الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طبيعتها أو أخلاقها ما يغضب الآخرين، بل كل أفعالها، وأقوالها، وأخلاقها محمودة فأحبها جميع الناس، وهي تمتاز بالحياء الكامل فهي في غاية الحشمة والأدب، إذا مشت لا تكون متبهرجة ولا متبرجة، فتحافظ على قناعها، ولا تتلفت في أي اتجاه، وهي كريمة تؤثر جيرانها على نفسها، وتحافظ في إهدائها على كرامة من تقدم له الهدية، فتقدم أعز ما لديها لجارتها، في وقت لا يراها فيه أحد، وبيتها كله طهارة وشرف، فهي تتصف بالعفة والنقاء، وفي منتهى البعد عن أدنى شبهة أو ظن، ويبدو حياؤها واضحًا في مشيها، فهي إذا مشت، لا تنظر إلا أمام قدمها، كأنها من شدة حيائها تبحث عن شيء ضاع منها، ولا تتحدث عن زوجها إلا بكل ما يصوره عظيمًا كريمًا. وسيرتها حلوة، ودرجتها عالية بين قريناتها، وهي في معاملتها لزوجها في منتهى الكمال، لا تبرح بيتها إلا بعلمه، وتتحرى ما يرضيه ويسره، وتعامله في غيبته كما لو كان موجودًا، وعند عودته إليها يعود وقلبه متلهف لرؤيتها؛ لأنه يحس السعادة الحقيقة في وجوده معها، وقد قال الأصمعي: هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن.
في الحياة والناس:
وبجانب هذه الأغراض الشعرية التي سبق بيانها، كانت هناك مجالات واسعة للشعر الجاهلي في نواحي الحياة وأحوال الناس المختلفة، ومن أشعارهم في هذه المجالات تتبين بوضوح ظروفهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم، وصلاتهم ومعاملاتهم، وما ينزل بهم من أحداث، وما يحسونه من متاعب وآلام، وما يرجونه من آمال وأحلام، وما يجول بخواطرهم من أفكار، وما يدور بجوانحهم من نظريات وآراء، وما يرون فيه الخير من توجيهات وإرشادات.
وقد سبق أن ذكرنا في أكثر من موضع، أن السمة الغالبة على شبه الجزيرة العربية في ذلك العصر القحط والجدب بسبب الجفاف، فانتشر الفقر والجوع، ولهذا كان تقديم الطعام والشراب للجائع والعطشان من أعظم المكرمات في ذلك الحين، إذ ليس هناك أعظم قدرًا لدى الإنسان مما يحفظ عليه حياته وينقذه من براثن الموت والهلاك، ومن ثم افتخروا ومدحوا بالكرم والجود والسخاء وإكرام الضيفان، وذموا وهجوا بالبخل والشح والحرص. ولأن جزيرتهم كانت صحراء واسعة الأرجاء مترامية الأطراف، وسكانها متباعدون
قليلون، وفيها الأعداء من الحيوان والإنسان، فيها اللصوص وقطاع الطرق والمغيرون، والحيوانات الضارية والمفترسة فخيم عليها الرعب والرهبة، وكان يتملك السائر فيها الخوف والفزع، فكانوا لهذا يفخرون ويمدحون بتلبية الداعي، وإغاثة المستغيث، ونجدة المكروب، وحماية اللاجئ، وتأمين الخائف، ومد يد العون عن طيب خاطر وسرور للضعفاء والمحتاجين.
