هذا السناد فغيرها، وجعلها كذبًا مبينًا28.

فكأن الرواة كانوا يقومون بالإصلاح والتهذيب، بجانب مهمتهم الأساسية التي هي الحفظ والنشر. وإذا كان الأمر كذلك فيبدو أن الذي دفعهم إلى هذا هو حرصهم على صحة اللغة وجمالها.

وهناك ظاهرة واضحة في اختلاف الرواة في ترتيب أبيات القصائد الشعرية فرواية تحكيها بشكل معين، في حين أن أخرى تحكيها بشكل آخر، من حيث تقديم بعض الأبيات أو تأخيرها. وهذه الظاهرة ليس فيها شيء على الإطلاق، فلا تدل على تزوير ولا تحريف؛ لأنها كانت تروى عن الحافظة. والذاكرة عرضة لذلك دائمًا، وبخاصة إذا كان المحفوظ فيها كثيرًا، وقد يكون هناك الشيء الكثير من النوع الواحد، ولا ريب في أن مما ساعد على حدوث ذلك بشكل ملموس استقلال البيت الواحد، ووحدته التي قدسها الشاعر العربي والتزامها، وجعل الخروج عنها عيبًا في الشعر.

27 الموشح للمرزباني، ص85، وزعم قوم أن الرواية الصحيحة:"اليوم أسقي"وبذلك كان المبرد يقول. "العمدة: 2-274".

28 المرجع السابق ص22.

ص: 150

وفي بعض الأحيان نجد أن البيت أو البيتين أو الثلاثة تنسب لقائل مجهول، ويحدث ذلك غالبًا في الشواهد الشعرية، مما دعا الباحثين إلى الاعتقاد باختلاقها لتبرير رأي، وفي كثير من هذه الحالات يحاول الراوي أن يذكر أن القائل رجل أو أمراة، أو من قبيلة كذا.

وفي نسبة الأثر إلى صاحبه، قد يحدث خلط واضطراب، بسبب تشابه الأسماء، فهناك مثلًا أربعة أدباء كل منهم اسمه كثير، وعشرة كل منهم امرؤ القيس، وثمانية باسم النابغة، وستة عشر باسم الأعشى، وقد ألفت في ذلك كتب عديدة، منها: معجم الشعراء للمرزباني، والمؤتلف والمختلف للآمدي، وقد يحدث هذا اللبس بين أدباء القبيلة الواحدة مثل هذيل، إذ فيها عشرات من الشعراء فإذا قيل الهذلي بدون تعيين، لم يعرف أيهم المقصود.

ولذلك كثيرًا ما كانوا يضيفون الشعر المجهول النسب إلى شاعر اشتهر بقوله في الغرض الذي فيه النص، وفي ذلك يقول الجاحظ:"ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل، قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعرًا هذا سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح 29، كما أنهم نسبوا إلى عنترة العبسي كل شعر حوى اسم عبلة".

هذه هي أهم الظواهر التي نراها في تدوين الأدب الجاهلي، ولكن مهما يكن، فإن الرواة قد قاموا بمهمة جليلة، إذ حفظوا لنا هذا التراث الرائع. والرواية الشفهية -وإن ضاع بسببها شيء كثير، بسبب كثرة المحفوظ فيها وتزاحمه، مع تقادم الزمن، واختلاف الميول والأهواء- فقد كان لها الفضل الأكبر في تنقل هذا التراث من جيل إلى جيل، صحيحًا سليمًا في النطق والأداء والتلقي، بعيدًا عن التحريف والتصحيف، كما أن الرواة الذين قاموا بتدوين هذا التراث قد أدوا للأجيال التالية لهم وللأدب نفسه خدمات عظيمة الشأن، فقد حفظوا هذه الكنوز من الضياع وسط تيارات الحياة المضطرمة، ومشاغلها المعقدة المتشابكة التي تلت أيام هؤلاء الحفظة الأفذاذ، فسجلوها في بطون الكتب، فظلت خالدة، وما بقي منها إلى اليوم يعتبر من أمهات المراجع للأدباء والعلماء والباحثين، وإنه لمما يؤسفنا أشد الأسف أن كثيرًا مما دونه هؤلاء الرواة والعلماء في عصر التدوين قد ضاع بسبب عوادي الزمن والاضطرابات السياسية ونهب المراكز الحضرية على يد المغول. ومما بقي لنا من آثار العلماء الأجلاء نجد أنهم بذلوا مجهودًا ضخمًا في الجمع والتدوين، والدرس والبحث، وتمييز

29 الأغاني جـ2 ص8.

ص: 151

الصحيح من الزائف، فأبعدوا النصوص المشبوهة المتهمة، ونصوا عليها، وأوصلوا إلينا -بفضل جهودهم المشكورة- قدرًا عظيمًا من الآثار الأدبية الجاهلية الصحيحة، التي لا يرقى إليها الشك. والكتب الأدبية تفيض بالأمثلة لكل هذا، وهي تشهد لهم بالجهد الكبير، والفضل العظيم.

ص: 152