ومما قيل في تصوير الفقر والبؤس بين الجاهليين ما جاء في أبيات للمزرد474 يتحدث فيها عن صياد يعيش في شقاء، له أكلب هزيلة، وعيال جياع، وليس في بيته شيء، ولا يجد ما يسد رمقه، فأخذ يطوف بأصحابه لعله يجد عندهم شيئًا من القوت، ولكن خاب أمله، وسدت أمامه جميع الطرق، حتى أعيته الحيل، فعاد إلى بيته وكان فيه صبية في غاية الهزال من الجوع، وامرأته الحمقاء السليطة اللسان، فقال لها: هل لديك طعام، ثكلتك أمك!! فإني لم أجد في الناس خيرًا. فقالت له: نعم، هذا البئر وماؤه، وهذا الجلد اليابس المحترق. فسقط من الإعياء والضعف، وجر على جسمه بقايا ثوبه يحاول أن ينام، ولكن النوم استعصى عليه فقد طرده عنه ما استولى عليه من الهم والغم وضيق النفس. وذلك في قوله:
فعد قريض الشعر إن كنت مغزرًا
…
فإن غزير الشعر ما شاء قائل475
لنعت صباحيٍّ طويل شقاؤه
…
له رقميات وصفراء ذابل476
بقين له مما يبرى، وأكلب
…
تقلقل في أعناقهن السلاسل477
سحام ومقلاء القنيص وسلهب
…
وجدلاء والسرحان والمتناول478
بنات سلوقيين كانا حياته
…
فماتا فأودى شخصه فهو خامل479
474 المفضلية رقم 17، ب63-74.
475 عد: اصرف وتجاوز. المغزر: مأخوذ من الغزر، وهو الكثرة، يريد مكثر القول. ما شاء قائل: أي أن الشاعر المكثر يقول ما شاء، لا يستعصي عليه.
476 صباحي: رجل من بني صباح، بضم الصاد، كان ضيفًا له، وكان صائدًا، رقميات: سهام منسوبة إلى صانع، أو إلى بلد. الصفراء: القوس. الذابل: التي قطع عودها وطرحت في الشمس حتى ذبلت.
477 يبرى: من برى السهام.
478 جمع في هذا البيت أسماء كلاب الصباحي الستة.
479 السلوقية: كلاب تنسب إلى سلوق، قرية باليمن.
وأيقن إذ ماتا بجوع وخيبة
…
وقال له الشيطان إنك عائل480
فطوف في أصحابه يستثيبهم
…
فآب وقد أكدت عليه المسائل481
إلى صبية مثل المغالي وخرمل
…
رواد، ومن شر النساء الخرامل482
فقال لها: هل من طعام فإنني
…
أذم إليك الناس، أمك هابل483
فقالت: نعم، هذا الطوي وماؤه
…
ومحترق من حائل الجلد قاحل484
فلما تناهت نفسه من طعامه
…
وأمسى طليحًا ما يعانيه باطل485
تغشى، يريد النوم، فضل ردائه
…
فأعيا على العين الرقاد البلابل486
ومع انتشار الفقر والبؤس بين الجاهليين، فإن الواحد منهم كان إذا نزل به ضيف بذل كل ما في وسعه ليقدم له القرى ويوفر له جميع أسباب الراحة والاطمئنان، وعند ذلك يشعر المضيف بسعادة غامرة ورضا نفسي عميق.
ومن خير ما ورد في هذا أبيات منسوبة إلى الحطيئة يصف فيها حال أعرابي فقير يعيش في عزلة ويشد الخرق على بطنه من الجوع، ومعه زوجه وأولاده، حفاة عراة، في غاية الهزال، كأنهم أشباح، وفاجأه ضيف فانتابه الهم والضيق والألم لأنه لا يوجد قرى له، فهم أن يذبح ابنه حتى لا يسيء الرجل الظن به، ثم فرج الله كربته بصيد سمين، فغمرته الفرحة والبهجة، وباتوا جميعًا في سعادة، لما قاموا به من واجب الضيافة.
480 عائل: من "عال يعيل" افتقر، أو من "عال يعول" كثر عياله.
481 يستثيبهم: يطلب ثوابهم ونائلهم. أكدت: امتنعت، يقال حفر الحافر فأكدى، إذ بلغ كدية، وهو الصلب من الأرض.
482 المغالي: سهام لا نصال لها يغلى بها في الهواء، أي يرمى بها لتبلغ الغاية يريد أن صبيانه في ضعفهم وسوء حالهم وتحولهم مثل هذه السهام. ويقال: بل أراد أنه لا نفع عندهم ولا عون على أنفسهم، كما لا يصاد بهذه السهام ولا ينتفع بها. الخرمل: الحمقاء. الرواد: الطوافة في بيوت جاراتها ولا تقعد في بيتها لشرها.
483 هابل: من قولهم "هبلته" أي فقدته.
484 الطوي: البئر. الحائل: الذي قد أتى عليه حول. ويقال أيضا للمتغير حائل. القاحل: اليابس.
485 طليحًا: من الطلح والطلاحة، وهو الإعياء والضعف."ما" هنا نافية. يريد أنه سهر للجوع ولم يسهره باطل أي الذي به جد من الجوع.
486 البلابل: هماهم صدره. أي أعيت بلابل صدره على عينيه أن ينام.
وطاوي ثلاث، عاصب البطن، مرمل
…
ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما487
أخي جفوة، فيه من الأنس وحشة
…
يرى البؤس فيها من شراسته نعمى 488
وأفرد في شعب عجوزًا إزاءها
…
ثلاثة أشباح تخالهم بهمًا 489
حفاة، عراة، ما اغتذوا خبز ملة
…
ولا عرفوا للبر، مذ خلقوا، طعمًا490
رأى شبحًا، وسط الظلام، فراعه
…
فلما بدا ضيفا، تهيأ واهتما491
فقال ابنه، لما رآه بحيرة
…
أيا أبت اذبحني! ويسر له طعما
ولا تعتذر بالعدم، علَّ الذي ترى
…
يظن لنا مالا، فيوسعنا ذما492
فروى قليلًا، ثم أحجم برهة
…
وإن هو لم يذبح فتاه، فقد هما493
وقال: هيا رباه، ضيف ولا قرى!
…
بحقك، لا تحرمه تا الليلة اللحما494
فبينا هما، عنت على البعد عانة
…
قد انتظمت من خلف مسحلها نظما495
487 الطاوي: الجائع. ثلاث: أي ثلاث ليال. عاصب البطن: الذي يتعصب بالخرق، ويشدها على بطنه من الجوع. مرمل: محتاج. بيداء: صحراء. الرسم: ما بقى بالأرض من آثار الدار، أي هو في مفازة لم ينزل بها أحد.
488 الجفوة: غلظ الطبع. والأنس. ألفة البيوت وهو ضد الوحشة: أي النفور. البؤس: الشدة فيها. الضمير للبيداء والمعنى: هو رجل عنيف الطباع. محب للعزلة، لا يألف الناس، يرى الوحدة في هذه الصحراء نعيمًا وسعادة، لشدة نفوره من الخلق.
489 الشعب: الطريق في الجبل. البهم: جمع بهمة. ولد الضأن والماعز؛ شبههم بها لهزالهم.
والمعنى: وسكن مع زوجته وأولاده الذين يشبهون الأشباح.
490 الملة: الرماد الحار. البر: القمح.
هؤلاء الأولاد حفاة الأقدام، عراة الأجسام، لم يأكلوا القمح طول حياتهم.
491 راعه: أفزعه. رأى شبحًا في الظلام مقبلًا عليه، فخاف، إذ يجوز أن يكون عدوًّا فاتكًا يقصده بسوء، فلما وجده ضيفًا، استعد للقائه وإكرامه.
492 العدم: الفقر يقصد أن يقول: لا تعتذر له بالفقر، فلعله يظن أننا أغنياء ونبخل عليه بالطعام، فيذمنا بين الناس.
493 روى: سكت مفكرًا. أحجم: امتنع. برهة: لحظة. هم: حاول أن يفعل.
494 هيا: حرف نداء. القرى: طعام الضيف، تا الليلة: هذه الليلة. دعا الرجل ربه أن يرزقه ما يكرم به ضيفه.
495 عنت: عرضت. العانة: إناث الحمر الوحشية. المسحل: الحمار الوحشي. انتظامها من خلفه: انضمامها إليه، وقربها منه.
وبينما هو في حيرة مع ولده، إذا أقبل عليهما قطيع من حمر الوحش، يسير صفًّا منتظمًا وراء قائده.
عطاشًا تريد الماء، فانساب نحوها
…
على أنه منها إلى دمها أظما496
فأمهلها حتى تروت عطاشها
…
فأرسل فيها من كنانته سهما497
فخرت نحوص، ذات جحش، سمينة
…
قد اكتنزت لحمًا، وقد طبقت شحما498
فيا بشره إذ جرها نحو أهله
…
ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدمى499
فباتوا كرامًا قد قضوا حق ضيفهم
…
ولم يغرموا غرما، وقد غنموا غنما500
وبات أبوهم من بشاشته أبًا
…
لضيفهم، والأم من بشرها أما501
وهذه الأبيات تصور ما كان يعانيه الجاهليون سكان الصحراء من فقر وبؤس وجوع، وما كانوا يتمسكون به -مع هذا- من التفاني الشديد في إكرام الضيف مهما كانت حالتهم، ففي القيام بهذا الواجب سعادة كبيرة وسرور عظيم.
ولهذا كانوا يلبون نداء المكروب، ويحسنون استقبال النازلين، وبخاصة من كان في حاجة إلى رعاية وعناية، كمن يضل في الصحراء، أو تسوء ظروفه وأحواله، ومن أحسن ما ورد في ذلك قول عمرو بن الأهتم في رجل ضل الطريق ليلًا502:
ومستنبح بعد الهدو دعوته
…
وقد حان من نجم الشتاء خفوق503
يعالج عرنينًا من الليل باردًا
…
تلف رياح ثوبه، ويروق504
496 انساب: سار إليها بهدوء على أطراف أصابعه، من غير أن يحدث صوتًا. أظما: أشد ظمأ، وكان القطيع يسير إلى الماء، ليرتوي، فسار الرجل إليه، وهو أشد ظمأ إلى دمائه، متلهفًا على اقتناص شيء منه.
497 تروت: ارتوت. الكنانة: جعبة السهام التي توضع فيها. انتظر الرجل حتى شربت الحمر، ثم أطلق من كنانته على واحد منها سهمًا.
498 خرت: سقطت. النحوص: الأتان الوحشية. اكتنزت: امتلأت. طبقت شحمًا: أي امتلأت بالشحم.
499 فيا بشره: فما أعظم سروره. كلمها: جرحها. يدمى: يسيل دمه.
500 وباتوا سعداء بما قاموا به من واجب الضيافة، وما خسروا في ذلك شيئًا. وإنما كسبوا ثناء الضيف العاطر.
501 وقد شعر الضيف بأنه بين أبويه يمنحانه العطف. ويغدقان عليه حسن المعاملة ويبشان له، ويهشان في وجهه.
502 المفضليات ص126.
503 المستنبح: الرجل الذي يضل الطريق ليلًا فينبح لتجيبه الكلاب إن كانت قريبًا منه، فإذا أجابته تبع أصواتها، فأتى الحي، فنزل عندهم ضيفًا. النجم"هنا": الثريا، وذلك لأنها تخفق للغروب في جوف الليل.
504 العرنين: الأنف، والمراد به هنا أول الليل. وبروق: أي كان البرق يلمع بكثرة.
تألق في عين من المزن وادق
…
له هيدب داني السحاب دفوق505
أضفت فلم أفحش عليه ولم أقل
…
لأحرمه: إن المكان مضيق506
فقلت له أهلًا وسهلًا ومرحبًا
…
فهذا صبوح راهن وصديق507
وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت
…
مقاحيد كوم كالمجادل روق508
بأدماء مرباع النتاج كأنها
…
إذا عرضت دون العشار فنيق509
بضربة ساق أو بنجلاء ثرة
…
لها من أمام المنكبين فتيق510
وقام إليها الجازران فأوفدا
…
يطيران عنها الجلد وهي تفوق511
فجر إلينا ضرعها وسنامها
…
وأزهر يحبو للقيام عتيق512
بقير جلا بالسيف عنه غشاءه
…
أخ بإخاء الصالحين رفيق513
فبات لنا منها وللضيف موهنًا
…
شواء سمين زاهق وغبوق514
وبات له دون الصبا وهي قرة
…
لحاف ومصقول الكساء رقيق515
505 تألق: تلمع. أي البروق. عين: مطر أيام لا يقلع. المزن: السحاب الأبيض. الوادق: الداني من الأرض. هيدب: شيء يتدلى من السحاب مثل الهدب.
506 أضفت: أنزلته ضيفًا مكرمًا. لم أفحش: لم أقابله بسوء.
507 الصبوح: الشرب في الصباح. الراهن: الدائم الثابت.
508 البرك: إبل الحي كلهم. الهواجد: النيام. والهادج من الأضداد، يقال للنائم، ويقال للمتيقظ بالليل المتهجد بالقراءة والصلاة. فاتقت: تحاشت وتباعدت الشر عنها، أي جعلت بيني وبينها الأدماء التي في البيت التالي. مقاحيد: إبل عظام الأسنمة.
الكوم: جمع كوماء وهي الناقة الضخمة. المجادل جمع مجدل وهو القصر. روق: خيار.
509 الأدماء: البيضاء. مرباع النتائج: يكون نتاجها في أول الربيع. وذلك أقوى لولدها. العشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي مضى عليها من لقحها عشرة أشهر، فنيق: فحل، شبه هذه الأدماء بها لعظمها، والمعنى أن هذه الإبل اتقت العقر عنها بهذه الناقة التي كانت أكرمهن وأفضلهن لقرى الضيف فكأنها كانت الواقية للأخريات.
510 بضربة ساق: قطع عراقيبها بسيفه. نجلاء: طعنة واسعة. ثرة: واسعة مخرج الدم. الفتيق: يريد أنه طعنها في لبتها، وهي أمام منكبيها.
511 أوفدا: ارتفعا، أي علوا عليها لعظمها. تفوق: تجود بنفسها.
512 الأزهر: الأبيض، يريد ولدها. عتيق: كريم. يريد أنه نحر أحسن الإبل عنده وهي العشراء.
513 بقير: مشقوق عنه غشاؤها، صفة الأزهر.
514 موهنا: بعد وقت من الليل قريب من نصفه. الزاهق: الذي ليس بعد سمنه سمن. غبوق: شراب المساء.
515 دون الصبا: دون ريح الصبا. قرة: باردة.
وكل كريم يتقي الذم بالقرى
…
وللخير بين الصاحلين طريق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
…
ولكن أخلاق الرجال تضيق
فهذه الأبيات تبين لنا كيف كان السائر في الصحراء ليلًا يتصرف إذا ضل الطريق، وساءت به الظروف، لقد كان ينبح كما ينبح الكلب لتجيبه الكلاب بالنباح، فيعرف مكانها، وهي لا تكون إلا مع أصحابها فيذهب إليهم، وينزل عليهم ضيفا، والشاعر هنا يروي كيف كان العربي يعامل هذا النزيل في مثل هذه الحال، لقد كان صاحب البيت يقابله بالبشاشة والترحاب وينزله منزلًا جميلًا، كأنما يعيش في بيته، ووسط أهله وعشيرته، وفي الحال يذهب إلى أكرم إبله فيذبحه، ويهيئ لضيفه طعامًا شهيًّا. ويقضي معه السهرة في سمر حلو جميل، ويشعره أنه أخ وحبيب، فإذا أراد النوم، أعد له فراشًا وثيرًا، دافئًا. وجهز له ما يقدم له في الصباح وفي المساء من طعام وشراب. ثم يعقب الشاعر على ذلك بأن الخير دائمًا موجود، ويستطيع كل من يريد الخير أن يفعله، والعاقل الكريم، هو الذي يتحاشى ذم الناس، بفعل الخير، وذلك لن يكلفه كثيرًا، فطريق الخير سهلة ويسيرة، وليس هناك ما يؤلم الإنسان أكثر من سوء الأخلاق.
وفي وصف لمجلس من مجالس اللهو والمرح بين صحبة يجمعهم الحب والإخاء، يقول ثعلبة بن صعير المازني516:
أسمي ما يدريك أن رب فتية
…
بيض الوجود ذوي ندى ومآثر517
حسني الفكاهة لا تذم لحامهم
…
سبطي الأكف، وفي الحروب مساعر518
باكرتهم بسباء جون ذارع
…
قبل الصباح وقبل لغو الطائر519
فقصرت يومهم برنة شارف
…
وسماع مدجنة وجدوى جازر520
516 المفضليات ص130 ب15 - 19.
517 ندى: كرم. مآثر: مفاخر وأمجاد.
518 لحامهم: جمع لحم، أي لا تذم لسخائهم، وإن قراهم معد حاضر. السبط: المرسل، والمراد أن أيديهم سخية، أي هم كرام. مساعر: جمع مسعر وهو الذي يسعر الحرب أي يوقدها.
519 سباء: اشتراء الخمر. جون: أسود. أراد به زق الخمر. ذارع: كثير. لغو الطائر: صياحه.
520 شارف: ناقة مسنة. ورنتها: صوتها عند النحر. سماع مدجنة: سماع قينة تغني في يوم الدجن وهو اليوم الكثير الغيم، والسماع واللذة يوم الدجن أطيب منه في غيره. جدوى: عطية، أراد ما يتحفهم به الجازر من أطايب الطعام.
حتى تولى يومهم وتروحوا
…
لا ينثنون إلى مقال الزاجر521
فهو في قراهم وإكرامهم، قد جمع كل نواحي المتعة والسرور، من شراب وطعام وغناء.
ولئن رأينا في أبيات الشنفرى السابقة صورة للمرأة المثالية، في خَلقها وخُلقها، وطباعها، وعادتها، ومعاملتها لزوجها، فإن الحياة تجمع الخير والشر، وفيها الوفاق والشقاق، كما أن فيها الوئام والخصام، وفي أبيات لعلباء بن أرقم بن عوف، نرى صورة لحياة زوجية لم تكن سعيدة دائمًا، إذ يقول522:
ألا تلكما عرسي تصد بوجهها
…
وتزعم في جاراتها أن من ظلم
أبونا، ولم أظلم بشيء عملته
…
سوى ما ترين في القذال من القدم523
فيوما توافينا بوجه مقسم
…
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم524
ويومًا تريد مالنا مع مالها
…
فإن لم ننلها لم تنمنا ولم تنم
نبيت كأنا في خصوم عرامة
…
وتسمع جاراتي التألي والقسم525
فقلت لها أن لا تناهي فإنني
…
أخو النكر حتى تقرعي السن من ندم526
لتجتنبنك العيس خنسًا عكومها
…
وذو مرة في العسر واليسر والعدم527
فهو هنا يشكو من زوجته ويصف حياتهما بأنها مضطربة لا يسودها الوفاق والانسجام، ويذكر أن زوجته كثيرة الادعاء والشكوى، وتتحدث مع جاراتها بأن حظها سيّئ، وأن
521 تروحوا: عادوا إلى منازلهم. لا ينثنون: لا يسمعون ولا يتأثرون. الزاجر: يقصد الحاسد الحقود.
522 الأصمعيات، ص157 ب:1-7.
523 القذال: جماع مؤخر الرأس من الإنسان والفرس فوق فأس القفا.
524 مقسم: من الأقسام، وهو الجمال والحسن، ووجه مقسم: جميل كله، كأن كل موضع منه قسم من الجمال.
تعطو: تتناول، يتعدى بنفسه وبالحرف. السلم: ضرب من شجر البادية يعظم وله شوك، واحدته سلمى.
525 خصوم: جمع خصم أي جماعة يختصمون، العرامة: الشراسة والأذى، التألي: الحلف والقسم.
526 تناهي: تكفي وتقلعي. النكر: الدهاء والفطنة.
527 العيس: الإبل البيض التي يخالط بياضها شيء من الشقرة. العكوم: الأحمال والأعدال التي فيها الأوعية من صنوف الأطعمة والمتاع. والخنس: جمع أخنس وخنساء. والخنس في الأنوف انحناؤها؛ وصف به العكوم لامتلائها وانحنائها. مرة: قوة، يقصد ذو عقل وقوة وأصالة، يعني بذلك نفسه.
زواجها كان ظلمًا، وهي متقلبة في معاملتها له، فيومًا تقبل عليه بوجه جميل باسم، وجبين مشرق ناضر، ويومًا تأتي عابسة الوجه، مقطبة الجبين، مشتطة في طلباتها المالية؛ لحاجاتها الخاصة وحدها، فإن لم يعطها ما تطلب، انقلبت إلى ثورة، وهياج، وصراخ وعراك، وأيمان، فتطير النوم عنه وعنها، ويملأ ضجيجها وقسمها وأصواتها النابية بيوت الجارات، فحذرها، في صرامة وجد، بأنها إن لم تنته عما هي فيه، فسوف تندم ندامة لا تفارقها وتحرم من كل خير وسعادة طوال حياتها.
وفي العشيرة الواحدة قد تحدث الخصومات والمشاجرات بين أبناء العمومة، فتثور النفوس، وتضطرب المشاعر، ويتصارع ما تستوجبه القرابة من حب ومودة، وما تدعو إليه من إخاء وتعاون، مع ما تحدثه الخصومة من تباغض وفرقة، وما تستدعيه من وعيد وتهديد. وفي هذا يقول ذو الأصبع العدواني528:
ولي ابن عم على ما كان من خلق
…
مختلفان فأقليه ويقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا
…
فخالني دونه بل خلته دوني529
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
…
عني، ولا أنت دياني فتخزوني530
ولا تقوت عيالي يوم مسغبة
…
ولا بنفسك في العزاء تكفيني
فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي
…
فإن ذلك مما ليس يشجيني531
ولا يرى في غير الصبر منقصة
…
وما سواه فإن الله يكفيني
لولا أياصر قربى لست تحفظها
…
ورهبة الله فيمن لا يعاديني532
إذا بريتك بريًا لا انجبار له
…
إني رأيتك لا تنفك تبريني
إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها
…
إن كان أغناك عني سوف يغنيني
528 المفضلية رقم 31.
529 أزرى به: عابه. شابت نعامتنا: تفرق أمرنا.
530 لاه ابن عمك: أراد: لله ابن عمك.
531 يشجيني: يحزنني.
532 في الأمالي وبعض النسخ "أواصر" بالواو بدل الياء، وفي منتهى الطلب بالروايتين. والأواصر: جمع آصرة، وهي ما عطفك على رجل من رحم أو قرابة أو صهر أو معروف. والأياصر: جمع أيصر، حبل صغير يشد به أسفل الخباء، وأراد به هنا حبل القرابة.
الله يعلمني والله يعلمكم
…
والله يجزيكم عني ويجزيني
ماذا علي وإن كنتم ذوي رحمي
…
ألا أحبكم إذ لم تحبوني
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم
…
ولا دماؤكم جمعًا ترويني
ولي ابن عم لو أن الناس في كبد
…
لظل محتجزًا بالنبل يرميني533
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
…
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
درم سلاحي فما أمي براعية
…
ترعى المخاض، وما رأيي بمغبون 534
إني أبي أبي ذو محافظة
…
وابن أبي أبي من أبيين
لا يخرج القسر مني غير مأبية
…
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
عف ندود إذا ما خفت من بلد
…
هونًا فلست بوقاف على الهون535
كل امرئ صائر يومًا لشيمته
…
وإن تخلق أخلاقًا إلى حين
إنى لعمرك ما بابي بذي غلق
…
عن الصديق ولا خيري بممنون
وما لساني على الأدنى بمنطلق
…
بالمنكرات، وما فتكي بمأمون
عندي خلائق أقوام ذوي حسب
…
وآخرون كثير كلهم دوني
وأنتم معشر زيد على مائة
…
فأجمعوا أمركم شتى فكيدوني
فإن علمتم سبيل الرشد فانطلقوا
…
وإن جهلتم سبيل الرشد فائتوني
يا عمرو لو لنت لي ألفيتني بشرًا
…
سمحا كريما أجازي من يجازيني
والله لو كرهت كفي مصاحبتي
…
لقلت إذ كرهت قربى لها: بيني
وقد تقع الواقعة بين الأسرة الواحدة، فتشغل بالهم، وتقض مضجعهم وقد تفرق شملهم، وتورث العداوة والبغضاء بينهم، كما حدث بسبب ناقة البسوس، إذ قتل جساس بن مرة كليبًا زوج أخته جليلة536.
قالوا: لما قتل كليب اجتمع نساء الحي للمأتم فقلن لأخت كليب: رحلي جليلة عن مأتمنا فإن
533 الكبد بفتح الباء: الشدة والمشقة. المحتجز: الذي يشد وسطه بثوب أو نحوه.
534 درم: جمع أدرم، وهو المستوي، أراد جودة سلاحه.
535 ندود: شرود نفور.
536 الأغاني حرب البسوس.
قيامها فيه شماتة وعار عند العرب، فقالت لها يا هذه اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا، وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهي تجر أعطافها، فلقيها أبوها مرة فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد وحزن الأبد، وفقد خليل، وقتل أخ عن قليل، وبين ذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد، فقال لها أبوها: أويكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات؟ فقالت:
أمنية مخدوع ورب الكعبة، أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربها؟ قالوا: ولما رحلت جليلة. قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويل غدا لآل مرة من الكرة بعد الكرة، فبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها، وترقب وترها. أفلا قالت: نفرة الحياء. وخوف الاعتداء.
ثم أنشأت تقول "وهو من أبرع ما قيل في معناه":
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا
…
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت الذي
…
يوجب اللوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على
…
شفق منها عليه فافعلي
جل عندي فعل جساس فيا
…
حسرتي عما انجلت أو تنجلي
فعل جساس على وجدي به
…
قاصم ظهري ومدن أجلي
يا قتيلًا قوض الدهر به
…
سقف بيتي جميعًا من عل
هدم البيت الذي استحدثه
…
وانثنى في هدم بيتي الأول.
يا نسائي دونكن اليوم قد
…
خصني الدهر برزء معضل
خصني قتل كليب بلظى
…
من ورائي ولظى من أسفل
ليس من يبكي ليوميه كمن
…
إنما يبكي ليوم مقبل
يشتفي المدرك بالثأر وفي
…
درك ثأري ثكل لمثكل.
إنني قاتلة مقتولة
…
ولعل الله أن يرتاح لي
وفي قتال الأقارب بعد الحلم والصبر عليهم يقول الفند الزماني537:
537 الفند من فرسان ربيعة المشهورين شهد حرب بكر تغلب وقد قارب المائة سنة وهذه الأبيات من قصيدة قالها في حرب البسوس التي كانت بينهما وذلك أن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة في حرب البسوس يستنصرونهم فأمدوهم به وبقومه بني زمان وعدادهم في بني حنيفة.